الحوارات

حوار الوطن العمانيّة حول كتاب الجمال الصّوتي:ّ تأريخه ورؤيته الفقهيّة، مراجعة في النّص الدّينيّ حول الغناء والمعازف

جريدة الوطن العمانيّة، عدد 13245، الاثنين 23 مارس 2020م.

الوطن: نبدأ من حيث عنوان الكتاب والسفر في عوالمه، لماذا هذا العنوان في الوقت الراهن؟ كيف استطعت الدخول إلى تلك العوالم؟

العبري: أولا أشكر لجريدة الوطن الغراء على إعطائي هذه الفرصة للحديث حول الكتاب، وهو كما أشرتم عنوانه: “الجمال الصوتي: تأريخه ورؤيته الفقهيّة، مراجعة في النّص الدّينيّ حول الغناء والمعازف“، وأصل عنوان الكتاب: “الغناء والمعازف بين الحلّ والتّحريم: دراسة تأريخيّة فقهيّة روائيّة“، حيث أنني قدّمته كبحث تخرج من كليّة العلوم الشّرعيّة والّذي كان يسمى حينها معهد العلوم الشّرعيّة في روي بولاية مطرح لعام 2002/2003م، وكان الرّبط بين التّأريخ والنّص، لما في التّأريخ من أثر في إسقاط النّص من جهة، وفي وضع نصوص تساير الوضع التّأريخي إيجابا وسلبا من جهة ثانية، فيدخل الأول في التّأريخيّة، ويدخل الثّاني في التّاريخانيّة، وجميعها نتيجة الاستخدام السّلبيّ أدّى إلى النّظرة السّلبيّة من خلال الجماهيريّة، حتى حكى العديد الإجماع، فانبرى مجموعة من الأوائل في نقض الإجماع والأدلّة كابن حزم [ت 456هـ]، والغزاليّ [ت 505هـ] والشّاذليّ [ت 882هـ]، وغيرهم، إلا أنّ الشّوكانيّ [ت 1250هـ] خصّص مؤلفا لهذا عنونه: “إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السّماع“.

بيد أنّ هذه الآراء الإيجابيّة لم تلق قبولا عدا في الاتجاهات الصّوفيّة، أو بعض السّياسات المنفتحة نوعا ما، حتى أتت الصّحوة الإسلاميّة، ولبست لباس السّلفيّة المتشددة، فصوّرت الجانب السّلبيّ المطلق المجمع عليه في هذا الجانب، ورتبوا عليه التّفسيق والبراءة، وضيّقوا المسّألة بشكل كبير، وأصبحت من قضايا الدّين لا الرّأي، فلهذا نتيجة التّشدد الكبير الّذي عايشته وأنا في مقتبل الطّلب والعمر أي في نهاية القرن العشرين وبداية الألفيّة مع وجود أصوات أكثر انفتاحا إلا أنّها كانت حينها خجولة، أو ينظر إليها نشازا، فبدأت أكتب في هذا الجانب وأبحث فيه، وكان الهدف من البحث ليس الوصول إلى الحلّ أو الحرمة بالشّكل المطلق، بقدر ما كان الهدف إثبات أنّ هذه المسألة من مسائل الرّأي الواسعة الّتي لا يترتب عليها تفسيق ولا براءة.

ثمّ لمّا تقدّم الزّمان رأيت النّظر في الموضوع من جديد، ولكن من باب فلسفة الجمال، مع التّوسع بشكل أكبر في الجانب التّأريخيّ والظّرفيّ، ومبحث الأدلّة، لهذا كان العنوان: الجمال الصّوتيّ، مربوطا بالجانب التّأريخيّ، والرّؤى المنفتحة، ثمّ الانطلاق إلى الجانب الفقهيّ والرّوائيّ، وبعض التّطبيقات المعاصرة، كغناء المرأة، والتّكسب بالغناء، وتعلّمه وتعليمه، واستخدام الموسيقى في العلاج وغيره ممّا ذكرته في خاتمة الكتاب.

الوطن: حيث الغناء وتطوره في التأريخ، ماذا استنتج الكاتب بدر العبري من خلال ذلك الارتحال في عصور الغناء المتعددة؟

العبري: في الحقيقة تطرّقت إلى الغناء وما يستخدم فيه من آلة منذ بداياته الأولى، وكما أسلفت في الكتاب أنّه شيء فطريّ، فأوتار حنجرته، ودقات يديه، وضربات أقدامه؛ أول آلة استخدمها الإنسان، كما أنّ قسوة الطّبيعة وشدّتها جعلته يبحث عمّا يسلي به نفسه، فكانت المحاكاة، فهنا قام بصنع آلات محاكاة للطّبيعة، وتسهيلا في ذلك، فبدأت تتطور شيئا فشيئا من الحضارة المصريّة القديمة وحتى الإغريق الّذين حولوه إلى علم قانونيّ وفلسفيّ، وبدأ في عصرهم تنشأ فلسفة الجمال.

لكن الّذي يهمنا هنا العصر الجاهليّ والنبويّ لارتباط ذلك بنزول النّص، ثمّ ما بعده خصوصا الأمويّ والعباسيّ لارتباطه بتدوين النّص، ووضع نصوص جديدة مسندة إلى النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – أو إلى الصّحابة والتّابعين، أو إلى آل البيت، كما ارتبط العصر العباسيّ خصوصا بالانفتاح السّياسيّ والفلسفيّ، خصوصا في عصره الأول، والانغلاق السّياسيّ والدّينيّ خصوصا في عصره الثّاني، ومع هذا تطرقت أيضا إلى الأمويين في الأندلس وظهور الموشحات وانتقال الفلسفة الجماليّة الإغريقيّة والإسلاميّة إلى أوروبا، والفاطميين وظهور الموالد، والأيوبيين والمماليك والصّفويين والعثمانيين، ثمّ عصر النّهضة والتّنوير، وأخيرا العصر الحديث، كما أنني خصصت مبحثا عن التّأريخ العمانيّ، وخصوصا ما يتعلّق بالسّلام السّلطانيّ، ومتى نشأ، وما أقدم قطعة وطنيّة عمانيّة.

وبطبيعة الحال ربما أعطى هذا المبحث التّأريخيّ معرفة الجانب الأفقيّ المتقدّم تارة فنّا وتأصيلا وفلسفة، والمتأخر تارات أخرى، كما أنّه أعطى معرفة الجانب الرّأسيّ المهم في التّعامل مع النّص الدّينيّ ذاته.

وعموما تبين لي أنّ دراسة هذا الجانب من حيث الحلّ أو الحرمة لا قيمة له؛ لأنّ الأصل فيه الجمال والإباحة الفطريّة، وبالتّالي تقييده يعود إلى مصاديق خارجيّة قد تقيّد بعضه، أو تضع له ضوابط تقنينيّة، ولكن لا تبطل أصله بالكليّة.

الوطن: لديك باب مهم في هذا الكتاب تحت عنوان “الجمال في المنظور القرآني” ، دعنا نقترب منه؟ نود التعرف عليه؟

العبري: في الحقيقة ربما يكون الغزاليّ [ت 505هـ] من أوائل من التفت إلى هذا ولكن في شكله الكونيّ المطلق، وكذا إخوان الصّفا وخلان الوفا في رسائلهم، إلا أنّ محمّد عمارة [ت2020م] تطرّق إلى الجمال القرآنيّ في كتابه “الإسلام والفنون الجميلة” بشكل أوسع، وتابعه القرضاويّ [معاصر] في كتابه “الإسلام والفنّ“، ومن أتى بعدهما فهم عالة عليهما.

لهذا ذكرت في الكتاب في ص: 100 – 102 أنّ عمارة يرى أنّ “الآيات القرآنيّة تنطلق بالإنسان بداية إلى جمال الكون، مثل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام/ 99]، والإنسان أمر بالنّظر في هذه الآيات الكونيّة والتّمتع جماليّا بها، وبيّن أنّ الله تعالى استخدم في بعض الآيات حتى عبارات الجمال نحو قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} [الحجر/ 16]، فلفظة الزّينة هي لفظة جمال، والقرآن الكريم أمر المسلم بالتّزين والجمال، وفي الوقت نفسه أنكر فيمن شدّد وحرّم ذلك على نفسه، أمّا الأول فيظهر من خلال قوله تعالى: {يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف/ 31]، وأتبعها مباشرة بقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف/ 32]، ثمّ عرّج عمارة إلى نماذج عملية للجمال النّبويّ كمثل تسريحه – صلّى الله عليه وسلّم – لشعره، وتزينه وتعطره، وظهوره الجماليّ في لباس وحسن هيئته، واختياره لأصحابه الاسم الحسن، وكان يحب الجميل من الطّعام، بلا تقتير ولا إسراف، وحبّه للصّوت الحسن، وتحببه إلى خدمه وحسن معشره، وعدم إنكاره على النّاس في لهوهم في أعيادهم، أي ما يسمى اليوم بالفنون الشّعبيّة”.

وعليه القرآن يقرر نظريّة الجمال، ومن الجمال الجمالُ الصّوتيّ، فلا يمكن الحال أن ينظر إليه بسلبيّة مطلقة.

الوطن:  كيف حاول الكاتب تفنيد الغناء والمعازف وقربها من المدارس الفقهية؟

العبري: في الحقيقة تطرقت إلى المذاهب الفقهيّة الثّمانية، من الإباضيّة فالزّيدية فالجعفريّة الإماميّة، ثمّ المذاهب الأربعة الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، وأخيرا الظّاهريّة، وحاولت تتبع آرائهم قديما وحديثا، ومع وجود الرّأي السّلبيّ الأكثر بروزا إلا أنّها لا تخلو من آراء أكثر انفتاحا قديما وحديثا، إلا أنّ الرّأي الإيجابيّ أصبح الأبرز حديثا، مع استثنائنا للظّاهريّة حيث يكاد يتفقون على الجواز والإباحة.

بعدها تطرقت إلى مبحث الأدلّة بداية من القرآن فالرّواية فقول الصّحابة، ثمّ الإجماع وسدّ الذّرائع بشكل موسع، وخلصت إلى “أنّه لا يوجد دليل صريح لمنع الغناء والمعازف أو تحريمه، وإلا لذكره الله في كتابه صريحا، وما جاء من نهي لا يخرج عن دائرة العليّة السّلبيّة، فإن ارتفعت عاد إلى أصل الإباحة؛ لأنّه من الجمال الذّي بثه الله تعالى في مخلوقاته، وما حاكاه الإنسان في صنع آلات وأشعار تناغم هذا الجمال، حتى تحول إلى صنعة وعلم يدرس ويتقن، وهذا لا يعني أنّه ليس للبشر حق التّقنين بما يحفظ المقاصد الخمس أو السّت الّتي تدور حولها مقاصد التّشريع والتّقنين”.

الوطن: هناك فلسفة عامة للجمال تفسر ماهية الغناء في عصور متقاربة أيضا، كيف تخبرنا عنها؟

العبريّ: نعم، لعلّك تقصد فلسفة وعلم الجمال، وذكرت ذلك في الكتاب ص: 97 – 99، وملخصه – مع الإشارة إلى المصادر في الكتاب – أنّ “علم الجمال ينتمي إلى علوم الفلسفة، وهو أحدث فرع فيها، ويسمى الاستاطيقا Aesthetics، حيث يرجع هذا العلم إلى نهاية القرن الثّامن الميلاديّ عند الفلاسفة الإغريق، وترى أميرة حلمي مطر [معاصرة] أنّ الجمال والفن نشأ مع وجود الإنسان، إلا أنّه كعلم فلسفيّ نشأ مع نشأة فلاسفة علماء اليونان القدماء…. والجمال في الإنسان وعشقه له فطريّ غريزيّ، لذلك حاول البحث عنه وفهمه ومن ثمّ تقليده، أمّا تقليده فله صور عديدة من ذلك جمال اللّباس … واللّباس تقليد للباس الطّبيعة، وحاول الإنسان تطويره في أشكاله ورسوماته، وتعدد اللّباس في ذاته فنّ إنسانيّ بديع، كذلك قلّد جمال الطّبيعة في صنع بيته والتّفنن فيه، ممّا اعطى للهندسة المعماريّة ذوقا جماليّا وفنيّا، وحاول أيضا تقليد أصوات الطّبيعة في صنع الآلات والألحان، وابتكار المقامات والقواعد الموسيقيّة، بجانب الإبداع الشّعريّ وقواعده، والفنون الشّعبيّة، وفي المقابل كان التّصوير والنّقش والرّسومات الفنيّة، واليوم الإبداع الرّسميّ عن طريق الفوتوشوب والرّسومات الالكترونيّة …. وعلى العموم في نظري أنّ الجمال هو الطبيعة البشريّة الّتي وجدت في أصل الكون، ثمّ عشقها الإنسان فطرة بشريّة فيه من خلال علاقته مع نفسه والكون، فأسقط هذا الجمال في أشكال فنيّة متعددة، ومع تنوع هذه الأشكال وجدت فلسفة الجمال … فالجمال كأصل بسيط سابق للفنّ، والفنّ نتيجة طبيعيّة له، ووسيلة في إسقاطه وتقريبه، أمّا الجمال كفلسفة وعلم فهو متأخر عن الفنّ، والعلاقة بين الغناء والمعازف من حيث قيمة الجمال، أنّ الأول صورة من صور تقليد الطّبيعة ومحاكاتها في جمال الصّوت، والمقامات الموسيقيّة لها أوازن  كالعروض في الشّعر الفصيح، والمنطق في الخطاب والجدال، والنّحو في القراءة والكتابة، والصّرف في الحديث والخطبة، لهذا لا يمكن تحليل الجانب التّأريخيّ بعيدا عن هذه الفلسفة الجماليّة”.

الوطن: من خلال تتبعك لوصول هذا الكتاب ليد القارئ ، كيف وجدت نتائج ذلك الوصول؟

العبريّ: الحمد لله كان الإقبال في المعرض وبعده بشكل جيد وكبير، وهو من المبيعات الأكثر في ركن الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء مع رواية عماني في جيش موسلينيّ لماجد شيخان، وللكتاب طلب حتى من الخارج، وأتصور نفاد طبعته الأولى قريبا.

الوطن: ماذا سنقرأ قريبا للكاتب بدر العبري؟

العبري: قريبا أنشر بحثا محكّما عن الهويّة والأنسنة وواقع المتغيرات في العالم الإسلامي في مجلّة لبنانيّة محكّمة، والّذي آمل أن يتحول إلى مشروع كتاب بسيط كمقدّمة أضيف فيه الظّرفيّة والنّسبيّة في التّعامل مع النّص الدّينيّ، وهو مقدّمة لمشروع أنسنة التّأويل، ولا زلت في بداياته، كما أنّه أشتغل الآن على فلسفة الدّولة، والتّفسير الإنسانيّ للقرآن الكريم، وبعض المخطوطات والتّحريرات، كما أنني أنهيت كتاب عندما ينطق المنبر وهو أهم الخطب الّتي خطبتها في العشر السّنوات الماضية، وأرجو أن يرى بعضها النّور قريبا، مع الشّكر لكم مرة أخرى لي إتاحة هذه الفرصة في جريدتكم التّأريخيّة المباركة.

السابق
مواضع استخدام القرآن للفظتي بني إسرائيل واليهود وتطابقه تأريخيا
التالي
لقاء مجلّة التّكوين حول القناة اليوتيوبيّة “قناة أُنس”
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً