نشر في مجلّة الحياة الجزائريّة، عدد (24) شوال 1440هـ/ جوان 2019م، ص: 117 – 127.
لمّا نتحدّث عن الحركة الإصلاحيّة فلا نريد بهذا المفهوم التّقليديّ لمفهوم الإصلاح؛ وإنّما نريد به المرحلة الإصلاحيّة كفترة زمنيّة يرجعها بعض المؤرخين إلى وجود الحركات الإصلاحيّة في عهد محمد علي باشا [ت 1849م]، وإرساله البعثات العلميّة إلى أوربا، وبعضهم يرجع ذلك إلى حملة نابليون على مصر عام (179-1801م)، ومع فشل الحملة وقصر مدّتها؛ إلا أنّه كان لها الأثر العلميّ والاجتماعيّ في مصر، في حين يرى آخرون أنّ الدراسات البحثيّة الاستشراقيّة كان لها الدّور الأكبر في تحريك المياه الرّاكدة، ووضع لبنة البحث العلميّ الأكاديميّ القائم على المنهج العلميّ الشّكيّ في ذلك.
ومع هذا يعتبر القرن العشرون انطلاقة في هذا الطّريق بداية من الإمام محمد عبده [ت 1905م] في مصر، وحركته الإصلاحيّة التّجديديّة، وقيام حركات إصلاحيّة أخرى كالحركة البيوضيّة [نسبة إلى الشّيخ إبراهيم بيوض ت 1980م] في الجزائر مثلا، بجانب كتابات الشّيخ محمد الغزاليّ [ت 1996م] ومحمد حسين فضل الله [ت 2010م] فيما بعد.
والإصلاح التّجديديّ في البداية نتيجة صراع بين مدرستين: مدرسة الأثر أو السّلف، والّتي تعتصم بكلّ ما هو موروث، وتعتبره مقدّسا، ومدرسة يطلق عليها بالتّغريب، والّتي ترى رفض كلّ ما هو موروث، وتقبل كلّ ما هو غربي جديد في الفكر والعادات والتّقاليد، هنا كانت مدرسة التّجديد وسطا بين الفريقين، فهي مع الأولى في الثّوابت، ومع الثّانية في المتغير والاستفادة من الجديد.
إلا أنّه نشأ جيل جديد منذ ثمانيات القرن الماضي تجاوز مرحلة الوفاق، إلى مرحلة النّقد حتّى للثّوابت ذاتها، ومعرفة ما هو ثابت وما هو غير ثابت أصلا، كمراجعة نقدّية للذّات قبل الاستفادة من الفلسفات والمناهج المعاصرة.
ولهذا لمّا نطلق بالحركة الإصلاحيّة هنا يراد بها المعنى الحركيّ المقابل للتّيارين: السّلفيّ المتشدد، والتّغريبيّ المنفتح كليّا، ففي ميزاب الجزائر “لمّا نضجت الفكرة الإصلاحيّة في الأذهان، وتوفرت لها الدّواعي والأسباب؛ انتقلت من مرحلة الفكرة إلى مرحلة الحركة الاجتماعيّة، ذات الخطّ الفكريّ، والمنهج العمليّ، والمؤسسات الميدانيّة”[1].
في حين يرى المؤرخون الميزابيون أنّ الحركة الإصلاحيّة بمفهومها العامّ “كانت مع بزوغ شعاع النّهضة والإصلاح عند إباضيّة الجزائر في وادي ميزاب مع مطلع القرن الثّاني عشر الهجريّ، الثّامن عشر الميلاديّ، ومن أعماق الحياة الاجتماعيّة المترديّة الّتي يمر بها وادي ميزاب أثناء هذه الفترة، ومن خضم الصّراع بين الحق والباطل، وبين التّجديد والجمود”[2]، فيرجعها الأغلب إلى الشّيخ أبي زكريا يحيى الأفضليّ[3] [ت 1202هـ/ 1788م]، ويرجعها آخرون إلى الشّيخ الشّيخ عمّي سعيد الجربيّ[4] [ت 927هـ/ 1521م].
