جريدة عُمان 1443هـ/ 2022م
أخطر ما يهدّد المجتمعات البشريّة إحياء الصّراعات الأثنيّة كانت عرقيّة أم دينيّة أم تأريخيّة أم مذهبيّة، فهذه مكونات انتمائيّة كسبيّة طبيعيّة، لكن أن تجعل أداة للصّراع بين البشر، واستغلالها سياسيّا وطائفيّا، في زمن تقاربت فيه الشّعوب، وأصبح المخفيّ ظاهرا، والبعيد قريبا، والإعلام كشف الواقع على حقيقته، دون قصّ من رقيب، أو تهذيب من لبيب.
والأديان جزء من هذا الانتماء البشريّ، لا يمكن إلغاؤها أو تجاوزها، فيعتقد بها ملايين من البشر، ويمارسون طقوسها المتضاربة والمتناقضة معا، لإشباع حاجة الرّوح، وإرواء غريزة التّديّن، فيجدون فها شيئا من الأمان من الخوف من المجهول ولما بعد الموت، وإجابة لبعض أسئلتهم الوجوديّة.
لهذا تعدّدت الأديان، وتباينت في تفسيرها للوجود، واختلفت في توصيفها لموجد الوجود، فمنها عدّدت، ومنها وحدت، ومنها من جعلته خارج العالم، ومنها من جعلته في العالم ذاته، ومنها من بالغت في تشخيصه، ومنها من كانت دون ذلك، ثمّ تباينت في طرق الوصول إليه، وإن كانت الغاية واحدة، إلا أنّ طرق الطّقوس مختلفة، مع تشابه مسمياتها من صلاة وصيام وحجّ وتوسل واستغاثة وقربان.
لهذا لا يمكن بحال فصلها عن الإنسان وطبيعته، كما لا يمكن دمجها في زاوية واحدة، فكلّ ما يمكن فعله هو البحث عن جوهرها المشترك في خدمة المجتمع الإنسانيّ ككل، فإذا لصقت بالأديان من سوءات تفسيرات التّأريخ، وزيادات وتحريف الأحبار والرّهبان والسّاسة؛ إلا أنّ فيها من جوهر القيم ما يمكن تعزيزها من خلال مصاديق الأديان، فهناك مصاديق تدعو إلى العدل والمساواة والحبّ والرّحمة والإحسان والعلم والإيثار والإخاء ما يمكن جعل ذلك وسيلة في الرّقي بالمجتمع الإنسانيّ، مع احترام الخصوصيّات العقديّة والطّقوسيّة، وجعلها تتدافع في شكلها الطّبيعيّ المعرفيّ، وليس عن طريق الصّراع بين البشر، وإشاعة الطّائفيّة بينهم، وإشعال نار الحرب لتصرّفات طائشة من هنا وهناك، {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحجّ: 40].
ثمّ طبيعة النّاس في الأديان أنّهم مسالمون بفطرتهم، فقد اكتسبوها ولادة، ووجدوا فيها ذواتهم ووجودهم، وتعصّبوا لها فطريّا لأنّها تجسّدت في آبائهم وأسلافهم، فصيغت لتدينهم كرامات خارقة، ومعاجز وأساطير يتوارثون رواياتها، ويقتدون بأصحابها، وإن خالفت العقل والواقع، إلا أنّ هذا هو الحدّ الطّبيعيّ، ليشتغلوا بعدها بأشباع شهواتهم وغرائزهم وفق مظلّتها وروحها، منغمسين في التّجارة والزّراعة وكسب العيش، ومجابهة الواقع، وهذا غالب النّاس في المجتمع الإنسانيّ.
وهناك فئة من داخل الأديان نفسها من تميل إلى العقل والنّقد، والتّساؤل والبحث، غير مقتنعين بالواقع، ولا مستسلمين لما يروى ويذكر فيها، وهذا لا يخلو منه دين ولا ملّة، فمنهم الفلاسفة المتأملون، والعلماء المصلحون، ومن الأديان فئة الأحبار النّفعيين والبرجماتيين، وهم فئة مستفيدة وجاهة ومالا، {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التّوبة: 34]، ومنهم غنوصيون يبالغون في جوهر الرّوح والباطن، ومنهم سلفيون شكليون يبالغون في حرفيّة النّص والطّقوس، ومنهم ما بين ذلك بدرجات.
هذا الحدّ طبيعيّ منذ بدايات الأديان وتطوّرها، فهناك تمايز بين الدّين ككونه يشكل انتماء وخصوصيّة لمجتمع ما، وبين كونه معزّزا لماهيّة الإنسان في خدمة المجتمع البشريّ وإحيائه ونمائه، فهذا يقرّبنا من الذّات الإنسانيّة، ويبعدنا عن الصّراعات الانتمائيّة والهويّاتيّة، وهو الأصل في المجتمع الإنسانيّ، وهي حالة التّعقل والحكمة الّتي أرشدت إليها الأديان ذاتها، {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} [المائدة: 32]، فقتل نفس واحدة أو فسادها بحرمانها من حقّ الحياة أو التّعليم أو الصّحة أو الغذاء أو الأمن أو الحريّة، أيّا كان دينها وتوجهها وجنسها ولونها؛ فكأنّما قتل النّاس جميعا، والعكس صحيح من أحياها حياة وتعليما وصحّة وغذاء وأمنا وحريّة فكأنّما أحيا النّاس جميعا.
الإشكالية الكبرى لا تتوقف عند هذا الحدّ؛ بل عندما تمتدّ إلى صراعات السّاسة، بجعل هذا الاختلاف لتحقيق مصالح سياسيّة، ومنافع دنيويّة، فيمكنون المتطرفين والمتعصّبين من كلّ دين ومذهب وهم أقليّة، ويهيّجون عامّة النّاس في خلق صراعات بينهم، وانتصارات لا واقع لها، إلا إثارة الكراهيّة، وقد تمتدّ إلى حروب طائفيّة، وتمييز في العدل الاجتماعيّ، وإرهاب في الاستقرار الأمنيّ، وتضييق في الجانب المعيشيّ، ليفسدوا الأرض بعد إصلاحها باسم الدّين والمقدّسات، وباسم الله والغيب والنّصوص المقدّسة عند كلّ دين، فيخلطون بين المطلق والظّرفيّ، والتّأريخ والواقع، والقيم والمصاديق، والإنسانيّة والخصوصيّة، وكلّ يستخدم نظارتين، محدّبة في كشف عوار الآخر والتّهييج ضدّه، وملونة مع الذّات ورومانسيتها، والخاسر من هذا جميعا، هو الإنسان الأول الّذي أشرنا إليه، المتسالم بفطرته، المتعايش مع الأديان ولادة، حيث يجد فيها ذاته ووجوده، فيسعه ذلك مقابل تحقّق كرامته الإنسانيّة، وإشباع غرائزه البشريّة الطّبيعيّة، حتى يفد إلى عالمه الآخر.
وما حدث في الهند من إساءة للنّبيّ محمّد – صلّى الله عليه وسلّم – من قبل المتحدّثة باسم حزب بهاراتيا جانتا من أمثلة ذلك ما يحدث اليوم، من قبل فئة هندوسيّة متعصبة، استغلت واقعها السّياسيّ في إحياء الطّائفيّة بين الهندوس والمسلمين، وفي بلد عرف بالتّعايش والسّلم في مجتمع متعدّد الأديان والطّوائف والعرقيّات، كما أنّه متعدّد في اللّغات والعادات والأعراف والثّقافات.
وإذا كانت الأغلبيّة في الهند للهندوس، ويعتبر المسلمون أقليّة، إلا أنّهم من حيث العدد يتقتربون من مائتي مليون مسلم، وهذا عدد كبير جدّا، ثمّ الإساءة إليهم إساءة إلى ديانة تتجاوز المليار في العالم أجمع، مع وجود أقليّة أيضا في الهند من البوذيّة والجينيّة والأطياف الأخرى كالزّرادشت واليهوديّة والمسيحيّة والسّيخيّة والبهائيّة وغيرها.
وإذا كانت الهند تحرّرت من أكبر استعمار لها وهو الاستعمار البريطانيّ، حيث تحرّروا بشعار اللّا عنف، وارتبطوا بأعظم شخصيات القرن العشرين “مهاتما غاندي” [ت 1948م]، ممّن جسّد السّلم ثورة وواقعا، وشاركهم المسلمون في ذلك، ليكوّنوا دولة ديمقراطيّة دستوريّة قائمة على المواطنة، من بنودها في الهند احترام الطّوائف والأديان، ومن حقّ كلّ مواطن ممارسة أيّ دين يختاره، مع احترام كلّ دين ومذهب وطائفة، مع أنّ دولة المواطنة لا يوجد فيها أقليات دينيّة ولا عرقية من حيث القيم الكبرى ومصاديقها الإجرائيّة، ولا يمكن أن يستثنى من ذلك أحد بحال، كانوا مسلمين أم غيرهم.
وإذا كانت هناك ثمّة صراعات تأريخيّة ودينيّة وعرقيّة ماضويّة، فهذا ملف تتجاوزه المواطنة والدّولة العصريّة، ولا يجوز إحياؤه لتقريب هذا، أو إبعاد ذاك، لإرضاء فئة كانت أقليّة أو أكثريّة من حيث العدد، أو من حيث قربها من الحزب الحاكم ودينه ومذهبه، فهذا يتعارض مع المواطنة المبنيّة على المساواة والعدل وكرامة الذّات الإنسانيّة، بعيدا عن أيّ انتماءات خارجيّة، أي خارج الذّات.
وهنا علينا أن نمايز بين النّقد المعرفيّ، وبين الإثارة والاستغلال السّياسيّ والطّائفيّ، فالأول حقّ الجميع، ولكن بطرقه المعرفيّة والمنهجيّة، والبحثيّة الأكاديميّة، وموجود منذ القدم بين الأديان والمذاهب، فكلّ ينقد الآخر لاهوتا وطقوسا، فلم تحدث بذلك حروب، ولا صراعات طائفيّة، فهو كلام جدليّ لا يتعدّى الواقع، أمّا أن يتحوّل إلى إثارة من قبل طوائف متعصبة، أو يستغل في أقصاء الآخر، أو إثارة الطّائفيّة؛ فهذا يهدّد الوجود الإنسانيّ، ولا يجوز الوقوف معه، من أيّ ملّة ودين كان، فلمّا قامت داعش باسم الإسلام، وفعلت فعلتها ضدّ طائفة اليزيديين في العراق وهم أقليّة من حيث العدد الإحصائيّ، الجميع وقف ضدّهم، ومن المسلمين عموما في شرق الأرض ومغاربها، وحاربتهم الدّولة العراقيّة، وهي دولة مسلمة، فكذلك لا ينبغي السّكوت عمّا تفعله بعض الجماعات الهندوسيّة المتعصبة ضدّ المسلمين في الهند، مع علمي بالمئات من الهندوس وإخوانهم من الأديان الأخرى، والّذين يرفضون هذه الممارسات والاضطهادات، خصوصا في الهند، وهي قد تقدّمت بشكل كبير في وضع الدّيمقراطيّة والمواطنة.
ما أريد قوله نحن بحاجة أن نتجاوز التّجييش العاطفيّ أولا، واستغلال الأديان ومروياتها وخصوصيّاتها وأساطيرها ثانيا، لأسباب سياسيّة وطائفيّة متعصبة، علينا تجاوز ذلك إلى مرحلة التّعقل، وأن تتشارك الأديان جميعا في السّلم العالميّ، وتحقيق العدالة الاجتماعيّة، فهناك ملايين من البشر ممّن يعانون من الاضطهاد والجوع والتّشريد والجهل والمرض والفقر والعبوديّة المعاصرة، هذا الّذي ينبغي أن تشترك حوله الأديان في العالم أجمع، وهذا الّذي جاءت به الرّسالات والفلسفات، وبه جاهد الأنبياء والحكماء، ولا أريد بهذا تخصيص الهند، بقدر ما أريد العالم الإنسانيّ ككل، بمختلف أطيافه وأديانه وتياراته وتوجهاته، {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].