جريدة عمان، الأربعاء 15 ربيع الأول 1446هـ/ 18 سبتمبر 2024م
الاحتفال بالمولد النّبويّ تأريخيّا فكرة حادثة، ابتدأت مع التّشيّع ثمّ التّصوّف، ابتداء من أواخر القرن الرّابع الهجريّ مع الدّولة الفاطميّة الإسماعيليّة، فلم يعهد في عهد الخلفاء الرّاشدين، ولا الدّولتين الأمويّة والعبّاسيّة، رغم النّزعة العلويّة في العبّاسيّة، بيد أنّه لم يكن معهودا في زمنهم تخصيص يوم للاحتفال بالمولد النّبويّ، ورغم تمدّد الدّولتين الأمويّة والعباسيّة في الأقطار الفارسيّة الزّرادشتيّة، والأقطار الرّومانيّة المسيحيّة، والزّرادشت يحتفلون بمولد نبيّهم زرادشت في 26 مارس، كما أنّ المسيحيين أيضا يحتفلون بمولد عيسى في نهاية ديسمبر أو بداية يناير من كلّ عام، فقد تأثر المسلمون بالعديد من ثقافات الأديان الأخرى، حتّى في معابدهم، فدخلت المحاريب والمنارات واستخدام السّبح وغيرها منذ العهد الأمويّ، بيد أنّه لم يعهد بشكل واضح أن يخصّص يوم لميلاد النّبيّ محمّد – صلّى الله عليه وسلّم -.
وقد ذكر بعض المؤرخين أنّ ظاهرة الاحتفال بالموالد والمآتم وإن كانت ظاهرة شيعيّة علويّة؛ إلّا أنّها ارتبطت سياسيّا بشكل أخصّ، ثمّ تحوّلت بمرور الزّمن إلى ثقافة طقسيّة واجتماعيّة، ومن هؤلاء حسن أحمد السّندوبيّ، صاحب كتاب “تاريخ الاحتفال بالمولد النّبويّ من عصر الإسلام الأول إلى عصر فاروق الأول”، والّذي صدر في طبعته الأولى عام 1948م في مطبعة الاستقامة بالقاهرة، ويرى أنّ ملوك بني بويه “المتغلّبين على المستضعفين من خلفاء بني العبّاس، والّذين بسطوا سلطانهم على بغداد عاصمة الدّنيا الإسلاميّة في تلك القرون … هؤلاء القوم الّذين كانوا يغالون في التّشيّع لآل بيت الرّسول … لم يفكروا في إحياء ذكرى مولد الرّسول صلوات الله عليه، واتّخاذها عيدا يندب الاحتفال به، ولا اعتبروها موسما يصح التّنبه إليه، مع أنّهم اتّجهوا بالكثير من عنايتهم إلى التّوسع في إحياء بعض الأعياد الفارسيّة، وعلى الخصوص أيام النّيروز والمهرجان، فقد كانوا يعنون بها ويقيمون لها الاحتفالات الشّائقة”، ولمّا جاء معزّ الدّولة البويهيّ (ت 356هـ/ 967م) “والّذى كان من عظماء ملوكهم، وواسطة عقدهم، كان أول من دعا إلى إشهار الاحتفال بعيد الغدير بالفرح والسّرور، وإلى إحياء يوم عاشوراء بالتّحازن والتّباكى والنّواح، وحمل النّاس فيه على إظهار الأسى … ومع هذا كلّه لم يفكر في إحياء الذّكرى النّبويّة”.
لهذا لمّا قامت الدّولة الفاطميّة 385هـ/ 969م جعلت من المولد مناسبة تميزها عن البويهيين، وكما يرى السّندوبيّ أنّ المعزّ لدين الله الفاطميّ (ت 365هـ/ 975م) فكر “في الوسائل الكفيلة باستمالة القلوب، وامتلاك النّفوس، واستثارة العواطف، حتّى تألف الامّة المصريّة تصرفات هذه الحكومة الجديدة، وترضى عن سياستها في إدارة البلاد، ولمّا كانت الميول العامّة لطبقات الأمّة المصريّة متجهة إلى حبّ آل بيت الرّسول، مع الاعتدال في التّشيّع لهم … رأى المعزّ لدين الله أنّ أقرب الأسباب للوصول إلى أغراضه من هذا الميل العام الالتجاء إلى الأمور الّتي تمت بصلة إلى المظهر الدّينيّ، فهداه تفكيره إلى أن يقرّر إقامة مواسم حافلة، وأعياد شاملة، في مواعيد مقرّرة، وأيام مقدّرة، وكان من أولها وأجلّها وأفضلها الاحتفال بذكرى المولد النّبوىّ الشّريف”، فكان الاحتفال بالمولد يوما رسميّا فاطميّا تقام فيه الحفلات، وتنفق لأجله الأموال.
ويرى أنّه “لمّا سقطت الدّولة الفاطميّة على يد الأيوبيين في مصر حافظوا على الاحتفال بالمولد النّبويّ، فانتقل من كونه خصّيصة شيعيّة، إلى الأجواء السّنيّة في جوّها الصّوفيّ خصوصا”، وقل الاهتمام به رسميّا عند المماليك؛ بيد أنّ “فكرة الاحتفال بذكرى المولد النّبوىّ الشّريف كانت قد صارت من الأمور الّتي ألفتها الأمّة، ودخلت في تقاليدها الهامّة، وجرت منها مجرى العقائد الواجبة الرّعاية والأداء، وأصبحت عندها من الشّعائر الّتي يعزّ عليها إغفالها، أو ترك القيام بها في أوقاتها الّتي أضحت مقدّسة، ولذلك فقد كان الشّعب يصرف عنايته إلى الاحتفال بهذه الذّكرى الكريمة في إبانها، وينهض به من تلقاء نفسه، غير منتظر وازعا نزعه، أو دافعا يدفعه، من جهة رسميّة أو غير رسميّة”، ثمّ عاد الاهتمام به رسميّا في عهد العثمانيين، والأسرة الخديويّة ومن بعدهم حتّى اليوم، وارتبط بالتصّوف، وانتشر في غالب الأقطار السّنيّة شرقا وغربا، كما هو سيّان في الأقطار الشّيعيّة بطبيعة الحال.
لهذا سنجد الجدل حول المولد حاضرا بشكل كبير في التّراث السّنيّ، خصوصا بعد القرن السّادس الهجريّ، فأئمّة الصّوفيّة، ومن سايرهم من الفقهاء رأوه من الاستحسان، ومن البدع الحسنة، ورأوا فيه منافع التّذكير بالنبيّ – صلّى الله عليه وسلّم -، ومنهم من حاول أن يجد له أصلا في الكتاب والسّيرة، كآيات ميلاد يحيى والمسيح، والنّبيّ محمّد أفضلهم وأقربهم، بيد فريق آخر من الفقهاء السّنّة رأوا ذلك من البدع المستحدثة، فتكرارها سنويّا، وما يمارس فيها من أعمال طقسيّة، دليل زيادة في الدّين، وأنّه تشبه بأهل الكتاب، والرّسول نهى عن التّشبه بهم في طقوسهم وخصوصيّاتهم، لهذا هو من البدع المحرّمة، أو المنهيّ عنها، وظلّ هذا الجدل في المدارس السّنيّة قائما حتّى اليوم.
وفي عمان – وهو محلّ حديثنا – سنجد فكرة الاحتفال بالمولد ليست حاضرة في التّأريخ العمانيّ في أجوائه الإباضيّة، لكون عمان عاشت بعيدا عن التّأثر بالممالك السّنيّة والشّيعيّة عموما، لهذا لا نجد لهذه المناسبة حضورا تأريخيّا، كما لا نجد جدلا فقهيّا في التّراث الإباضيّ العمانيّ، إلّا في العقود الأخيرة ضمن الجدليّات مع السّلفيّة، نتيجة انفتاح بعض الفقهاء الإباضيّة على هذه المناسبة، ولكن في أجوائها المحدودة الّتي لا تتعدّى قراءة السّيرة أو إقامة محاضرات وحفلات تذكر به، دون التّوسع في الموالد المغناه، والّتي يصاحبها حركات كما عند المتصوّفة، فهذه لم تتقبل في الفقه الإباضيّ، وإن كان في نظري الرّؤية الإباضيّة من حيث الأصل أقرب إلى السّلب، لهذا العديد من المجتمعات الإباضيّة في عمان لا يوجد فيها للمولد حضور، عدا بعض المحاضرات في العقود الأخيرة، وبعض التّذكير بها في الخطب الجمعيّة الرّسميّة، وما يصاحب ذلك من إجازة رسميّة للمولد.
يمكن ابتداء إدراك التّأثر بصورته العامّة أواخر التّمدّد العثمانيّ، فهناك شيء من الحضور الصّوفيّ السّلوكيّ، بيد أنّه لم يتحوّل إلى تظاهرة طقسيّة، ولعلّ التّأثر الأكبر كان عند العمانيين المهاجرين إلى شرق أفريقيا، خصوصا أنّ سلاطين البوسعيد كان لهم اهتمام رسميّ مبكر به، ولهذا ارتبط العمانيون بقراءة كتاب البرزنجيّ الشّافعيّ (ت 1317هـ) فيما يتعلّق بالمولد، وجاء أبو مسلم البهلانيّ (ت 1339هـ) فألف كتاب النّشأة المحمديّة كبديل عن البرزنجيّ، ولمّا رجع العديد من العمانيين من شرق أفريقيا بعد انقلاب 1964م كانوا أكثر ارتباطا به من غيرهم، ونقلوا التّأثير مبكرا إلى غيرهم من العمانيين في قراءة البرزنجيّ أو النّشأة المحمديّة.