وعلى مستوى الجزائر بشكل عامّ “فمنذ بداية القرن العشرين تجرأ عدد من المسلمين المنتمين إلى النّخبة، من أعيان ومتعلمين للمبادرة بالتماس إصلاحات لصالح الأهاليّ الّذين يعيشون في شروط بائسة، أطلقوا على أنفسهم الشّبان الجزائريين على غرار الشّبان الأتراك والشّبان التّونسيين”[5]، إلا أنّه من المتفق أنّ “للشّيخ محمّد عبده [ت 1905م]، والشّيخ رشيد رضا [ت 1935م] من الأثر العميق في نفوس أهل الجزائر ما لم يكن لغيرهما من علماء الدّين المصلحين في المشرق، وقد سلك علماء الجزائر الّذين قادوا نهضتها طريق الشّيخ محمّد عبده في الإصلاح الدّينيّ”[6].
والسّؤال هنا بعد هذه المقدّمة، أين نضع الشّيخ بيوض، أو الحركة الإصلاحيّة البيوضيّة؛ لا شك يكاد يتفق الجميع أنّ الحركة البيوضيّة في الإصلاح الحركيّ هي الأولى ليس على مستوى إباضيّة الجزائر فحسب؛ بل حتى على مستوى الإباضيّة بشكل عام في المشرق والمغرب، فيما يتعلّق بالجانب الدّينيّ خصوصا، فهذه الحركة استفادت من الحركات الإصلاحيّة داخل القطر الإباضيّ خصوصا في ميزاب في شكلها العامّ، كما أنّها أيضا استفادت من الحركات الإصلاحيّة الحركيّة والعلميّة في العالم الإسلاميّ.
وتمثلت حركته الإصلاحيّة الحركيّة في التّعليم والتّربية، والنّضال السّياسيّ، والانفتاح على المذاهب الإسلاميّة، ومراجعة بعض الأحكام الفقهيّة بما يناسب العصر، مع الانفتاح على العصر بما تتيح له المنظومة المجتمعيّة حينها.
“ففي 21 مايو 1925 أسس معهد الحياة للتّعليم الثّانويّ، مركّزا على الثّقافة الإسلاميّة، والعلوم العربيّة المعاصرة، وشعاره: الدّين والخلق قبل الثّقافة، ومصلحة الوطن قبل مصلحة الفرد”[7]، ” وفي سنة 1931م شارك في تأسيس جمعيّة العلماء المسلمين، وصياغة قانونها الأساسيّ”[8]، “وأسس عام 1937م جمعيّة الحياة بالقرارة؛ لأجل النّهضة الإصلاحيّة بالجنوب”[9].
وقد “اتّخذ من المسجد وسيلة لمقاومة التّقاليد البالية، والخرافات الّتي كانت ما تزال تعشّش في أدمغة الجاهلين والجاهلات من جراء التّعلق بحرفيّة النّص”[10]، “و ناضل وجاهد في جبهات ثلاث: ضدّ الجمود الفكريّ، والاستعمار، والفساد”[11]، لهذا “ابتلي بمعارضين أشدّاء، ينكرون على الشّيخ اجتهاداته في فتاويه، وعدم تقيده بفتاوى من سبقوه، ودعوته إلى تعلّم العلوم الحديثة، واستعمال الأساليب الحديثة في التّعليم، وتعلّم اللّغة الأجنبيّة، وإلهاء طلبته بممارسة التّمثيل والرّياضة والكشافة، ونظم الشّعر والإنشاد، والأناشيد الّتي توغر الحكام، فشنوا عليه حربا شعواء بالوشاية إلى الحكام، والمطالبة بمنعه من الذّهاب إلى قرى ميزاب، وبنفيه إلى مكان قصيّ، وبإعلان البراءة منه في المساجد، واتّهامه بالمروق من الدّين”[12].
والّذي يهمنا هنا ما يتعلّق بعلاقته بالقطر العمانيّ، ونركز على ثلاثة جوانب: الأول: تواصله للإصلاح المدنيّ في عمان، والثّاني: علاقته ببعض الرّموز العمانيّة، والثّالث: أثر فتاويه وجهوده الإصلاحيّة على عُمان.
الجانب الأول: تواصل الشّيخ بيوض للإصلاح المدنيّ في عُمان؛ ويتمثل هذا في رسالته مع العديد من علماء ميزاب ممثلة في جمعيّة الإصلاح وعلماء ميزاب عقب وفاة محمد بن عبد الله الخليليّ [ت 1373هـ]، ومبايعة الإمام غالب [ت 2009م] بعده، حيث ناشدوا أهل عمان بتشييد المدارس والمعاهد والكليّات، وإرسال البعثات، وتعميم الصّناعات، وتأسيس المطابع والشّركات، وإصدار الجرائد والمجلات، وإنشاء المستوصفات والمستشفيات، وتعبيد السّبل والطّرقات، ومدّ السّكك الحديديّة والأسلاك الكهربائيّة، وإنشاء المعامل بأنواعها، واستخراج معادن الأرض ومحاصيلها[13]، ولا شك كان يؤلمه ما وصل إليه القطر العمانيّ من تخلف مدنيّ وعلميّ، نتيجة الصّراع السّياسيّ والقبليّ[14].
الجانب الثّانيّ: علاقته ببعض الرّموز العمانيّة؛ حيث كان الشّيخ بيوض متابعا للوضع العمانيّ فيما يتعلّق بالرّموز الدّينيّة والسّياسيّة، فقد بعث رسالته في 27 رمضان 1385هـ/ 19 يناير 1966م إلى أبنائه محمّد صالح ناصر، ومحمّد دجّال، ومردوخ، وزرويل من البعثة البيوضيّة إلى تونس، وفيها: “وصلني كتابكم الكريم، حاملا لذلك النّبأ العظيم، ناعيا إلينا الأستاذ الإمام الشّيخ اطفيش – رحمه الله – الّذي لم تمض إلا أيام قليلة على وصول نبأ وفاته حتّى داهمنا نبأ وفاة العلّامة الجليل الشّيخ أبي حميد حمد بن الشّيخ نور الدّين السّالميّ في الثّاني والعشرين منه، ومن غريب الاتفاقات أن كان هذا التّقارب بين وفاة علمين من أعلام الإباضيّة في العصر الحديث: قطب الأئمة الشّيخ اطفيش قطب المغرب ونور الدّين السّالميّ علم المشرق إلا أيام قليلة كذلك”[15].
إلا أنّ التّواصل المعرفيّ والاستفادة من العلماء العمانيين المتأخرين – وإن لم يكن بشكل مباشر أو لم يدركهم- كان حاضرا، كالعلّامة نور الدّين السّالميّ [ت 1332هـ]، والعلّامة عامر بن خميس المالكيّ [ت 1346هـ]، والإمام محمّد بن عبد الله الخليليّ، والعلّامة خلفان بن جميّل السّيابيّ [ت 1392هـ]، وغيرهم.
بيد أنّ التّواصل الأكبر كان مع الإمام غالب بن عليّ الهنائيّ، حيث بينهما علاقة حميميّة كبيرة، ويظهر هذا أنّه كان “شغوفا أن يعرف أخبار الإمام غالب بن عليّ الهنائيّ، وأخبار عمان، وأخبار أهل عمان كافّة”[16]، ولمّا بلغه خبر زيارة الإمام غالب لميزاب عموما، وللقرارة خصوصا؛ أعلن الشّيخ بيوض “بعد صلاة العشاء، وبعد ختم درس تفسير القرآن الكريم؛ قائلا: بلغنا نبأ زيارة الإمام العادل، إمام عمان، غالب بن عليّ بن هلال الهنائيّ، وأنّه سيقوم بزيارة لوادي ميزاب صباح غد 13 نوفمبر 1965م، وأول بلدة يزورها هي بلدة القرارة، وأريد من القرارة وأهل القرارة أن يكونوا في مستوى منزلة الضّيف الزّائر العظيم، وأن يتهيأ الجميع لاستقباله، وتعطيل الدّراسة في المدارس بهذه المناسبة، لمشاركة طلبة المدارس والكشافة في استقبال الضّيف الزّعيم”[17]، “وبعد وصول الإمام ومرافقوه إلى وادي النّساء – مكان بين مدينتي بريان والقرارة – استقبله رجال الدّين من جميع قرى وادي ميزاب يتقدّمهم الشّيخ بيوض”[18].
وفي المقابل كان الإمام غالب يقدّر ويجلّ الشّيخ بيوض كثيرا، “ففي يوم 14 نوفمبر 1965م توجه المركب لزيارة وادي ميزاب الأخرى، وفي بني يزجن تجمع أعضاء الهيئات الدّينيّة (العزّابة)، ودخل الإمام المجلس، وتأخر الشّيخ بيوض برهة من الزّمن، وكان تأخره بسبب رجل سأله عن مسألة فأجابه عنها، ثمّ دخل المجلس، فلم يجد مكانا يجلس فيه بالقرب من الإمام؛ فجلس في آخر الحلقة مقابلا للإمام، فلمّا رأى الإمام ذلك لم يرض أن تحط منزلة الشّيخ بيوض العلميّة والقياديّة الإصلاحيّة، فقام من مجلسه وقال: تفضل يا شيخ هنا مقامك في مكاني أنا، فقال الشّيخ بيوض: يا فضيلة الإمام: أحبّ أن أكون مواجها لك؛ لأنّ عندنا مثل يقول: لتحبه قابله، فقال الإمام: ليس هذا مقامه، فلكلّ مقام مقال”[19].
وظلّ الشّيخ بيوض وفيّا للإمام والعكس كذلك، ولعلّ هذا يفسر فيما يبدو لي في عدم إجابة الشّيخ بيوض للدّعوة لزيارته إلى عمان في بداية السّبعينات، مراعاة للعلاقة العميقة بينه وبين الإمام غالب، وليس من باب عدم فرح الشّيخ بيوض للاستقرار السّياسيّ لعمان، وبداية النّهضة العمرانيّة والمدنيّة فيها، فهذا ما نادى به، وهو المصلح الكبير، المحبّ لأمته والإنسان، بيد أنّ العلاقات الخاصّة كثيرا ما تؤثر في قرارات الإنسان في المجموع العامّ.
كما كانت له علاقة ولو بشكل أقلّ مع سماحة الشّيخ أحمد بن حمد الخليليّ، المفتي الحالي للسّلطنة، بيد أنّه ليس كعلاقته مع الإمام غالب، ولعلّ الفارق العمريّ له دور، فقد كان الشّيخ الخليليّ في بداية السّبعينات في مقتبل عمره مقارنة بالشّيخ بيوض، ومع هذا كان الشّيخ بيوض يقدّر علم الخليليّ كثيرا، فقد كان “أول لقاء بين الشّيخ أحمد بن حمد الخليليّ والشّيخ بيوض عام 1971م في الجزائر”[20]، وقد قال الشّيخ بيوض للخليليّ: “أنتم علماؤنا وشيوخنا، ونحن نخجل من القعود أمامكم لقلّة علمنا، ووفور علمكم”[21].
الجانب الثّالث: أثر فتاوى الشّيخ بيوض وجهوده الإصلاحيّة على عُمان؛ حيث كانت العلاقة الإصلاحيّة للشّيخ بيوض – حسب قدراته – مبكرة، فقد بعث تلميذه ناصر بن محمّد المرموريّ [ت 2011م] “بطلب من الإمام غالب ليكون مشرفا للشّؤون الدّينيّة والثّقافيّة في مدرسة الإمام في القاهرة[22]، وفي زيارة الإمام غالب لمدينة القرارة، حيث “رأى ما عليه التّعليم في وادي ميزاب؛ رغب أن ينال بعض الطّلبة العمانيين شيئا من تلك التّربية الفريدة من نوعها، فكلّم الإمام الشّيخ بيوض، وطلب منه الموافقة في استقبال بعض الطّلبة العمانيين، فرحب الشّيخ بيوض، وقال: نحن على أتمّ الاستعداد، فهم أبناؤنا، وهذا شرف لنا، أن نساهم بتعليم بعض الطّلبة، لعلّ الله أن يجعل منهم رجالا وقدوة بالعلم والتّربية، عندما يتزودون بسلاح العلم”[23]، “وفي عام 1966م بعث الإمام ستة عشر طالبا برئاسة الشّيخ يحيى بن سفيان بن محمّد الرّاشديّ”[24] [معاصر]، “ثمّ بعث خمسة عشر طالبا برئاسة الشّيخ محمّد بن ناصر بن راشد الرّياميّ”[25] [معاصر]، “وكان من اهتمام الشّيخ بيوض بالطّلبة العمانيين حيث بمجرد وصولهم إلى القرارة؛ فتح صندوقا للتّبرع باسم الطّلبة العمانيين في القرارة”[26].
بيد أنّ الشّيخ بيوض رفض طلب الشّيخ الخليليّ في الحصول على المعلمين الميزابيين ليكونوا في الهيئات التّدريسيّة في عمان عام 1971م[27]، وقال له: “أنتم علماؤنا وشيوخنا، ونحن نخجل من القعود أمامكم لقلّة علمنا، ووفور علمكم، فردّ الخليليّ: ذلك في زمان مضى وانقضى، واليوم بحاجة إلى معلمين من أبنائكم، على الطّريقة العصريّة الحديثة، فرفض الشّيخ بيوض الطّلب”[28]، ويعلل الشّيخ بيوض ذلك إلى عدم وجود من يليق اختياره لهذه المهمّة[29]، إلا أنّ الشّيخ ناصر بن محمّد بن راشد الزّيديّ [معاصر] يعلل ذلك خشية أن يخرج الأغلب من ميزاب طمعا في المادّة والرّواتب المغرية والمتهيأة حينها في عمان، فلن يبقَ إلا القليل في ميزاب[30]، بيد أنّه أرى أنّ الأمر لا يخرج عن علاقة الشّيخ بيوض للإمام غالب، ووفائه له، خاصّة وأنّ الحدث كان في بدايات التّغيير في عمان، وفكرة الإمامة لا زالت حاضرة، ومكتبها لا يزال في الجزائر لم يغلق.
وعموما بلا شك أنّ الطّلبة الّذين درسوا على يديه كان لهم تأثيرهم في المجتمع العمانيّ بعد رجوعهم إلى وطنهم الأم.
وإذا جئنا إلى الفتاوى سنجد للشّيخ بيوض سابقيّة وتأثيرا على مسائل عمل بها في القطر العمانيّ، ومن هذه المسائل تعدد صلاة الجمعة، وعدم اشتراط إقامتها من الإمام [السّلطان] أو من ينوب عنه، في حين كان رأي المذهب اشتراط المصر والإمام، وعدم جواز التّعدد، فنجد الشّيخ بيوض في البداية يرى صحة صلاة الجمعة ولو لم يتوفر شرط المصر أو الإمام، حيث أفتى في 11 رمضان 1390هـ/ 10 نوفمبر 1970: “أمّا عن رأينا الخاص في حكمها اليوم في سائر البلاد الإسلاميّة غير العواصم الكبرى فإنّها تصح ولا تجب”[31]، بل ويرى جواز إقامتها في المكان المخصص للدّراسة، “إنّ اشتراط المسجد لصحة الجمعة ليس مجمعا عليه”[32].
ويرى الشّيخ بكير محمّد الشّيخ بالحاج [معاصر] أنّ الشّيخ بيوض يرى جواز الجمعة وتعددها لا وجوبا منذ عهد الاحتلال الفرنسيّ، ثمّ تراجع في محرّم عام 1391هـ فأوجبها على كلّ حضريّ[33].
ولمّا سئل هل نصلي الجمعة مع الإخوان المالكيين – أي من المدرسة المالكيّة – في مساجدهم؟ قال: “نعم، تصلي الجمعة في جميع مساجد المسلمين، أينما كنت، ولك فضل وأجر”[34]، وهذا قول المذهب منذ فترة مبكرة حيث يقول الأزكويّ (توفيّ في أواخر القرن الثّالث الهجريّ أو بدايات القرن الرّابع الهجريّ): لا بأس من الصّلاة خلف قومنا في الجمعة وغيرها[35].
هذا الرّأي أثر في القطر العماني في بداية السّبعينات، فعممت الصّلاة في الولايات، وأفتى الشّيخ الخليليّ “ولهذا يتضح أنّه بعد أن رأى العلماء أن تقام الجمعة في مدن عمان الرّئيسة، وأمر بذلك سلطان البلاد؛ لا يجوز التّخلف عنها في أيّ بلد أقيمت، ومن صلّى الظّهر بدلها من غير عذر فلا صلاة له”[36].
ومن المسائل الفقهيّة الّتي تأثر بها القطر العمانيّ فتواه المصدّقة للجنة الإفتاء الجزائريّة في العمل بالحساب الفلكيّ القطعيّ حال الإنكار، وذلك في 22 رمضان 1392م، 30 أكتوبر 1972م، والّتي نصت على تحريض جميع المواطنين – أي الجزائريين – المؤمنين على الاعتناء بالرّؤية ليلة الشّك، “فإن جاءت الشّهادة بالرّؤية، وقد أثبت الحساب ولادته، وبقاؤه بعد غروب الشّمس بحيث تمكن رؤيته؛ قبلت الشّهادة، وأعلن عن دخول الشّهر، وإن جاءت شهادة بالرّؤية، والحساب يثبت أنّ الهلال لم يولد بعد، أو أنّه مولود، ولكنّه يغرب بعد غروبها بقليل جدّا بحيث تستحيل رؤيته؛ ردّت الشّهادة”[37]، فكان جواب الشّيخ بيوض: “إنني موافق كلّ الموافقة على فتوى اللّجنة في اعتماد الحساب الفلكيّ القطعيّ في تعيين مواقيت العبادات، وعلى الخصوص تعيين اليوم الأول من شهر رمضان؛ لأداء فريضة الصّيام، واليوم الأول من شهر شوال؛ لأداء فريضة الإفطار، فكفانا ما بلوناه ونبلوه كلّ عام منذ عشرات السّنين من الشّهادات الزّائفة الباطلة برؤية هلال الصّوم، وهلال الفطر، والّتي تتقبلها، وتحكم بصحتها، وتأمل بالعمل بمقتضاها هيئات مختصة مسؤولة في سائر الأقطار الإسلاميّة، مع علمها أو إمكان علمها بعدم ولادة الهلال، أو عدم وجوده قطعا على الأفق الغربيّ وراء الشّمس بعد غروبها، الأمر الّذي يسيئ إلى قواعد الشّريعة الغراء، ويطلق ألسنة الخراصين بالطّعن فيها، والسّخرية بها”[38].
وهذا الرّأي تبني في عمان من قبل وزارة الأوقاف العمانيّة في فترة متأخرة، إذ يقول الشّيخ الخليليّ: “نرى الاعتماد على ما دلّ عليه الشّرع من رؤية الهلال، أو الشّهادة العادلة، أو الشّهرة الّتي لا يشك معها في رؤيته، ولكن عندما تفشا في النّاس الكذب، وقول الزّور، وكثرت الادعاءات في أمر الأهلة؛ ينبغي أن يكون الحساب الفلكيّ وسيلة لمعرفة صحة الشّهادة من خطئها، حتى ترد الشّهادة عندما يكون هنالك يقين باستحالة رؤية الهلال، كما لو إذا شهد الشّهود بأنّهم رأوا الهلال في يوم غيم، ولو صدرت من عدول فهي مردودة، وإذا ما شهد الشّهود بأنّهم رأوا الهلال في غير مطلعه – في غير الأفق الّذي يرى منه – فلا ريب أنّها شهادة باطلة، ولو كان الشّهود عدولا، وعندما يثبت ثبوتا جازما بأنّه تتعذر رؤية الهلال في ذلك اليوم بحسب ما يقتضيه علم الفلك؛ فالتّعويل في ذلك في ردّ هذه الشّهادة أمر ليس فيه أي حرج، هكذا نرى ونعتمد”[39].
وهناك مسائل أخرى تتعلق بالاجتماع والحياة تجاوز فيها الشّيخ بيوض العديد من مشايخ عصره من المدرسة الإباضيّة، ولا زال في بعضها متجاوزا، وما أشرت إليه للتّمثيل لا غير، كما له العديد من المراجعات كقضية الصّحابة والتّرضي على الخلفاء الأربعة، وله محاضرة في ذلك نشرت في كتاب لاحقا.
[1] الشّيخ بالحاج: قاسم بن أحمد؛ معالم النّهضة الإصلاحيّة عند إباضيّة الجزائر، ط جمعيّة التّراث، القرارة – غرداية/ الجزائر، الطّبعة الأولى، 1432هـ/ 2011م، ص: 202.
[2] المرجع نفسه، ص: 91.
[3] المرجع نفسه، ص: 92.
[4] المرجع نفسه، ص: 94.
[5] بلحسين: مبروك؛ المراسلات بين الدّاخل والخارج: الجزائر – القاهرة (1954 – 1956م) مؤتمر الصّومان في مسار الثّورة التّحرريّة، ط دار القصبة للنّشر، الجزائر 2004م، ص: 19.
[6] الشّيخ بالحاج: قاسم بن أحمد؛ معالم النّهضة الإصلاحيّة عند إباضيّة الجزائر، مرجع سابق، ص: 293.
[7] ناصر: محمّد صالح؛ مشايخي كما عرفتهم، ط دار ناصر للنّشر والتّوزيع، الجزائر/ الجزائر، الطّبعة الثّانية، 1434هـ/ 2013م، ص: 117.
[8] المرجع نفسه، ص: 117.
[9] المرجع نفسه، ص: 117.
[10] بو حجام: محمّد بن قاسم ناصر؛ الشّيخ إبراهيم بيّوض المصلح المربيّ، ط مكتبة الجيل الواعد، مسقط/ سلطنة عمان، الطّبعة الأولى، 1425هـ/ 2004م، ص: 13.
[11] المرجع نفسه، ص: 15.
[12] العساكر: إبراهيم؛ جهاد الإمام الشّيخ بيوض بين الإنصاف والإجحاف، بحث منشور ضمن أعمال الملتقى الأول لفكر الإمام الشّيخ إبراهيم بن عمر بيوض، القرارة 8 – 9 محرّم 1421م، 13 – 14 أبريل 200م، ط جمعيّة الحياة، القرارة – غرداية/ الجزائر، ط 2002م، ص: 64 – 65.
[13] بكلّي: عبد الرّحمن؛ رسائل البكريّ، ط مكتبة البكريّ، غرداية/ الجزائر، ط 1427هـ/ 2007م، ص: 310.
[14] تغيّر الحال والحمد لله تعالى بعد حكم السّلطان قابوس بن سعيد البلاد عام 1970م.
[15] ناصر: محمّد صالح؛ مشايخي كما عرفتهم، مرجع سابق، ص: 151.
[16] الزّيدي: ناصر بن محمّد بن راشد؛ مختصر السّيرة الذّاتيّة. مرقون. ص: 9.
[17] المرجع نفسه، ص: 14.
[18] المرجع نفسه، ص: 14.
[19] المرجع نفسه، ص: 18.
[20] المرجع نفسه، ص: 35.
[21] المرجع نفسه، ص: 36.
[22] المرجع نفسه، ص: 6.
[23] المرجع نفسه، ص: 23.
[24] المرجع نفسه، ص: 23.
[25] المرجع نفسه، ص: 23.
[26] المرجع نفسه، ص: 25 – 26.
[27] المرجع نفسه، ص: 35.
[28] المرجع نفسه، ص: 36.
[29] المرجع نفسه، ص: 36.
[30] حوار مع الشّيخ ناصر بن محمّد الزيديّ، برنامج حوارات، في قناة بدر العبريّ العبريّ على اليوتيوب، الحلقة (35)، بعنوان: البعثات العلميّة في عمان في عهد الإمام غالب بن عليّ الهنائيّ (تجربة توثيقيّة)، أدار الحوار: بدر بن سالم بن حمدان العبريّ، بتأريخ: 27 مارس 2018م، تأريخ الزّيارة: الأحد 27 يناير 2019م، السّاعة التّاسعة صباحا.
[31] بيوض: إبراهيم بن عمر؛ فتاوى الإمام الشّيخ بيوض، تجميع وترتيب: بكير محمّد الشّيخ بالحاج، ط مكتبة أبي الشّعثاء، سلطنة عمان/ السّيب، الطّبعة الثّانية، 1411هـ/ 1990م، ص: 120.
[32] المصدر نفسه، ص: 125.
[33] المصدر نفسه، ص: 121. [من الهامش].
[34] المصدر نفسه، ص: 129.
[35] الأزكويّ: أبو جابر محمد بن جعفر؛ الجامع لابن جعفر، ط وزارة التّراث القوميّ والثّقافة – سلطنة عمان، لا تاريخ، ج2، ص 67.
[36] الخليليّ: أحمد بن حمد؛ الفتاوى، ط وزارة الأوقاف والشّؤون الدّينيّة، سلطنة عمان/ مسقط، ط 1434هـ/ 2013م، ج: 1، ص: 145.
[37] بيوض: إبراهيم بن عمر؛ فتاوى الإمام الشّيخ بيوض، مصدر سابق، ص: 262 – 263.
[38] المصدر نفسه، ص: 266 – 267.
[39] الخليليّ: أحمد بن حمد؛ الفتاوى، مصدر سابق، ج: 1، ص: 352 – 353.