صحيفة شؤون عمانيّة، الأحد 23 جمادى الثّانية 1447هـ/ 14 ديسمبر 2025م.
يقدّم الشيخ بدر العبري مشروعًا فكريًا موسوعيًا يسعى إلى إعادة قراءة قضية الغناء والمعازف خارج منطق الأحكام الجاهزة، وبعيدًا عن الثنائيات الحادّة التي اختزلت الفن طويلًا بين التحريم المطلق والإباحة المنفلتة. لا يتعامل المؤلف مع الغناء بوصفه مسألة فقهية مجرّدة، بل باعتباره ظاهرة إنسانية جمالية رافقت الإنسان منذ نشأة الحضارات، وتشكّلت بتشكّل الاجتماع البشري، وتلوّنت بتنوّع السياقات الثقافية والدينية.
ينطلق الكتاب من مدخل نظري يؤسّس لمفهومي الفن والجمال، بوصفهما قيمتين متجذّرتين في الفطرة الإنسانية، قبل أن ينتقل إلى تتبّع التطوّر التاريخي للغناء والمعازف منذ العصور القديمة، مرورًا بالعصر الجاهلي، ثم العصر النبوي وما بعده، وصولًا إلى العصر الحديث. هذا التتبّع لا يُقدَّم بوصفه سردًا تاريخيًا محايدًا فحسب، بل باعتباره خلفية ضرورية لفهم تشكّل المواقف الفقهية، وكيف تداخلت النصوص مع الأعراف والظروف الاجتماعية والسياسية.
يُظهر العبري أن الغناء في العصر الجاهلي كان جزءًا من النسيج الثقافي العربي، مرتبطًا بالشعر والذاكرة الجمعية ووسائل التعبير، دون إدانة أخلاقية لذاته، وإنما بحسب مضمونه وسياقه. ومع مجيء الإسلام، يبيّن الكاتب – عبر تمحيص دقيق للنصوص والسيرة – أن العصر النبوي لم يعرف تحريمًا صريحًا للغناء، بل أقرّه في مناسبات الفرح والاحتفال، مع ضبط الممارسات التي ارتبطت بالمجون أو اللهو المفسد. وبعد العصر النبوي، يتتبّع تطوّر الغناء في العصور الأموية والعباسية، حيث ازدهرت المدارس الموسيقية وتداخل الفن مع السياسة والمجتمع، ويشير إلى أن تشكّل خطاب التحريم كان في كثير من جوانبه ردّة فعل أخلاقية واجتماعية أكثر منه حكمًا نصيًا قطعيًا.
ولا يغفل الكتاب البعد المحلي، إذ يقدّم قراءة مهمّة في التراث والتاريخ العُماني، تكشف حضور الغناء في البيئة العُمانية وتنوّع المواقف منه، بما يكسر وهم القطيعة بين التدين والفن. كما يوظّف المقارنة الحضارية عبر تناول عصر النهضة الأوروبية، مبيّنًا كيف انتقل الغناء من مجال الترف إلى ميادين العلم والعلاج والتعليم، دون انبهار أو إسقاط، بل خدمةً للرؤية العامة التي تربط الفن بوظيفته الإنسانية.
في القسم الفقهي، يعتمد العبري منهجًا مقارنًا واسعًا، فيستعرض مواقف المدارس الفقهية الثماني: من الإباضية والزيدية والجعفرية، إلى الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والظاهرية. ويحلّل أدلة الاستدلال من القرآن والسنة، مفرّقًا بين دلالة النص وثبوته، وبين التحريم لذاته والتحريم لغيره. ويصل – بعد تمحيص الروايات ونقد أسانيدها – إلى أن الخلاف الفقهي في الغناء قائم على الاجتهاد لا القطع، وأنه لا يوجد نص صريح قطعي الدلالة والثبوت يحرّم الغناء والمعازف تحريمًا مطلقًا.
ويتّسع أفق الكتاب أكثر في قسم الفلسفة الجمالية، حيث يناقش مفهوم الجمال في المنظور القرآني، ويتتبّع فلسفة الجمال في الغناء عبر العصور، مستحضرًا رؤى مفكرين وعلماء كبار مثل الغزالي، وابن حزم، وإخوان الصفا، والشوكاني، ورشيد رضا، وشلتوت، والقرضاوي وغيرهم. ومن خلال هذا العرض، يرسّخ فكرة محورية مفادها أن الجمال قيمة شرعية، وليس نقيضًا للدين، وأن الفن – حين يُفهم في ضوء المقاصد – يمكن أن يكون وسيلة للارتقاء النفسي والاجتماعي.
وفي التطبيقات المعاصرة، يناقش الكتاب حضور الغناء في التعليم والعلاج والإعلام والشعائر الدينية، وفي حياة المرأة والطفل والشباب، واضعًا ضوابط أخلاقية بدل التحريم المطلق. ويؤكّد أن تغيّر السياق الزماني والمكاني يغيّر الحكم، وأن الغناء اليوم لم يعد محصورًا في صور اللهو القديمة، بل صار أداة تربوية وإعلامية وعلاجية ووطنية.
وتتجلّى الخلاصة النهائية للكتاب في موقف واضح ومتوازن: الأصل في الغناء والمعازف هو الإباحة ما دام منضبطًا بالضوابط الشرعية، وأن التحريم المطلق لم يقم على دليل قطعي، وأن الآلات في ذاتها ليست محرّمة، بل الحكم يدور مع الاستخدام. كما ينتقد الكاتب التعميم والتشديد غير المنضبط، ويرى فيهما مصادمة لمقاصد الشريعة التي جاءت لحفظ الإنسان وجمال حياته، لا لخنق فطرته.
بهذا كلّه، لا يقدّم بدر العبري كتابًا فقهيًا جافًا، ولا دراسة تاريخية منفصلة عن السياق الشرعي، بل ينجز رحلة فكرية وجمالية تعيد التوازن بين النص والعقل، وبين الأصالة والمعاصرة. إن «الجمال الصوتي» مرجعٌ نوعيّ في فقه الفنون الإسلامية، ووثيقة مهمّة في مسار التجديد الفكري، وكتاب لا يفرض رأيًا بقدر ما يدرّب القارئ على التفكير، ويحترم العقل والقلب معًا.
الكتاب وثيقة مرجعية لكل باحث في الفقه الإسلامي وفلسفة الفن وتاريخ الموسيقى العربية.
يقين حمد جنّود
محاضرة أكاديمية في سلطنة عمان