هذا لا يمنع أيضا من وجود تأثر للإباضيّة القاطنين في المناطق ذات التّوجه الشّافعيّ الصّوفيّ في عمان، ولكن لم يكن – كما أسلفت – حاضرا في العقل الفقهيّ الإباضيّ، وكما ذكرتُ في كتابي “التّعارف” أنّ “شهر ربيع الأول من أكثر الشّهور احتفاء دينيّا واجتماعيّا عند متصوفة ظفار وصلالة، لما يتضمّن مولد النبيّ – صلّى الله عليه وسلّم -، ويحتفى في جميع الشّهر، وبعضهم يلحق ربيع الثّاني في الاحتفاء، ويحتفون في العشر الأواسط من ربيع الثاني بحوليّة للحبيب عليّ بن محمّد بن حسين الحبشي باعلويّ (ت 1333هـ) صاحب سمط الدّرر، ومؤسّس رباط الحبش في سيئون بحضرموت، ودرس عنده العديد من أهل ظفار … وهذه ذكرى سنويّة تقريبا لأسبوع أو عشرة أيام يحتفل بها في حضرموت وظفار، وكانت السّيدة ميزون (ت 1992م) أم السّلطان قابوس (ت 2020م) تتبرع لهذه المناسبة بالإطعام، ولا زال وقفها لذلك باقيا إلى اليوم، ولهذا يخصّونها بالدّعاء … وفي صلالة عادة يقرأون سمط الدّرر في أخبار مولد خير البشر للحبيب عليّ بن محمّد بن حسين الحبشيّ باعلويّ، وفي مرباط وطاقة عادة يقرأون مولد الدّيبعيّ للشّيخ عبد الرحمن الدّيبعيّ الزّبيديّ اليمنيّ (ت 944هـ)، ويقرأون المولد في المساجد أسبوعيّا ليلة الاثنين والجمعة بعد المغرب، وفي الثّاني عشر من ربيع الأول يكون الاحتفال بشكل أوسع، وبعض العلماء يقرأون المولد في البيوت عصرا يوميّا كما عند السّيد سالم الذّهب (ت 2001م)، وبعده أحيانا موعظة، ويطعمون الطّعام، وبعضهم كعادة المتصوّفة يعتقد حضور روح النّبيّ، وأمّا حضوره جسدا فليس حاضرا لديهم، ولا يضربون الدّف أو الطّبل في الموالد … فقط الإنشاد، مع الحلوى والعطور وبعض الطّعام”، بينما في شمال عمان وبعض الأجزاء الأخرى خصوصا المناطق البحريّة أكثر انفتاحا لفنّ المالد، والّذي يصاحبه الدّف أحيانا، مع التّمايل أو الوجد، وإن بدأ يضعف في العقود الثّلاثة الأخيرة شيئا فشيئا بسبب الرّؤية السّلبيّة عند السّلفيّة، وتأثيرها في التّفكير السّنيّ في عمان، ممّا خلقت جدلا فقهيّا في الأوساط السّنيّة في السّلطنة أيضا.
وأمّا شيعة عمان – وإن كانوا أقليّة – إلّا أنّ فكرة المولد حاضرة لديهم لطبيعة الارتباط الشّيعيّ بالموالد والمآتم، وقد كان للأغاخانيّة الإسماعيليّة حضور في عمان، وارتبط المولد كما أسلفنا بالإسماعيليّة ارتباطا مبكرا، بيد أنّ غالب الشّيعة اليوم في عمان إماميّة، والمولد حاضر لديهم أيضا، ويحتفلون به “ليلة السّابع عشر من ربيع الأول؛ لأنّهم يرون ولادته في هذا اليوم، وليس في الثّاني عشر، ويصاحبه عادة موعظة وتذكير بمقام النبيّ – صلّى الله عليه وآله وسلّم – وآل بيته، ويقرأون المولد من التّراث الشّيعيّ القديم، مع الموشحات من التّراث نفسه أو من المعاصرين، ويسمونها في عمان في مناطق الشّيعة “الجلوات”، ولعلّه من التّجلّي، ويصاحب الاحتفال إطعام النّاس”، وليس لديهم المالد، ولا يقرأون من التّراث السّنيّ في الموالد في الجملة، وليس لديهم جدل فقهيّ، لاستقرارهم على استساغة وتقبل الموالد والمآتم، وارتباطها بالخصوصيّة الشّيعيّة بشكل عام فيما يتعلّق بالنّبيّ وآل بيته، عدا جدليّاتهم أيضا مع التّيارات السّلفيّة في الفترة الأخيرة كخارج الإطار الشّيعيّ بشكل عام.
ما أسلفت ذكره كمقدّمة تأريخيّة وفقهيّة يمكن التّوسع فيه بحثا أكاديميّا وفق استقراء أكثر شموليّة، ولم أعن هنا بتفكيك البنية الفقهيّة والطّقوسيّة، وما يرتبط بهما من ممارسات اجتماعيّة، وإنّما هي إشارة توثيقيّة لهذه الحادثة الجليلة، والمتكرّرة سنويا، والّتي لا تتعدّى قضايا الرّأي الواسعة، والّتي يسع حولها الاجتهاد إيجابا أم سلبا، مع مراعاة الخصوصيّات وتعدّديتّها.