تمّ نشر أغلبه في جريدة عمان، الأحد 29 محرّم 1446هـ/ 4 أغسطس 2024م
سهيل النّهدي: الاستاذ الفاضل / بدر العبري
نبعث اليكم بعدد من المحاور، حول موضوع الانحراف الفكري، وكيفية تحصين المجتمع من الافكار الضالة، و الدخيلة .
ـ النّهديّ: حدثنا عن المجتمع العماني و سمته، و كيف اثبت التاريخ مدى تماسك المجتمع العماني طوال الفترة الماضية في التصدي للافكار الضالة ؟
العبريّ: المجتمع العمانيّ كأيّ مجتمع آخر في العالم، يؤثر في ذاته ومن حوله، ويتأثر منه أيضا، خصوصا مع الانفتاح المعاصر إعلاميّا وسياحيّا ومعرفيّا، ومع هذا تبقى له معالمه الّتي قد يشترك بها مع عوالم أخرى، وعلى رأسها التّعايش الدّينيّ والمذهبيّ، فهذه سمة مدركة في المجتمع العمانيّ، يموت عليها الكبير، ويشيب عليها الصّغير، وأي شيء يحاول إثارة النّعرات المذهبيّة؛ يأنفها المجتمع، والدّليل ما حدث في الوادي الكبير للجاليات الشّيعيّة كما في الحدث الأخير، حيث كما قلت في مقالة لي مصاحبة للحدث: “المتأمل منذ بدايات وقوع الحادثة مع ألمها استنكر العمانيون هذا الفعل الشّنيع، ولم ترد في مفرداتهم في الجملة مفردات طائفيّة، وما كان متوقعا ابتداء، فقد غلب على أذهانهم أنّه لا يتجاوز الصّراع الفرديّ، ثمّ لمّا ارتبط بجامع الإمام عليّ بن أبي طالب، وفي ليلة عاشوراء الأليمة؛ لم نجد تشفيا لأنّ هؤلاء شيعة، بل كان العمانيون من سائر أطيافهم ومذاهبهم وتوجهاتهم الفكريّة على كلمة واحدة سواء في استنكار ذلك، ولم يتقبله عقلهم التّعايشيّ”.
أمّا تأريخيّا فمن أصول التّعايش في الفقه العمانيّ الإباضيّ مبكرا “إذا دعوا إلى الصّلاة أجبناهم، وإذا دعوا إلى قتل النّفس المحرمة فارقناهم”، ويقول المبشر الإنجليزي ويليام جيفورد بالجريف (ت 1888م) كما يذكر صاحب مقالة “عمان من التّسامح إلى الانسجام” وذلك في زيارته لعمان عام 1863م قال عن العمانيين: “هم بطبيعتهم دون أدنى شكّ، حسب خبرتي بهم، الأفضل سَجِيّةً، والأحْسن مَعْشَرًا، والأكثر أنسًا، من جميعِ الأجناسِ العربيّة، التسامحُ بأقصى درجاتِه التي لا تُوجدُ حتّى في أوربّا، مَكفولٌ هنا لكلِّ الأجناسِ، والدّياناتِ، والعادات، المسلمون واليهودُ والمسيحيّون والهندوس جميعُهم يعبدون اللّه بحرّيّة حسب معتقداتِهم، ويلبسون ما يشاؤون حسبَ عاداتِهم، ويمارسون الزواج ودفنَ الموتى، والمواريث، حسبَ تقاليدِهم الخاصّة دون قيدٍ، أو إزعاجٍ، أو مَنْع”، ويذكر أيضا عن الرّحالة البريطانيّ وليام هيود الّذي زار عمان عام 1816م عن العمانيين: “وهم في غاية التّسامح، كما أنّهم، على حدّ سواء، بسطاء في تصرفاتهم، وقليلا ما يفرّقون في تعاملهم مع الدّيانات الأخرى”.
ـ النّهديّ: من وجهة نظركم ما هي ابرز الجوانب التي يجب العمل عليها خلال الفترة القادمة، لتحصين المجتمع من الافكار الضالة، و وقايته من الانحراف السلوكي والفكري؟
العبريّ: بداية علينا في هذه المرحلة الحفاظ على اللّحمة التّعايشيّة وتعميقها، قد تكون هناك إشكالات وأخطاء، لكن لا يعني هذا خلق صراع آخر، بل يجب حاليا قدر الإمكان ترك الخلافات الجانبيّة، وتعميق اللّحمة الوطنيّة، ولا أتصور عمان تحتاج كبير جهد في هذا، فلديها القاعدة التّعايشيّة، ثمّ لديها القاعدة القانونيّة الحافظة لذلك، فقط عليها أن تشتغل على تقبيح كلّ ما يؤدّي إلى الكراهيّة والعنف، وتقبيح الجماعات المتطرفة، وأن لا يربط ذلك بمذهب؛ لأنّ المذاهب الإسلاميّة جامعة لا تقر بذلك، فينشأ الابن في داخله مستقبحا لهذه الأمور، ترفضها فطرته السّويّة، وهذا يحتاج إلى مراجعة الخطابات في المجتمع، على مستوى التّعليم والمساجد والإعلام، وعلى مستوى الجانب التّقنيّ الأوسع، ثمّ علينا أيضا مراجعة وضع الباحثين عن عمل، وتوفير الجانب التّأميني لهم، فكثيرا ما تستغل الجماعات المتطرّفة هذا الملف، ولا شكّ في هذا اللّقاء لا يمكن ذكر ذلك بإسهاب، لكن أتصوّر نحن اليوم نتيجة الانفتاح بحاجة إلى مؤسّسة بحثيّة تعنى بذلك، ولها قدرة في الحصول على البيانات الكافية من الجهات المعنيّة من الأمنية وغيرها، لتفكيك الموضوع ودراسته بعمق، خصوصا من المختصين في علم الاجتماع وغيره.
ـ النّهديّ: ما خطورة الانحراف الفكري على المجتمع، و امنه و تماسكه ؟ و كيف يمكن للمجتمع، ان يكون شريكا حقيقيا في بناء مجتمع محصن من الافكار الهدامة؟
العبريّ: أي مجتمع اليوم هو مفتوح على غيره، والفكر عابر للحدود بطبيعته، وقد يكون بعضه مؤثرا سلبا على المجتمع، واليوم لا ينبغي الدّراسة الجمعيّة في الفكر، بل ينبغي الدّراسة الفرديّة في ذلك، صحيح أنّ الفرد ينشأ في بيئة جمعيّة قبليّة وثقافيّة ما، لكن لا يعني أنّه كفرد محصن بذلك، بل على العكس؛ لأنّ تواصله الخارجي والافتراضي اليوم أكبر من تواصله الواقعيّ الجمعيّ، وهذا يحتاج إلى الدّراسة الفرديّة والّتي تشكل بُعدا جمعيّا ولو افتراضيّا، وعدم الاكتفاء بالصّورة الجمعيّة للمجتمع، وبهذا يمكن دراسة الفكر إيجابا أم سلبا بعمق، وأكثر عقلانيّة.
ـ النّهديّ: من خلال قرائتكم للمشهد الحاصل على مستوى المنطقة والعالم، خاصة الحروب و النزاعات و التراشق المذهبي، كيف يمكن لمجتمعنا العماني (النأي) بالنفس عن كل ذلك؟ ليحصن نفسه و مجتمعه؟
العبريّ: علينا أن نتخلّص من خمرة العيش في الجوانب الإيجابيّة المطلقة، ومن فكرة العزلة عن الخارج، فهذا لا يمكن بحال، ونحن بشر كغيرنا تماما، فينا المحسن وفينا المسيء، وفينا المجتهد ومنا المقصّر، لكن علينا أن نحافظ على الجوانب الإيجابيّة، وأن نخلق جوانب إيجابيّة أيضا، وبهذا، أيّ فعل نشاز نتعامل معه بعقلانيّة، ولا يؤثر في وحدتنا التّعايشيّة، صحيح أنّ المجتمعات ملتهبة من حولنا، والجماعات الإرهابيّة لها نشاطها، وهناك من يسعى لنشر الفوضى والحروب ودمار المجتمعات الأخرى، ونحن نعيش في وسط هذا العالم الملتهب، لهذا اليوم نحن بحاجة أن نحافظ على الوحدة التّعايشيّة، كما نحن بحاجة إلى معالجة الذّات، حتّى لا تستغل خارجيّا، وفي الوقت نفسه أن نتعاون في استقرار المناطق من حولنا، وأن نسعى جميعا في تحقيق الإحياء لا الدّمار؛ لأنّ أي فساد أو دمار قريب منّا، يؤثر فينا سلبا بالضّرورة، والعكس صحيح تماما.
النّهديّ: ـ هناك ادوار للاسرة و المسجد و المجلس (السبلة) كانت تمارس سابقا، هل ترون بان آن الاوان لعودة ممارسة السبلة و المسجد لادوارها الايجابية لتحصين المجتمع و خاصة الشباب ؟
العبريّ: هي وسائل داعمة، وبحاجة إلى خلق جانب ثقافيّ فيها، ولا تقتصر عند الجوانب التّقليديّة، واليوم وزارة الثّقافة والرّياضة والشّباب فتحت الباب لعشرات المبادرات الشّبابيّة، ثقافيّا ورياضيّا وإبداعيّا في كافة محافظات عمان، فينبغي تشجيع وتمويل هذه المبادرات، ولا تقتصر عند المقاهي، بل ينبغي كما ذكرت في السّؤال أن تكون حاضرة في المجالس والمساجد، مع تفعيل المسرح والملاعب الرّياضيّة وغيرها، ويربط ذلك تقنيّا من خلال استغلال جميع وسائل التّواصل، في الحضور، وخلق التّفاعل الإيجابيّ فيه، لتوصيل رسائل إيجابية إلى الجيل الجديد، وأن يتجاوز المجتمع بعض الحساسيّات الاجتماعيّة، والعادات الّتي تحول الشّباب عن هذه الأماكن واستغلالها.
النّهديّ: ـ للمذهبية و النعرات الطائفية خطر كبير على امن و استقرار الدول، ما خطورة اثارة النعرات و التفرقة المذهبية، و كيف يمكن لنا مواصلة التعايش و نبذ العنف و التفرقة المذهبية في ظل فضاء الكتروني مفتوح ؟
العبريّ: بلا شك أنّ الصّراع الطّائفيّ يشكل خطورة كبيرة جدّا، وذكرت في كتابي “فقه التّطرّف” نماذج عديدة لذلك ولآثاره السّلبيّة، عقديّا وفقهيّا وتأريخيّا وواقعا، على مستوى الفرد، وعلى مستوى الدّولة الوطنيّة، وعلى مستوى المجتمعات الكبرى ككل، وهذه الصّراعات تجعل النّاس يعيشون في صراعات ماورائيّة وماضويّة ووهميّة لا قيمة لها أمام الاشتغال بالإحياء والعقل والعلم والنّهضة، وبما أنّ النّاس استقروا على ما هم عليه من مذاهب، ولهم خصوصيّاتهم؛ فيتركون على ما هم عليه، ويشتغلون على الشّيء الجامع، وهو الأوسع، وقد كتبت الأسبوع الماضي مقالة في جريدة عمان بعنوان “الأديان والمذاهب بين وحدة المواطنة وخصوصيّة المعتقد والطّقوس”، فيها جواب موسع عن هذا السّؤال ممكن يرجع إليها.
النّهديّ: ـ هل وصلنا إلى فهم اعمق لحجم العمل من قبل بعض المنظمات، لاختراق افكار الشباب والاجيال ؟ والدخول بهم إلى الافكار الضالة ؟ التي قد تتسبب في دمار مستقبلهم و مستقبل مجتمعهم؟ وما الحلول ؟
العبريّ: لا زلنا – للأسف – متأخرين في هذا، فلا توجد لدينا مراكز بحثيّة تتوفر فيها البيانات بسهولة، وأغلب الباحثين ينطلقون من اجتهادات شخصيّة، ولا يوجد دعم كبير وتفريغ الباحثين في هذا، وبالتّالي القراءة النّقديّة كثيرا ما تبنى على انطباعات لا على بيانات وأدلة واقعيّة، كما كثيرا ما يلازم مثل هذه القضايا الغموض، مثلا الحدث الذّي اشتهر عام 2014م من اكتشاف تأثر شبابي بهذه الجماعات؛ حتّى اليوم لا ندرك كثيرا نتائج التّحقيقات في هذا، نحن اليوم بحاجة إلى مكاشفة، كما نحتاج إلى مراكز بحثيّة، أو على الأقل تفريغ الباحثين في هذا، ليخرجوا لنا بقراءات تحليليّة وتفكيكيّة أكثر عمقا، لما ينتج عن هذا من نتائج في مستوى الخطاب والأسرة والتّربية والتّقنين وغيرها.