المقالات الفكرية

الهوّيّة من حيث الماهيّة والأنسنة

جريدة عُمان 1442هـ/ 2021م

مصطلح الماهيّة من المصطلحات المنطقيّة والفلسفيّة القديمة، فهو عند المناطقة القدامى بمعنى الحيوان النّاطق، أي تشكل هوّيّة جديدة في التّطور الحيواني من الجنس الأكبر (الحيوان) إلى هوّيّة الحيوان النّاطق (الإنسان العاقل).

وعند الطّبيعيين جواب لسؤال ما هو؟ فماهيّة الإنسان من خلال تطوّره البيولوجي، ووصوله إلى هذه الصّورة في الوجود، ومدى علاقة هذه الماهيّة بالطّبيعة والكون.

ولا زالت جدليّة الماهيّة الإنسانيّة محل جدل وبحث لما تشكله من عالم معقد في حدّ ذاته في ضوء عالم مصغّر كما يقول عليّ بن أبي طالب [ت 40هـ]:

وتحسب أنّك جرم صغير    وفيك انطوى العالم الأكبر

إلا أنّ الماهيّة كمكوّن فكري وفلسفي عاد الاشتغال بها اليوم لارتباطها بالأنسنة من جهة، والهوّيّة من جهة ثانية، فأصبحت الماهيّة كما يرى صادق جواد [معاصر] هي “تُعرّف الإنسان من حيث كينونته الوجوديّة، أي تلك الّتي نشأ من رحمها أصلا، وبقي عليها فطرة، مدى ما عاش، أيّا كانت معرفات هوّيّته”.

فالماهيّة هنا ارتبطت بالفطرة، وفي القرآن {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الرّوم/ 30]، والفطرة هي الماهيّة الأولى الّتي يولد عليها الإنسان أيّا كان منبت ولادته، فهو يولد على الفطرة بهوّيّته البشريّة من حيث النّوع في الجنس الحيواني، إلا أنّه لا يتشكل في هوّيّات كسبيّة وانتمائيّة، فهذه تتشكل لاحقا من خلال البيئة أولا، وما يتدرج في كسبه من معارف وقناعات طيلة حياته ثانيا.

وفي توراة العبرانيين أي العهد القديم عند المسيحيين: “فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكرا وأنثى خلقهم” [تكوين: 1/ 27]، والصّورة هنا فطرة الخلق الأولى كان ذكرا أو أنثى بعيدا عن الهوّيّات الانتمائيّة اللّاحقة، ولهذا في توراة السّامريين لفظة بقدرته بدل صورته، وعند العرفانيين والغنوصيين هذا من مظاهر التّجلي في الإنسان الكامل، أو ما يسميه المناطقة بالإنسان العاقل، والتّجلي يظهر في الإنسان حين الولادة في فطرة أو ماهيّة صورةِ هذا الوجود على ما هو، أي أنّه هو هو من حيث الخروج إلى عالم الحياة.

واليوم تظهر جدليّة الماهيّة من جديد وفق منظومة “حقوق الإنسان” المرتبطة بالأنسنة، وكما يرى النّعيمي: محمّد بن سالم أنّ “الأنسنة اسم أطلقه شيلر [ت 1805م] على المذهب الّذي استخدمه في مؤلفاته، ويرتبط بحكمة بورتاغوراس [ت 411ق.م]: الإنسان هو المقياس لكلّ الأشياء” ولكن يبقى البحث هل الأنسنة هنا بمعنى الماهيّة أو تشمل ما بعد الماهيّة ليدخل فيها الهوّيّات الجامعة لا المفرقة.

فالأنسنة يختلف تحديدها من حيث علاقتها بالماهيّة وبالهوّيّة من جهة، ومن حيث كونها مرجعيّة مقابل اللّاهوت من جهة ثانية، والأمر الثّاني ليس محلّ بحثنا الآن، الّذي يهمنا الأول أي من حيث علاقتها بالماهيّة وبالهوّيّة، فإذا قلنا الأنسنة هي جنس الإنسان بحسناته وسلبياته، سواء بدايته حيوانيّة متطوّرة إلى البشريّة فالإنسان العاقل وما بعده وصولا إلى الإنسان الكامل، أم آدميّة الإنسان خلقا من الابتداء، والتّطوّر في فكره وكشفه للكون لا في بيولوجية، فهذان الفريقان لا يختلفان في أنّ الأنسنة هنا تشمل الهوّيّة والماهيّة.

أمّا إذا قلنا إنّ الأنسنة باعتبار الفطرة الّتي ولد عليها الإنسان بعيدا عن أيّ انتماءات كسبيّة لاحقا فتكون قرينة الماهيّة لا الهوّيّة.

والفارق بين هذا دقيق جدّا، وفي الوقت نفسه يشكل بعدا مهمّا في ظلّ ثقافة حقوق الإنسان الّتي يتحاكم إليها العالم اليوم في دساتيره وعلاقته بالآخر على المستوى الدّولي من جهة، وعلى مستوى الدّولة الواحدة في ظلّ دولة المواطنة من جهة ثانية، وكذا على مستوى الفردانيّة، وعلى مستوى الحقوق الجمعيّة والتّعاقديّة في المجتمع الواحد.

كما أنّ العالم يتجه اليوم إلى تحجيم وتضييق دائرة الاستبداد، والّذي يرتكز كثيرا على الهوّيّات، فكلّما اتّسعت الهّوّيات الانتمائيّة، وفي الوقت نفسه كان لها الحاكميّة والهيمنة والأسبقيّة تراتبيّا من حيث الحكم الجمعي مقابل تهميش الماهيّة وتضييقها؛ فهنا تتسع دائرة الاستبداد، خصوصا إذا ارتبطت الهوّيّات بالسّلطة، ومثاله: مصلحة الجماعة مقدّمة على مصلحة الفرد، فهذا يستقيم إذا كانت مصلحة الجماعة وفق قانون بني من الأساس على اعتبار الماهيّة، ولكن إذا بني على اعتبار هوّيّة السّلطة، واستغلال الهوّيّات الانتمائيّة لحفظ الجماعة ظاهرا، ولكنّها لا تتعدى شعارات لحفظ السّلطة، هنا تتّسع دائرة الاستبداد.

لهذا يعنى الشّأن العالمي اليوم أيضا بتحجيم السّلطات وفصلها تحت مظلّة القانون، فهناك سلطة الدّولة المدنيّة فقط، وتحتها سلطات ثلاث منفصلة عن بعضها: تشريعيّة ورقابيّة وقضائيّة، والجامع الّذي يدور وفق مدار المواطنة هو القانون تحت مسمّى الدّستور أو النّظام الأساسي وما يتفرع عنهما، فهذا القانون إمّا أن ينطلق من الهوّيّات الضّيقة، فتضيق دائرة العدالة والحريات، وإمّا أن ينطلق من الماهيّة الجامعة  فتتسع دائرة العدالة والحريات.

أيضا يعنى الشّأن العام في العالم اليوم بتحقيق بعد التّعايش، وأن يكون المواطنون والمقيمون في دولة ما سواسية أمام القانون، وما يترتب على ذلك من واجبات وحقوق، وهذا لا يمكن تحققه إلا من خلال حسن التّعامل مع الهوّيّات عن طريق مراعاة الماهيّة.

فتحقيق دائرة الأنسنة، وإنزال الكرامة الإنسانيّة لا يتأتى إلا باعتبار أنّ الأنسنة تتجسد ابتداء من الماهيّة، ثمّ تتسع إلى الهوّيّات من خلال حضور النّزعة الإنسانيّة، بمعنى أنّ خروج الإنسان إلى الحياة متجسّدا من نفس وروح، هذا النّفس الواحدة وإن اختلفت ألوانها وأشكالها، فهي لا تفرْق عن أيّ نفس أخرى، والرّوح الّتي بثت فيها الحياة لا يجوز أن تنزع أو ترفع بأيّ حال إلا بحقّها القانوني، لهذا يولد الإنسان وقد تجسّدت فيه الحرّية والعدالة والمساواة وما ينتج عنها من قيم كبرى.

هذا الإنسان من خلال الكسب التّقليدي والبحثي والمعرفي سيتشكل وفق هوّيّات متعددة، كهوّية اللّغة والمعتقد والدّين والمذهب والعادات والتّقاليد والعرف الاجتماعي ونحوها، فهذه هوّيّات كسبيّة لا تنزع، وحق الإنسان فيها، ولكن في الوقت نفسه لا تكون حاكمة على الماهيّة، فإذا كانت الحاكميّة للهوّيّة سنخرج من الأنسنة إلى الإنسانويّة، ومن تحقيق الكرامة وفق النّزعة الإنسانيّة إلى عالم الاستبداد وهيمنة الهوّيّة الواحدة.

ولكي لا أبتعد كثيرا عن الواقع من خلال الدّولة القطريّة الّتي يتشكل بها عالم الإنسان اليوم، فلكلّ دولة قطريّة أغلبيّة وأقليّة من حيث الدّين والمذهب واللّغة والجنس والعادات والتّقاليد، فتغليب هوّيّة على هوّية أخرى يخرجنا من دولة المواطنة إلى دولة القبيلة والجنس والمذهب، ومن تحقق السّلطة الواحدة الحافظة للماهيّة بين الكل إلى تشكل شبه سلطات وفق هوّيّات متنازعة، وهذا ما نجده في العديد من الدّول القطريّة الّتي يكثر فيها النّزاعات العرقيّة والدّينيّة والمذهبيّة والأثنيّة عموما، بمعنى أنّ دولة المواطنة من حيث الشّأن العام لا يوجد فيها أغلبيّة وأقليّة، ولكن يوجد فيها مواطنون وفق ماهيّة واحدة، ولكن من حيث الهوّيّات فطبيعي وجود أغلبيّة وأقليّة، ولكنها تبقي في جانبها التّعددي الطّبيعي.

والانطلاق من الماهيّة والالتفات إليها كمقياس إنسانيّ جامع يولّد العكس، أي يؤدي إلى الحفاظ على الهوّيّات واستثمارها إيجابيّا في المجتمع، فالتّعدديّة إمّا أن تكون تكوينيّة وهذه مرتبطة بالماهيّة، وإمّا أن تكون كسبيّة فهذه مرتبطة بالهوّيّة، فكون اختلاف النّاس في اللّون والشّكل لا يفرق في اختلافهم لغة ودينا ومذهبا وعرفا، فالماهيّة حافظة للجميع، وبالتّالي اتّساع دائرة التّعايش والتّعارف، وفي الوقت نفسه نقترب من جانب إحياء الإنسان وإنمائه والرّقيّ به، تحت مظلّة الدّولة القطريّة كهوّيّة في حدّ ذاتها متضمّنة لهوّيات متعددة في داخلها، أو تحت مظلّة هوّيّات عالم الإنسان في العالم أجمع، ليكون الرّابط في المجتمع العالمي والقطري البناء والإحياء، وليس التّنافر والصّراع.

السابق
مقدّمة الحلقة النّقديّة حول كتاب أيام رمضان
التالي
الاتّجاهات الخمس في مفهوم الدّولة العلمانيّة في العالم الإسلامي
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً