مجلّة نزوى، عدد 109
لطالما كانت مسألة الغناء والمعازف مثار جدلٍ وخلافٍ في التراث الدينيّ الإسلاميّ، فقد استفاضت المدارس الفقهيّة في النقاش حول النصوص الدينية المرتبطة بالغناء تحليلا أو تحريمًا. ولا مبالغة في القول بأنّه يكاد لا يخلو مجموع فقهيّ في تراثنا الإسلاميّ من باب يتناول هذه المسألة، فضلا عن الكتب الكاملة التي تناولت هذا الموضوع خصّيصًا. بيد أنّ ما يميّز كتاب «الجمال الصوتيّ، تاريخُه ورؤيته الفقهيّة» لبدر العبري، الصّادر عن الجمعيّة العُمانية للكتاب والأدباء 2020، أنه لا يتناول رؤية «العقلَ الفقهيّ» للغناء وآلات العزف بمعزل عن الظّرف التاريخي والاجتماعيّ المحيط به.
الكتاب إذن؛ ليس مسردًا خالصًا لما ورد في المدوّنة الفقهيّة من آراءٍ وأقوالٍ حول مسألة الغناء والمعازف في التراث الدينيّ؛ بل هو نظرٌ بحثيٌّ يلِجُ إلى هذا الإشكال الفقهيّ من بوّابتي الفلسفة والتاريخ، نظرٌ كرونولوجي يتوخّى فهمًا أوسع وأشمل لهذه الظاهرة المكرورة، التي دام الجدل فيها طوال أربعة عشر قرنًا من الزمن، وما زال.
يوسّع العبري أفق البحث والنّظر في إشكالات هذه القضيّة من خلال مسارات ثلاثة: التاريخ، وفلسفة الجمال، واستدلالات المدوّنة الفقهية. فإذا كانت «مراجعة الموروث الدينيّ»، والنظر في الاستدلالات الفقهية هي هدف الكتاب وغايته؛ فإننا نجده -سعيًا للإحاطة بالظرف التّاريخي والاجتماعيّ- يقدّم أولا «فَرْشًا» تاريخيّا حول علاقة الإنسان الأولى بآلات العزف وتطور مسيرة الغناء عبر التّاريخ، راصدًا حضور الفنون الغنائية وآلات العزف في التراث العربي والغربيّ، ثم يدرس ثانيًا علاقة الغناء بفلسفة الجمال، مقاربًا العلاقة التلازمية الرابطة بين الفنون الجميلة وفلسفة الجمال، باحثًا مدى اقتراب التأصيل الفقهيّ الموروث من مفاهيم فلسفة الجمال.
وفي العموم؛ تنتظم الكتاب فكرة تخليص «الجمال الصوتي»، عزفًا وغناءً، ممّا شابه من التباسات التاريخ والشروط السياسية والاجتماعية؛ لذا راح الكتاب يتتبع الظاهرة، وما لابسها من ظروفٍ وأحوالٍ رافقتها عينُ الفقيه تحليلًا أو تحريمًا، تشديدًا أو إباحةً.
نظرٌ تاريخيٌّ
عبر سردٍ زمنيّ لا يخلو من الاستطراد أحيانا والابتسار أحيانا أخرى؛ يأخذ البحث التاريخيّ جزءًا واسعًا من معالجة قضيّة الكتاب، سعيًا لرسم صورة عن ارتباط الإنسان بالموسيقى والغناء عبر العصور الزمنيّة المتعاقبة. إذ عمد العبري إلى دراسة الظرف التاريخيّ من خلال زاويتين: الأولى تلك المتصلة بالتأريخ لعلاقة الإنسان بالموسيقى والغناء واختراعه الآلات العازفة، والثانية تتصل بالتأريخ للظروف الاجتماعية والدينية في كل عصر من العصور السَّالفة من حيث صلتها بالفنون الغنائيّة والمعازف.
فراح الكتاب يتتبع تاريخ نشأة الغناء والمعازف وتطورهما منذ العصور البشرية الأولى، حين اكتشف الإنسان الأول الموسيقى واخترع آلاته البدائيّة، ثم ما تلاه من حضارات لاحقة كالمصرية واليونانية والإغريقية والفارسية والبابلية والكلدانية وغيرها. وصولا إلى الحضارة العربيّة بدءًا مما يعرف بالعصر الجاهلي، ثم العهد النبويّ، وما بعده، وصولا إلى العصر الحديث. وهو في كل ذلك يشير إلى جملة من الأحوال الاجتماعيّة والدينية والسياسية المحيطة بكل حضارة أو حقبة زمنية؛ ذاكرًا أهم الآلات الموسيقية المرتبطة بتلك الحقب والحضارات وما ارتبط بها من طقوس اجتماعية ودينية. كما أنه لا يغفل الآثار العلمية المكتوبة والمدوّنة في علم الموسيقى.
فعلى سبيل المثال، ما يذكره عن العصر العباسي من نقلة حضارية وعلميّة، انعكست اهتمامًا بالجانب الفنيّ والموسيقيّ من قبل العلماء والأدباء، حتى الخلفاء أنفسهم، إذ يقول: فـ «بجانب بروز المهتمين من العلماء والموسيقيين والأدباء كان اهتمام الخلفاء أيضا، حيث قرّبوا إليهم المهتمّين بالغناء، واشترطوا في المُغَني أن يكون حافظا للأشعار والنوادر ويحسن النحو والإعراب، والذي يتقن الغناء يكون له مكان عال في الدولة، وقد يحظى بمصاحبة الخليفة. هذا الاهتمام من قبل الخلفاء».
ومن اللافت في هذا الجانب أن المؤلف خصّص مبحثًا للحديث عن الموسيقى والغناء في التاريخ والتراث العُماني على وجه الخصوص؛ بدءا من عهد الإمامة الأولى وحتى العصر الحديث، متتبعا وجود الآلات الموسيقية والفنون الغنائية، مشيرا إلى ازدهارها في عهد ما، وتراجعها في عهد آخر؛ وفقا للرؤية الفقهية الغالبة والتعامل السياسيّ في ذلك العصر.
وعلى الرغم من الأهميّة التي أولاها الكتاب للجانب التاريخيّ عمومًا؛ إلا أنّه بدا أحيانا عرضًا مبتورًا ألجأه إلى انتقالات زمنيّة غير مترابطة أو متسلسلة، فضلا عن وقوعه في فخّ الابتسار، والنقل أحيانًا من مصادر غير موثوقة كصفحات وسائل التّواصل الاجتماعيّ والمواقع الإلكترونيّة غير المُعتمدة؛ وكان أحرى بالكاتب أن يذهب إلى أمّهات المصادر، لا سيما وأنه يكتب عن تاريخ الموسيقى والغناء؛ ذلك الموضوع الذي أُغرِقَ بحثًا وتتبعًا وتوثيقًا، وصنّفت فيه الأبحاث والكتب والموسوعات.
مَدخلٌ جماليّ
يرى العبريُّ أنه لا يمكن دراسة التّاريخ الفقهيّ لجدليّة الغناء والمعازف في التراث الإسلامي دون البحث في تمثّلات الفقهاء لمفهوم الجمالِ وتطبيقاته الفلسفيّة، وتصوّراتهم عن الفنون الجميلة، وإلى أيّ مدى أوجد اختلاف تصوّراتهم تلك تباينًا واسعًا في تأصيلاتهم وفتاواهم؛ فجزءٌ من مكمن الخلاف عائد إلى تصوّرات ذهنيّة وتأويلات مرتبطة بظروف العصر وأحوال الزمان.
ذلك أن بعض الفقهاء ينظر إلى فكرة الجمال «بحساسيةٍ مبالغٍ فيها؛ لأنّهم يتصوّرُن الجمال عريا وسفورا وبعدا عن تعاليم السماء؛ لذلك كانت النظرة الفقهية خصوصا وما ينتج عنها من أبعاد اجتماعية أقرب إلى السلبية في الكثير من الوسائل الجماليّة..»
لذا عمد العبريّ أوّلا إلى مقاربة فاحصة لمفهوم الجمال كما يتجلى في الخطاب القرآني والهدي النبوي المأثور. ثم راح ثانيًا يدرسُ توجّهات الفقهاء من خلال ثلاثة عشر عالمًا من مختلف المدارس الفقهيّة وفي عصور متباينة: كأبي حامد الغزالي، وابن حزم الظاهري، والشوكاني، ومن المحدثين: محمد رشيد رضا، ومحمد حسين فضل الله، ومحمود شلتوت، ومحمد عمارة، والقرضاوي، وغيرهم.
المَدارس الإسْلامية والاسْتدلال الفِقهيّ
بدأب بحثيٍّ كبير، وتنقيب واسع في المدونة الفقهيّة، التراثيّة والحديثة على حدٍّ سواء، استقرأ بدر العبري آراء المدارس الفقهية الثمانية: الإباضية، والزيدية، والجعفرية، والحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنبلية، والظاهرية؛ مستعرضا أقوال أشهر علمائها وفقهائها، محلّلا استدلالاتهم وحججهم من القرآن والسنة المأثورة، والإجماع، وسد الذرائع. وخلص إلى تبايُنٍ واسع في الآراء حول الغناء والمعازف ما بين حرمة، وكراهة، وإباحة.
وبعد تمحيص ومناقشة للأدلة، يخلص العبريّ إلى أنه «لا يوجد دليل صريح لمنع الغناء والمعازف أو تحريمه، وإلا لذكره الله في كتابه صريحًا، وما جاء من نهي لا يخرج عن دائرة العلّيّة السلبيّة، فإن ارتفعت عاد الأصل إلى الإباحة؛ لأنه الجمال الذي بثه الله في مخلوقاته، وما حاكاه الإنسان من صنع آلات وأشعار تناغم هذا الجمال…». وأن أدلة الإباحة والإجازة أقرب إلى روح الشريعة التي تنشد الجمال الخالص.