المقالات النقدية

مؤتمرات الفلسفة والاغتراب الفلسفيّ

جريدة عمان، الثّلاثاء 13 ذو القعدة 1445هـ/ 21 مايو 2024م

عاشت الفلسفة ردحا من الزّمن في اغتراب ماورائيّ، شغلت الإنسان عن واقعه وسنن الطّبيعة، فكانت علّة الوجود الأولى أخذت حيّزا كبيرا من رؤيته وتفلسفه، ثمّ الإغراق في كشف صفاته وعلاقته بالمتناهي، وهل هو خارج عنه أو فيه أو هو ذات سننه ووجوده، حينها كان التّفلسف في معرفة الذّات والآخر والوجود ثمّ اللّامتناهي ما يبرره، حتّى جاء عصر الأنوار، فنقل الإنسان إلى البحث في الذّات والطّبيعة من خلال ما يصلح الإنسان في هذا الوجود، ومن خلال علوم مختلفة نشأت عنها، كالأخلاق والدّولة والدّستور وحقوق الإنسان والجمال والنّظام وقيمه الكبرى، فلم يعد العدل مثلا في اغترابه الماورائيّ، بل أصبح لصيقا بالإنسان كقيمة كبرى في علاقته مع ذاته والآخر، من الأسرة إلى نظام العمل والدّولة.

ومن يحضر بعض مؤتمرات الفلسفة في عالمنا العربيّ يجد عناوين كبرى تلامس الواقع المعيش، وهذا شيء حسن، بيد أنّه يجد العديد من ورقات المؤتمر لا تريدك أن تخرج من اغترابات اليونان أو العهد الوسيط، أو حتّى اغترابات المصطلحات المعاصرة، فتعيش في اغتراب آخر يماثل الاغتراب الماوارائيّ، وبعض الأوراق أشبه بقاموس أسماء الفلاسفة، وكأنّه يستحضر أنّه يحفظ عشرات الأسماء وطرقهم الفلسفيّه، وبعض الأوراق لا تتجاوز “تهافت الفلسفة” “وتهافت التّهافت”، فأصبحت الفلسفة أقرب إلى جدليّات يربط الواقع بها لا أن تربط بالواقع، ويرهن الحاضر بظرفيّتها لا أن ترهن بظرفيّة الواقع، فهناك من يلبس لباس الفلسفة المعاصرة، لكنّه لا يتجاوز اغترابات المصطلحات الفلسفيّة وعلماء الفلسفة والجدليّات العلليّة البعيدة عن الواقع المعيش.

لست هنا في موقع الحجر في دراسة المباحث الفلسفيّة الماضويّة والمعاصرة، ولكنّي أجد عناوين كبرى في مؤتمرات فلسفيّة ترتبط بواقع الإنسان المعاصر، من الذّات والمجتمع وحتّى العلاقات الدّوليّة، ومن البيئة والحدود القطريّة إلى الطّبيعة والعالم الأوسع، لتبحث في مشكلاته، وتسعى لإحداث حلول لواقعه، في شيء من التفلسف والتّعقل والبحث والنّظر، لكنّك لا تخرج في الجملة عن نسخ ولصق ما يقال في هذا المؤتمر، هو ذاته ما سيقال في مؤتمر آخر، من جدليّات المشائين والوراقين، إلى جدليّات العصر الوسيط، مع ربطها بنظريّات فلسفيّة معاصرة، أكثر من كونها إبداعا ذاتيّا، فتضعف التّجربة الذّاتيّة في محاولة علاج القضايا البشريّة والطّبيعيّة والوجوديّة المعاصرة، بشيء من الإبداع والتّفلسف الذّاتيّ، وليس الاغتراب في المصطلحات والرّموز والعلل الفلسفيّة الّتي تجدها بسهولة في قواميس وكتب الفلسفة، خاصّة عن طريق التّقنيات المعاصرة.

ومثيل هذا ما تجده في بعض المؤتمرات الفقهيّة، فتضع عناوين معاصرة، لقضايا اجتماعيّة أو اقتصاديّة أو سياسيّة في واقعنا الرّاهن، بتعقّده وفلسفاته، وبتداخل نظريّاته، ولكنّ أوراقها أو بعضها لا تتجاوز تفكير عهد السّلف بنصوصه ومرويّاته، وإن تجاوزت إلى عصر المقاصد بكليّاته الخمس أو السّت، فتكون رهين تلك اللّحظات التّأريخيّة، وتريد أن تضيّق العالم الواسع وتختزله في تفكير ماضويّ له ظروفه وأسبابه ومشاكله الزّمكانيّة الخاصّة به، فيرتفع الإبداع في مناقشة قضايا الواقع الرّاهن.

ومقصدي هذا أنني لست ضدّ دراسة المباحث الفلسفيّة الماضويّة والمعاصرة، في جوّها الموضوعيّ والتّقنيّ البحت، فهذه حالة ليست سيئة، كما أنني لست ضدّ دراسة المفاهيم الفقهيّة والأصوليّة والكلاميّة في جوّها المعرفيّ الموضوعيّ والتّقنيّ الخاصّ بها، ولكن أن نضع عناوين معاصرة لمناقشة وتحليل مشكلات الإنسان المعاصر، بينما تجد الأوراق المطروحة لا تريد أن نتجاوز ذات الاغترابات الّتي جاءت الفلسفة لتفكيكها، والبحث عن الإنسان وصلاح وجوده في الحياة، وتحقيق قيمه الكبرى في الوجود، فتجعلك مثل هذه الأوراق إمّا نسخا ولصقا لقضايا قتلت بحثا، أو تعيش اغترابا مصطلحيّا أكثر منه إبداعا فلسفيّا ومعرفيّا، وقد تصبح بعض الأوراق المقدّمة أقرب إلى الطّلاسم، هدفها إظهار العضلات، وبأنّه يحفظ رموزا فلسفيّة ماضويّة ومعاصرة، أكثر منه إبداعا ذاتيّا، يظهر فيها رؤية الباحث، واستقلال تفكيره، ونتاج دراسته وتأمله، ونقد واقعه، واستلهام مستقبلة، بحيث يقدّم رؤية فلسفيّة إصلاحيّة واقعيّة، توجد حلولا لقضايا الإنسان الكبرى، وواقعه المعيش.

نعم، قد تكون من المؤتمرات أو الملتقيات الّتي أعدّت سلفا في مناقشة القضايا الفلسفيّة في جوّها التّأريخيّ والموضوعيّ والتّقنيّ، في أوراق علميّة محكّمة، شأنها كشأن المجلّات المحكّمة، والّتي تركز على القضايا الفلسفيّة البحتة، فهذا شأن آخر تماما يختلف عن مقصدنا، فهو حالة صحيّة بذاته، لا يمكن بحال الاستغناء عنه، ولا يمكن اليوم مثلا ترك المعارف في العهد الوسيط مثلا، فنحن بحاجة إلى إعادة قراءتها من خلال الذّات، أو من خلال المعارف المعاصرة، لكن أن نعيش في اغترابها، مقابل عناوين معاصرة، أو نرهن الواقع بظرّفيّتها، فهذا موضع الإشكال، إذا لن يختلف العقل الفلسفي هنا عن العقل الفقهيّ، فكلاهما عقل سلفيّ تقليديّ، الاختلاف فقط في اللّباس، فهذا يلبس لباس الفلسفة، وذاك يلبس لباس الفقه، بيد أنّ التّفكير واحد بينهما، تفكير نتاجات القرون الأولى، ونسخ لإبداعهم في ظرفيّة مختلفة تماما، مع رهن الواقع المعاصر بها.

أتصوّر أننا بحاجة أن نخرج المؤتمرات أو الملتقيات الفلسفيّة أو حتّى الفقهيّة والأصوليّة والكلاميّة، وعموم الدّراسات الإنسانيّة، من جوّها الماضويّ والتكراريّ، إلى جوّ آخر من النّقد والإبداع وظهور رؤية الباحث ونظريّته الخاصّة، خصوصا إذا كانت القضايا المراد علاجها متعلّقة بالواقع المعيش، وبقضايا الإنسان الكبرى، وبرهان مستقبله في ضوء المتغيّرات المعاصرة، حتّى لا ندور في دائرة الاغتراب الّذي جئنا لتفكيكه من حيث الابتداء.

السابق
مؤسّسة تكوين وضجيج مؤتمر التّأسيس
التالي
إبراهيم رئيسي وولاية الفقيه
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً