أصبحت العقليّة العربيّة اليوم نتيجة المقررات الدّراسيّة، وبعض المفرزات التّراثيّة، تصور أنّ الحضارة العربيّة قامت بُعيَد بعثة النّبي محمد – صلّى الله عليه وسلّم-، وأنّ الحضارة العربيّة العقليّة بدأت في الدّولة العباسيّة خصوصا، وعليه عُمْرُ هذه الحضارة لا يتعدى ألف سنة!!!
وهنا تولّدت إشكالات منها:
الإشكاليّة الأولى: ربط بداية الإسلام بالنّبيّ محمد – عليه الصّلاة والسّلام -، وهذا ليس صحيحا؛ بل الإسلام كاستسلام وما تبعه من استسلام جنسيّ أقره الأنبياء قبل محمد، ومن هذا قول نوح – عليه السّلام -: {واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون، فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين}، وقول إبراهيم – عليه السّلام -: {ومن يرغب عن ملّة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدّنيا وإنّه في الآخرة لمن الصّالحين، إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين، ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إنّ الله اصطفى لكم الدّين فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون}، وقول موسى – عليه السّلام -: {وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين}، وقول عيسى – عليه السّلام -: {وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون}، وقول بلقيس في عهد النّبيّ سليمان – عليه السّلام -: {رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين}، سواء قلنا الإسلام بالمعنى اللّغوي أو بالمعنى الجنسيّ العام، والصّواب في نظري أن نقول قبل البعثة المحمديّة وليس قبل الإسلام؛ لأنّ النبيّ محمدا جاء مجددا ومصلحا دينيّا برسالة القرآن، ولم يأت ليكوّن إسلاما جديدا خصوصا في المنطلقات العقائديّة والأخلاقيّة والعديد من الشّعائر التّعبديّة، إلا ما قام برفعه من بعض الأصر والأغلال، أو الزّيادات والتّحريفات البشريّة.
الإشكاليّة الثّانيّة: تصوير الحضارة العربيّة والحجازيّة إبان البعثة بأنّها جاهلية يسودها التّخلف في كافة إشكالاته [الجاهليّة في القرآن كان في بعض الجوانب التّوحيديّة والسّلوكية كالظّلم وعدم العدل وليس على العموم، كما أنّه ليس منحصرا عند العرب أو في تلك الفترة فحسب ومنه الجاهليّة الأولى]، ولمّا ظلمت الحضارة الحجازيّة ظلمت الحضارة العربيّة عموما في الجملة، وهذا في الحقيقة يحتاج إلى مقام أكبر للتّفصيل فيه، ولكن كما نعلم أنّ القرآن أشار إلى مكة مثلا في جانبين:
أولا: الجانب الدّينيّ في سياحة الحج، والمجيء إلى مكة لأجل الزّيارة الدّينيّة، ومنها كانت أشهر الحج والشّهران الأخيران ذو القعدة وذو الحجة من أشهر الله الحرم التي يعظمها العرب خصوصا منذ فترة موغلة في القدم.
ثانيا: القوة الاقتصاديّة كما في سورة قريش، والرّحلات الاقتصاديّة مع أرض فارس من جهة، وأرض الرّوم من جهة أخرى، مما ولّد عند الحجازيين خصوصا تعددية دينيّة وفكرية منذ فترة مبكرة وولاءات مختلفة كما أشار إليه القرآن في سورة الرّوم.
كما أشارات الأدبيّات العربيّة إلى أسواق العرب الّتي تعقد فيها المناظرات الأدبيّة، والمجالس الخطابيّة، ومنها استمرت خطبة الجمعة أي في يوم الجمعة، كسوق عربيّ له شهرته.
والقرآن أشار إلى بعض المناظرات الفكريّة الّتي كانت قد وقعت بين النّبيّ محمد مع عرب الحجاز من مؤيدي التّوسل بالأصنام (المشركين) أو مع اليهود مثلا، وهذه المناظرات بعضها فيها استخدامات عقليّة، ثمّ إسهاب القرآن بذكر الأساليب العقليّة خاصة في العهد المكيّ ليس من باب الفراغ، وخاصة أنّ للعرب خلطة مع بلاد الشّام، وبلاد الشّام معقل من معاقل الحضارة الرّومانيّة ذات الصّبغة العقليّة، وهذا سيتأثر بهم العرب بلا شك، كما أنّ استخدام اللّغة الأدبيّة نتيجة التّفوق الأدبيّ الّذي وصل إليه العرب حينها.
أمّا الأميّة في نظري فأرى ما رآه سيد قطب ت 1966م أنّه في القرآن بمعنى الأمميين، وليس بمعنى أنّهم لا يعرفون القراءة والكتابة، وهو لقب كان يطلقه اليهود، وهم أمّة عظيمة كانت في الحجاز واليمن وعمان والبحرين وبلاد الشّام والعراق، فيصفون غيرهم بالأغيار والأميين، ولذلك قال القرآن عندما ساق الخطاب عن أهل الكتاب: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ}، وما ينطبق على حضارة الحجاز، ينطبق على حضارة العرب عموما.
الإشكاليّة الثّالثّة: تصوير أنّ العرب يعبدون الأصنام، وهذا ليس صحيحا بنص القرآن: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}، وإنّما دخل عندهم التّوسل بالأصنام كما في قوله سبحانه: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ}.
نعم وجدت فئة الدّهريين الّذين قالوا: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ، وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ، إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}، والعديد من العرب ومنهم أهل مكة كانوا على ملّة إبراهيم، وبعضهم من رفض التّوسل بالأصنام وهم الحنفاء، كما أنّ منهم كانوا مندائيين أو صابئة وهؤلاء تأثروا بالفرس وحضارتهم، والحضارة الفارسيّة أيضا كانوا في الجملة زرادشتّية، والزّرادشتيّة من الدّيانات التّوحيديّة، ثمّ ظهر عندهم ما يسمى بإله النّور أو الظّلام، وبعدها ظهرت قضية التّوسل بالنّار كرمز إلهيّ.
كذلك كانت اليهودية بفرقها منتشرة عند العرب، والنّصارى، والقرآن أشار إلى أطيافهم الثّلاثة الآريوسيين والأرذوكس والكاثوليك كمعتقد كما في سورة المائدة وغيرها.
الحاصل أنّ المفهوم الشّركي في القرآن أوسع لغة وليس قرين إنكار الذّات الإلهيّة جملة، وهذا يحتاج إلى تفصيل أكبر، ولي بحث في هذا عسى أتمّه قريبا بعنوان الصّفات الإيجابيّة والسّلبيّة في القرآن الكريم، قراءة نقديّة مقارنة.
الإشكاليّة الرّابعة: الحضارة العربيّة – ولا أقولها تعصبا للعرب – قديمة قبل بعثة النّبي محمد، وقبل الدّولة العباسيّة، واللّغة العربيّة لغة قديمة، والقرآن أشار إلى حضارة الأحقاف وحضارة سبأ، وحضارة مدين، كما أنّ العرب كان لهم نشاطهم البحريّ القديم، ولهذا لا أستبعد أن تكون الحضارة الفينيقيّة لها علاقة بالجانب العربيّ، ويدلّ على هذا النّقوش والاتصال البحريّ العربيّ بفارس والهند وشرق آسيا وأفريقيا وغيرها منذ فترة تأريخيّة مبكرة.
وممّا ساهم في تقزيم الحضارة العربيّة الدّراسات الاستشراقيّة إمّا عن قصد، أو نتيجة لبعض الموروثات العربيّة نفسها الّتي أساءت إلى الحضارة العربيّة وقزّمتها، ولعل العقول العربيّة الحاليّة تعمل مراجعات ليس تعصبا بل اعترافا بفضل أمّة همشها التّأريخ!!!
فيسبوك 1438هـ/ 2017م