جريدة عُمان 1443هـ/ 2022م
تطوّر العقل الإنسانيّ في الجانب المدنيّ ليتجه من دول معدودة، في ضوء التّوسع الامبراطوري، تتحكم في مصائر شعوب، وتمارس استبدادها بلا مسائلة تجاه أمم وأقليات ينضون تحتها جغرافيّا، إلى دول قطريّة محكومة بمنظومة عالميّة تحت مظلة حقوق الإنسان.
ساير هذا تطوّر العقل الإنسانيّ في سياسة الدّولة لينتقل بها من دولة الرّعيّة إلى دولة المواطنة، فلا يمكن عزلها عن منظومة حقوق الإنسان، وهذا لا يمكن تحقّقه إلا باقتران المواطنة بالفردانيّة، حتّى لا تكون رهينة لطغيان الهوّيّة، ونفعيّة شخوص أو فئات معينة باسم مصلحة الجماعة.
وسبق الحديث في مقال لي في هذه الجريدة “جريدة عُمان” حول “الهوّيّة من حيث النّزعة الفردانيّة”، لهذا أحاول التّركيز هنا حول قضيّة المواطنة ذاتها، فالمواطنة من الوطن، وفي القرآن الكريم: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} [التّوبة/ 25]، إلا أنّه كمصطلح شاع حديثا بقوّة في عصر الأنوار، وجاء مرتبطا بالفردانيّة بشكل أكبر.
وسبب ارتباطه بالفردانيّة لأنّه حدث طغيان على حقوق العديد من الأفراد، وسلب لحقوقهم الإنسانيّة المشروعة، وعدم تحقق المساواة باسم الهوّيّة، وباسم مصلحة الجماعة مقدّمة على مصلحة الفرد، إلا أنّه بالتّعمق في هذه العبارة لن تجد هنا الجماعة بمعنى مجموع المجتمع بجميع أفراده، بقدر ما تجد فئات سياسيّة أو قبليّة أو دينيّة أو ماليّة تنتفع بحقوق شريحة كبرى من المجتمع، وتسن لها من القوانين بحكم السّلطة القانونيّة والدّينيّة ما يشفع لها ذلك، ويخرجها من دائرة المسائلة والمحاسبة.
وارتباطها بالفرد لا يعني إلغاء الجماعة، بقدر ما يجعل جميع أفراد المجتمع متساويين من حيث الماهيّة الواحدة، لتتحقق من خلال فردانيّتهم وذواتهم الكرامة الإنسانيّة الملازمة للمواطنة، وعليه الأمور الإجرائيّة منضبطة بمظلة العدل، ولا يمكن تحقق ذلك دون سعة لحريّات الأفراد في المجتمع.
لهذا يرى عامر ناصر شطارة [معاصر] في مقالته البحثيّة “الفردانيّة في الفلسفة الحديثة كيركيجارد أنموذجا” أنّ الفردانيّة مركبة من “الاستقلاليّة والحريّة والحقوق والمساواة والعدالة والهوّيّة الّتي تؤلف مجتمعة مفهوم الفرديّة كما عرّفتها المجتمعات الحديثة”، ويرى جون لوك [ت 1704م] أنّ “الحقوق الأساسيّة للفرد: حقّ الحياة، وحقّ الامتلاك، وحقّ الحريّة”.
بيد أنّه كما أنّ لكلّ دولة قطريّة هوّيّات انتمائيّة، إلا أنّها ليست حاكمة على المواطنة، وإنّما المواطنة حاكمة عليها، ليس بمعنى الإلغاء، وإنّما الحفاظ عليها بما يخدم الجميع على حدّ سواء، وهنا المواطنة مرتبطة بقيم المساواة والعدل على اعتبار القيمة الإنسانيّة الواحدة للفرد، فلا يشعر المختلف لونا أو قبيلة أو مناطقيّا أو دينا أو مذهبا أو لغة بالغربة في هذا الوطن، بل يشعر بالانتماء الحقيقي لكونه إنسانا يشمله قانون واحد لا يفرّق بينه وبين غيره.
فلا يمكن تحقق انتمائيّة الجماعة بعيدا عن فردانيّة المواطنة؛ لأنّ الشّعور الانتمائي مبنيّ على الحقوق الفرديّة في ضوء الكرامة والمساواة والعدل والحريّة، ممّا يوّلد في ذاته من الاطمئنانة الذّاتيّة تجعله يعيش حالة من الاستقرار الدّاخليّ، والاطمئنان الذّاتيّ، ممّا يسقط أثره على الواقع كمواطن صالح، بناء على إنسانيّته وفردانيّته، وليس باعتبار الانتماءات الكسبيّة، والهوّيّات الضّيقة.
وهنا ثلاث مصطلحات متداخلة: الوطن والمواطنة والوطنيّة، والمدار هو المواطنة، أمّا الوطن فهو الرّقعة الجغرافيّة تحت مسمّى الدّولة القطريّة، هذه الدّولة تحوي هوّيّات وانتماءات متعددة، يسوسها نظام ودستور واحد خارج هذه الانتماءات، ويعلو عليها، وأمّا الوطنيّة فهو شعور وجدانيّ، قد يكون صادقا، وقد يكون كاذبا، فهناك من يرفع شعارات الوطنيّة، ولكنّه في الواقع تهمّه مصالحه الشّخصيّة، أو مصالح قبيلته وعشيرته، أكثر من الوطن ذاته.
لهذا تكون المواطنة ليست شعارات أو أغانيّ أو أهازيج أو صور بقدر ما تكون واقعا ملازما للفرد، ومحافظا على الجماعة، وفق حقوق مقدّمة، يشعر حولها جميع أفراد الوطن بالمساواة، ليطلب منهم واجبات وفق دائرة العدل الّتي تسعهم جميعا، وكما أنّ الذّات الفرديّة قبل الانتماءات الهوّياتيّة، فكذلك الحقوق قبل الواجبات، وهذا ليس من باب النّفعيّة البرجماتيّة؛ لأنّ الوطن أوسع من ذلك بكثير جدّا.
وعليه لا يمكن تحقق مواطنة صالحة في بعدها الفردانيّ والإنسانيّ إلا إذا تحققت المبادئ الأربعة السّالف ذكرها، وإلا كانت هذه المواطنة الصّالحة مجرد صورة شكليّة لنفعيّة شخصيّة أو هوّيّاتيّة، سرعان ما تظهر سوءاتها في المجتمع على المدى البعيد، وتشكل عائقا أمام تقدّم المجتمع، وتحقيق المساواة والعدالة فيها، ممّا يؤثر على الجانب الأمنيّ والاستقراريّ على المدى البعيد.
ولئن كانت الكرامة الإنسانيّة صفة ملازمة للفردانيّة، وبها تتحقق المواطنة الصّالحة في بعدها الذّاتيّ، هذه الذّاتيّة تتمثل في حقّ الفرد في المواطنة يماثل حقّه في الحياة، فكما لا يجوز أن تزهق روحه بدون حق، فكذلك لا يجوز سلب المواطنة عنه، كأن يحبس أو يقيّد أو تسلب حرّيّته أو شيء منها بأيّ صورة كانت، أو يجعل في درجة ثانية من المواطنة، فدرجة المواطنة واحدة، وهذا يشمل أبعد من ذلك فيما يتعلق بالمقيم والزّائر حسب العدل في الأمور الإجرائيّة، إلا أنّ الذّات الإنسانيّة واحدة بين الجميع.
وعليه المدار الذّي تدور عليه كرامة المواطن الذّاتيّة والفردانيّة حقّه في المواطنة، يلازمه حقّه في التّمتع بهذه المواطنة، كما يلازم حقّه في الحياة؛ حقّه في التّمتع بوجوده في الحياة ذاتها، وهذا التّمتع في المواطنة مبنيّ على قيمة المساواة والعدل، وهما قيمتان مطلقتان، لا تمايز بين أحد فيهما، كان ذكرا أم أنثى، صغيرا أم كبيرا، أبيضا أم أسودا، أيّا كان دينه ومذهبه وقبيلته ومنطقته وتوجهه الفكريّ والمعتقديّ.
ومن قيمة المساواة والعدل ينتظم دستور ونظام البلد، ولا يعلو شيء على هذا الدّستور، ومصاديقه حافظة للكرامة الإنسانيّة، وهنا يأتي مساق الحريّة، الّتي تفتح لجميع الأفراد تحت ظلّ المواطنة مساحةً واسعة من الإبداع والإنتاج، حيث يجدون الفضاء الّذي يعينهم في تحقيق ذلك، ممّا تتنوع هذه الإبداعات، وتخلق بذاتها حالة من النّهضة والتّقدميّة لهذا الوطن في حدوده الجغرافيّة القطريّة، كما يساهمون أيضا في خدمة المجموع الإنسانيّ، وهو الفضاء الواسع في هذا العالم الأكبر.
وبدون تحقيق للكرامة الفردانيّة لا توجد حريّة، وبدون حريّة لا يوجد إبداع، وإذا ارتفع الابداع جمدت الأوطان، فإن جمدت تخلفت سننها، وتراجع تقدّمها، وانخفظ بنايناها، فالأوطان ترفع بالإنسان الّذي يجد كرامته فيها، وليس بالبنيان والجماد، وإنّما ذلك أثر للأول، وديمومته بالحفاظ على الأول ذاته.
لهذا كما أسلفنا هناك تلازم وثيق بين المواطنة والفردانيّة، وهو الأصل من جوهر الرّسالات والفلسفات، إلا أنّه كما يرى ليف تولستوي [ت 1910م] في كتابه “في الدّين والعقل والفلسفة” يحدث استغلال المواطنة استغلالا سلبيّا لا يقتصر فقط عند التّلاعب بالنّصّ الدّينيّ وتحريفيه، بل يمتدّ إلى أنّهم “يكتبون مئات الكتب عن المبادئ المختلفة: المدنيّة، والجنائيّة، الشّرطيّة، والكنسيّة، والماليّة، الخ، ويتحدّثون ويتجادلون وهم على ثقة كاملة أنّ ما يفعلونه مفيد … ولكن التّساؤل عن سبب إمكانيّة إدانة وإجبار بشر متساويين بالطّبيعة، وسلبهم وإعدامهم، لا يجيبون عنه أبدا … هذا العنف لا يقوم به النّاس، بل كائن مجرد يدعى الدّولة”.
وهذا لا يعني كما أسلفنا إلغاء الهوّيّة والانتماءات، إلا أنّها مرتبطة بهوّيّة الدّولة القطريّة، وهوّيّة الدّولة لا يمكن تحققها بمعزل عن تحقق كرامة الأفراد كما يرى هانس كونغ [ت 2021م] في مقاله البحثيّ “أخلاق عالميّة أساس لمجتمع عالميّ” أنّه “لكلّ كائن بشريّ دونما تمييز على أساس السّن والجنس والعرق والبشرة واللّون والقدرة البدنيّة أو الذّهنيّة واللّغة والدّين ووجهة النّظر السّياسيّة أو الجذور الاجتماعيّة يتمتع بكرامة ثابتة لا يمكن المساس بها”، وبهذا تتحقق المواطنة الصّالحة في وطن يسع الجميع، ويشعرون بالاطمئنانة والأمن من داخل ذواتهم وهم ينتمون إليه قبل أي انتماءات كسبيّة أخرى.