مقدّم لفرقة البُن للفنون المسرحيّة والأدائيّة ضمن مهرجان مهرجان البُن لمسرح الغرفة، كتب صباح الاثنين 24 محرّم 1444هـ/ 22 أغسطس 2022م، ونشر في صحيفة المثقف – استراليا.
ابتداء أشكر فرقة البُن للفنون المسرحيّة والأدائيّة على هذه الدّعوة، وأبارك لهم مهرجان البُن لمسرح الغرفة، وطلب منّي الحديث حول “حِراء”، وإن كنتُ بعيدا عن المسرح، إلا أنّ طبيعة المسرح في محاكاة الواقع، ورمزيّة المشهد؛ يجعل أي عمل فكريّ أو فلسفيّ، أو حتّى غنوصيّ عرفانيّ هو جزء من عمل المسرح ذاته.
وقبل الابتداء أطرح هذه الأسئلة الخمسة:
السّؤال الأول: هل حِراء خاصيّة عرفانيّة محمديّة؟ أم هي حالة غنوصيّة شموليّة؟
السّؤال الثّاني: هل كان النّبيّ محمّد منفردا في التّأمل والاعتكاف خلاف أقرانه، وما السّبب الّذي دعاه إلى ذلك؟
السّؤال الثّالث: لماذا يختلي النّبيّ محمّد في الجبل؟ وفي ماذا كان يفكر؟
السّؤال الرّابع: كم مرة تكررت فترة اعتكافه من عمره؟ وكم يستغرق؟ ومتى كان الاتصال السّماويّ العلويّ؟ وكيف كان ذلك؟
السّؤال الخامس: لماذا كانت الافتتاحيّة بسورة اقرأ؟
مقدّمة:
حِراء بالقصر والمدّ من التّحري والبحث والتّأمل، وأطلق عليه حراء لأنّه جزء من الجبل، أي من باب إطلاق الكلّ على الجزء، وهو “جبل بأعلى مكّة على ثلاثة أميال منها عن يسار المار إلى منى، له قلّة مشرفة على الكعبة منحنية، والغار في تلك الحنيّة، وما أحسن ما قال رؤبة بن العجاج [ت 145هـ]:
فلا ورَبِّ الآمناتِ القُطّنِ ورَبِّ رُكْنٍ من حِراءَ مُنحنِي”[1]
ولمّا نزل الوحي على النّبيّ محمّد – صلّى الله عليه وسلّم – اشتهر الجبل باسم جبل النّور، بل سمّيت المنطقة ككل بمنطقة النّور، فضاق الاسم على الغار، وأصبح مصداقا كليّا له، وليس باعتبار نسبته إلى الجبل.
وحِراء شمل الاتّجاهات الثّلاثة: الغنوصيّة العرفانيّة، والفردانيّة التّأمليّة، والشّكيّة البحثيّة، إلا أنّه بارتباطه بسورة اقرأ – على المشهور – خرج إلى الجانب الواسع، من الذّات إلى الوجود، ومن الغنوصيّة إلى الشّهوديّة الماديّة، ومن الفردانيّة إلى الكونيّة والعالميّة.
والسّؤال الأول: هل حِراء خاصيّة عرفانيّة محمديّة؟ أم هي حالة غنوصيّة شموليّة، رافقت مصاديقها جميع الأنبياء والفلاسفة العرفانيين، فكلّ الرّسالات انطلقت من الذّات، ورأت الوجود من خلال الذّات، كما يقول عليّ بن أبي طالب [ت 40هـ]:
أتحسب أنّك جرم صغير وفيك انطوى العالمُ الأكبرُ
وكما يرى صادق جواد سليمان [ت 2021م] أنّ “الفكرة الّتي تستقر عند النّبيّ تبلغ رسوخا لا تبلغه عند غير النّبيّ، فيصبح النّبيّ والرّسالة الّتي يأتي بها شيئا واحدا …. فهي شيء يحصل في داخل النّبيّ ليرى نفسه أنّه أودع فيه رسالة ومنهجا عليه أن يقوم به بين النّاس”[2]، هذه الفكرة منطلقة في صورتها البسيطة تأمليّا من خلال المزاوجة بين الذّات والوجود، نجدها ظاهرة عند العرفانيين الأنبياء والفلاسفة، وتتكرّر صورتها حتّى اليوم.
ونجد جيورجيو كونستانس [معاصر] يجيب عن هذا التّساؤل أنّه “لم يكن الذّهاب إلى الغار في مكّة، والانعزال فيه بالأمر غير الطّبيعيّ، فمثل هذا كان يحدث في بلاد الهند، فبعد أن يرزق الهنديّ عدّة أولاد؛ ينفصل عن أسرته، ليحيا في الغابة وحيدا، يمضي فيها مدّة من الزّمان، يفكر في أسرار الخليقة”[3].
والبيئة الهنديّة بحدودها الواسعة قديما بيئة غنوصيّة عرفانيّة تأمليّة، هذه الغنوصيّة لا يمكن فصلها عن الهندوسيّة، وهي كامنة في الفيدا وغيرها من الملاحم[4]، ومن أجواء الهندوسيّة الغنوصيّة كانت الجينيّة والبوذيّة، وكلاهما ولدا من ذات المشرب الغنوصيّ التّأمليّ، فمهاويرا في الجينيّة “صام يومين ونصف يوم، ونتف شعر جسمه، وبدأ يجوب البلاد حافيا، وفي زيّ الزّهاد والنّساك، ولجأ إلى الزّهد والجوع والتّقشف، وغرق في التّفكير، واهتم بالرّياضة الصّعبة القاسية، والتّأملات النّفسيّة العميقة، وكان أحيانا يعتكف في المقابر، ولكن أكثر وقته يمضيه متجوّلا في طول البلاد وعرضها، وكان يغرق في المراقبة إلى حدّ لا يشعر فيه بالحزن أو السّرور، لا بالألم أو الرّاحة، وكان يعيش على الصّدقات الّتي تقدّم إليه”[5].
وأمّا بوذا فقد “ترك السّلطة والمال، واختلى بتربية نفسه حتى وصل إلى درجة كبيرة من الكمال الإنسانيّ، وقد تخلّص من الكراهيّة والأنانيّة والحقد، وأصبح قلبه مليئا بالحبّ للآخر، وبالأخلاق الفاضة”[6].
وفي الاتّجاه المقابل نجد زرادشت “طبيبا بارعا، وحكيما فيلسوفا، يحاول الوصول إلى سرّ الكون بالنّظر والتّأمل العقليّ”[7]، ثمّ كان إبراهيم – عليه السّلام -، وخروجه من قرية أبيه، وخلوته التّأمليّة القائمة على التّساؤل والشّك من خلال الكون، {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 75 – 79].
وهكذا موسى – عليه السّلام – كما جاء في سفر الخروج من العهد القديم، وفي سورة الأعراف في القرآن الكريم، وهو في الشّهر الثّالث بعد خروجهم من مصر، وفي بريّة سيناء، صعد إلى الجبل، واختلى بذاته مع ربّه ثلاثين يوما، وازداد عشرا، لينزل حاملا الوصايا العشر كميثاق للأديان التّوحيديّة لاحقا.
وهذا الأمر يتكرّر ذاته مع المسيح عيسى ابن مريم – عليه السّلام -، كما جاء في إنجيل متّى من العهد الجديد في الإصحاح الرّابع، لينفرد بذاته في البريّة صائما متأمّلا متفكرا أربعين ليلة.
والمسيح ولد في بيئة بدأت تزاحم فيه الآسينيّةُ الغنوصيّةُ اليهوديّةُ الفريسيين والصّدوقيين من اليهود، لتتشكل هذه الغنوصيّة في المندائيّة المنتسبة إلى يحيى – عليه السّلام – معمّد المسيح، والمندائيّة كما يرى خزعل الماجدي [معاصر] “هي الغنوصيّة المبكرة، وهي العرفانيّة بأدق وأكمل أشكالها”[8]، كما تشكلت في المسيحيّة بشكل واضح جدّا.
والسّؤال الثّاني: هل كان النّبيّ محمّد منفردا في التّأمل والاعتكاف خلاف أقرانه، وما السّبب الّذي دعاه إلى ذلك؟ نجد الأدبيّات التّراثيّة تذكر أربعة رموز اشتهروا مع النّبيّ محمّد – صلّى الله عليه وسلّم – بالتّحنث أي الاعتكاف والتّأمل، وهم ورقة بن نوفل [توفي ق هـ]، واعتنق النّسطوريّة، وهي مسيحيّة غنوصيّة، وكان قريبا نسبا كما في الأدبيات الإسلاميّة من خديجة [ت 3 ق هـ] زوج النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم -، وزيد بن عمرو [ت 18 ق هـ]، وكان من الأحناف الباحثين عن الحقيقة، وقسّ بن ساعدة [ت 23 ق هـ]، وكان من الرّهبان المتنسكين، وأميّة بن أبي الصّلت [ت 5هـ]، وكان من الأحناف أيضا.
ويذكر ابن هشام [ت 218هـ] بيتا لأبي طالب [ت 3 ق هـ]، أنّ جبل حراء ذاته كان مأوى للمتنسّكة والمعتكفين، إذ يقول:
وثورٍ ومن أرسى ثَبيرا مكانه وراق ليرقى في حِراءَ ونازلِ[9]
ويذكر جيورجيو كونستانس أنّ “عبد المطلب جدّ محمّد – صلّى الله عليه وسلّم – ينعزل في غار حراء المعروف كلّ سنة شهرا، وكذلك الأمر لدى عدد من الرّجال بعد أن يشيخوا”[10] ولم يذكر المصدر.
ويورد ابن هشام أيضا رواية أنّ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – “يجاور ذلك الشّهر من كلّ سنة، يطعم من جاءه من المساكين ….. وذلك الشّهر شهر رمضان، حرج رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – إلى حراء، كما كان يخرج لجواره ومعه أهله”[11]، وهذا يدلّ على مشاركة أهله معه في بعض الأوقات، كما يدلّ على وجود رمضان ومعرفة العرب به، ولهذا قال القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة/ 183]، حيث قال كتب عليكم الصّيام ولم يقل رمضان؛ لأنّ الثّاني معهود عندهم، ولكن أوجب عليهم صيامه.
وذكر ابن كثير [ت 774هـ] رواية أنّ هذا النّسك يمارسه العرب، ومنهم النّبيّ محمّد لمدة شهر، وبعد انتهاء الشّهر يطوفون بالكعبة سبعة أشواط، ونصّ الرّواية: “وكان رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – يخرج إلى حراء في كلّ عام شهرا من السّنة يتنسّك فيه، وكان من نسك قريش في الجاهليّة، يطعم من جاءه من المساكين، حتّى إذا انصرف من مجاورته لم يدخل بيته حتّى يطوف بالكعبة”[12]، وعقّب ابن كثير: “وهذا يدلّ على أنّ هذا كان من عادة المتعبدين في قريش أنّهم يجاورون في حراء للعبادة”[13].
وهذا يؤكّده محمّد حسين هيكل [ت 1956م] بقوله: “وقد كان من عادة العرب إذ ذاك أن ينقطع مفكروهم للعبادة زمنا في كلّ عام، يقضونه بعيدا عن النّاس في خلوة، يتقربون إلى آلهتهم بالزّهد والدّعاء، ويتوجهون إليها بقلوبهم، يلتمسون عندها الخير والحكمة، وكانوا يسمّون هذا الانقطاع للعبادة التّحنف والتّحنث”[14].
والسّؤال الثّالث: لماذا يختلي النّبيّ محمّد في الجبل؟ وفي ماذا كان يفكر؟ من خلال السّؤال السّابق والرّوايات الواردة، يظهر لنا أنّ هذا الأمر طبيعيّ أقرب إلى النّسك، وأنّه عادة يمارسها العديد غير النّبيّ – عليه السّلام -، وفي الجبل ذاته، إلّا أنّ هناك رؤية أخرى، فقيل إنّ السّبب أنّه لم يكن مقتنعا بما عليه قومه، ويثير بعض التّساؤلات المخالفة للمعهود، حتّى اتّهم بالجنون، ومن شدّة النّظرة السّلبيّة إليه أصيب بما يشبه الاكتئاب الّذي جرّه إلى محاولة الانتحار، ويذكر ذلك الخَركوشيّ النّيسابوريّ [ت 407هـ] رواية: “قال – صلّى الله عليه وسلّم – لم يكن أحد أبغض إليّ من شاعر أو مجنون، فقلت: إنّ الأبعد – يعني نفسه – مجنون، لأعمدنّ إلى حالق من الجبل فلأطرحنّ نفسي، فأموت فأستريح”[15]، وحاول محمّد الغزاليّ [ت 1996م] أن يبرر انتشار الخلوات بسبب كثرة الإلحاد، “وأمّا من النّاحية النّفسيّة فإنّ الإلحاد الّذي شاع في الجاهليّة، وجعل أهلها يقسمون بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت، هذا الإلحاد المغرق الطّامس غزا نفوس الأخيار بالقلق البالغ، إلى أين تصير هذه القلّة الحائرة؟”[16]، بيد أنّ ما برره الغزاليّ في نظري بعيد جدّا، ولهذا ذكر القرآن الدّهريّة في مواضع بسيطة، ولم تكن حالة كبيرة؛ لطبيعة النّاس على دين ملوكهم ومجتمعهم، ولأنّ القلّة من يبحث ويتسائل، فإن خاف من المجتمع حتّى لا يلحقه ضرر؛ انعزل، وعاش مع ذاته.
ويظهر من رواية عائشة [ت 58هـ] الوضع النّفسيّ الّذي كان يعانيه النّبيّ محمّد – صلّى الله عليه وسلّم – قالت: “وحبّب الله تعالى إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحبّ إليه أن يخلو وحده”[17]، حيث يجد في الخلّوة أمانا نفسيّا له، ولتساؤلاته.
وأمّا “في ماذا كان يفكر؟” فيرى جيورجيو كونستانس أنّه “لا يستطيع أيّ إنسان أن يقدّر الموضوعات الّتي كانت تحوم في أفق تفكير محمّد – صلّى الله عليه وسلّم – وهو في ذلك الغار، ولكن بحسب رواية خديجة الّتي دوّنها ابن هشام أنّه لم يكن يفكّر في أمور دنيويّة”[18]، ويتسائل محمّد الصّادق إبراهيم عرجون [ت 1981م] هل تعبّده “كان بطريق الاستغراق في التّفكير والتّأمل في مخلوقات الله تعالى”[19]، والرّوايات الأدبيّة والتّأريخية عموما لم تتطرق إلى ذلك، هل هو غنوصيّ عرفانيّ، أم فردانيّ تأمليّ، أم شّكيّ بحثيّ؟ أم هي عزلة نفسيّة وبعد عن الفضاء الخارجيّ، وعيش مع الذّات والوجود؟ ومع صعوبة التّكهن بذلك؛ يبقى ذلك أو بعضه وارد أيضا.
والسّؤال الرّابع: كم مرة تكررت فترة اعتكافه من عمره؟ وكم يستغرق؟ ومتى كان الاتصال السّماويّ العلويّ؟ وكيف كان ذلك؟ نجد بالمعنى الطّقسيّ الكلاسيكيّ أنّ ذلك طبيعة متكرّرة كنسك يمارسونه، ومع هذا حوّلها بعضهم من الحالة النّسكيّة الطّبيعيّة إلى الأسطورة الغنوصيّة، فيذكر حسين غباش [ت 2020م] أنّه “دأب على خلوته قرابة الخمس سنوات”[20]، ويذكر محمّد سعيد رمضان البوطيّ [ت 2013م] “أنّه لما أخذت سنّه تدنو نحو الأربعين؛ نشأ لديه حبّ للعزلة بين الفترة والأخرى، وحبّب الله إليه الاختلاء في غار حراء”[21]، إلا أنّه لم يحدّد الأعوام كتحديد غباش، ونجد مصادر السّيرة الأولى – حسب علمي – تركت الأمر مفتوحا بلا تحديد.
والأمر ذاته في فترة الاستغراق، العديد جعلها شهرا بأيام رمضان، بينما يرى البوطيّ أنّه “كان يخلو فيه – أي حراء -، ويتعبّد فيه اللّيالي ذوات العدد، فتارة عشرة، وتارة أكثر من ذلك إلى شهر، فلا يكاد يمكث فيه قليلا حتّى يتزوّد من جديد لخلوة أخرى … وهكذا إلى أن جاءه الوحي وهو في إحدى خلواته تلك”[22].
“ومتى كان الاتّصال السّماويّ العلويّ؟” المشهور أنّه كان وعمره أربعون سنة، وهي حالة متكررة عند غالب الأنبياء ممّن يأتيهم الوحي، عدا ما ذكر عن عيسى – عليه السّلام -، وفي رواية لابن عبّاس [ت 68هـ] أنّه كان “وهو ابن ثلاث وأربعين”[23]، والأشهر أنّه كان في رمضان، وقيل في ربيع الأول باعتبار الولادة في الاثنين منه، وقيل في رجب، واستقرأ صفيّ الرّحمن المبَاركفوريّ [ت 2006م] الرّوايات فخلص إلى أنّه “بعد النّظر والتّأمل والدّلائل يمكن لنا أن نحدّد ذلك اليوم بأنّه كان يوم الاثنين لإحدى وعشرين مضت من شهر رمضان ليلا، ويوافق 10 أغسطس سنة 610م، وكان عمره – صلّى الله عليه وسلّم – إذ ذاك بالضّبط أربعين سنة قمريّة، وستّة أشهر، واثنتي عشرة يوما”[24].
“وكيف كان الاتّصال السّماويّ العلويّ؟” الرّواية المشهورة “أنّ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – حين أراد الله بكرامته، وابتدأه بالنّبوّة، كان إذا خرج لحاجته أبعدَ حتّى تحسّر عنه البيوت، ويفضي إلى شعاب مكّة، وبطون أوديتها، فلا يمرّ رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – بحجر ولا شجر إلا قال: السّلام عليك يا رسول الله، قال: فليلتفت رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – حوله، وعن يمينه وشماله وخلفه، فلا يرى إلا الشّجر والحجارة، فمكث رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – كذلك يرى ويسمع، ما شاء الله أن يمكث، ثمّ جاءه جبريل – عليه السّلام – بما جاءه من كرامة الله، وهو بحراء في شهر رمضان”[25]، ولمّا جاءه الملك جبريل قال: اقرأ، فقال رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم -: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني جبريل فغطّني، حتى بلغ مني الجهد، ثمّ أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني الثّانية حتى بلغ مني الجهد ثمّ أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ فأخدني فغطّني الثّالثة حتى بلغ مني الجهد، ثمّ أمره أن يكرر معه بدايات سورة اقرأ.
المشهور أنّ هذا حدث على الحقيقة أي شهوديّا، لكن هنا رأي خافت لا يرى ذلك، كما ذكر الخَركوشيّ النّيسابوريّ “وفي بعض الأخبار: كنت نائما، فأقرأني في نومي فاستيقظتُ من نومي، فكأنّما كتب في قلبي كتاب”[26]، وهذا يُلفت من رواية عائشة “أنّ أول ما بدئ به رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – من النّبوّة، حين أراد الله كرامته ورحمة العباد به، الرّؤيا الصّادقة، لا يرى رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – رؤيا في نومه إلّا جاءت كفلق الصّبح، قالت: وحبّب الله تعالى إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحبّ إليه أن يخلو وحده”[27].
والسّؤال الخامس: لماذا كانت الافتتاحيّة بسورة اقرأ؟ المشهور أنّ أول ما نزل هذه الآيات الخمس الأولى من سورة اقرأ، {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ،خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}، ولا يهمنا الجدل حول ذلك، إلا أنّ الالتفاتة إلى القراءة في وضع عرفانيّ غنوصيّ فيه إشارات عديدة، فالقراءة أقرب إلى العقل والتّفكر والنّقد والنّظر، فالقراءة هي كشف الذّات والوجود، وكلاهما متلازمان، فكشف الوجود كشف للذّات، وكشف الذّات كشف للوجود، وفي القرآن الكريم: {وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذّاريات: 20 – 21]، فالتفت بعد آيات الأرض [الوجود] إلى آيات النّفس [الذّات].
والله تعالى أمر بالسّير في الأرض: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت: 20]، والسّير بالأرض إمّا بالتّأمل أو الكشف، وكلاهما بقراءة الكون المنظور عن طريق البحث والتّأمل، أو بقراءة الكون المسطور عن طريق ما كتبه ودوّنه المتقدّمون والمعاصرون، فالقراءة سير في الأرض أيضا.
لهذا من اللّطافة أن نجد أول خطاب تكليفيّ للنّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – اقرأ، لتشمل المنظور تأملا، والمسطور تدوينا، والثّاني مهم أيضا، ولهذا أشار إلى القلم، وبه يُحفظ نتاج الإنسان، وتتعاقب به المعارف، وتتدافع وتتهذّب في المجتمع الإنسانيّ.
لهذا يسجّل جيورجيو كونستانس شهادته بأنّه “لا يجد المرء في أيّ من الكتب السّماويّة اهتماما بالمعرفة كما يجده في القرآن، ولا يمكن أن يعادل مفهوم المعرفة والعلم في الدّين الإسلاميّ ما في أيّ دين آخر”[28]، “وإنني أهنئ المسلمين بنزول الآيات الأولى الّتي تحضّ على كسب المعرفة”[29].
لنجد القرآن ذاته زاوج بين البعد الغنوصيّ العرفانيّ، وبين الجانب العقليّ الطّبيعيّ، لينفتح على الحضارة الإنسانيّة بشقيّها الغنوصيّ والفلسفيّ، التّصوّريّ والتّجريبيّ، لتدخل ثقافات تحت مظلّة هذا الدين، وتتشكل بها حضارة واحدة، هذا المدارس منها ما هو فلسفيّ عقليّ كالاعتزال والأشاعرة والماتريديّة، ومنها ما هو رمزيّ غنوصيّ كالعرفان والتّصوّف والسّلوك والحركات الباطنية والرّمزيّة، بجانب الحركات الفلسفيّة المزاوجة بين الفلسفة العرفانيّة والرّمزيّة والتّجريبيّة، بمظلتهيها اللّاهوتيّة والنّاسوتيّة، لتحفظ حضارة الإغريق، وتكوّن خيطا لعصر الأنوار، الّذي به تولّدت حضارة إنسانيّة واحدة اليوم، وفق المزاوجة بين الحضارة والثّقافة.
الخلاصة: مصاديق القراءة وإعلان الخطّ الإصلاحيّ المحمديّ الجديد لم يخرج عن دائرة السّننيّة، ابتداء من مرحلة مراعاة الواقع وسننه، وحتّى عالميّة الانتشار، وما ذكرته إنّما خطوط ليست نقديّة تفكيكيّة، بقدر ما هي استلهاميّة وصفيّة حسب ما طلب، والله الموفق.
[1] ابن كثير: أبو الفداء، السّيرة النّبويّة؛ تحقيق: صدقي جميل العطّار، ط دار الفكر، لبنان – بيروت، الطّبعة الأولى، 1418هـ/ 1997م، ج:1، ص: 282.
[2] الإنسان والماهية: محاورات في الدّين والفلسفة والشّأن الإنسانيّ مع المفكر صادق جواد سليمان، إعداد: بدر العبريّ، ط روافد، لبنان/ بيروت، قراء المعرفة، عمان/ مسقط، الطّبعة الأولى، 1442هـ/ 1021م، ص: 113.
[3] كونستانس: جيورجيو، نظرة جديدة في سيرة رسول الله؛ تعريب: محمّد التّوبخيّ، ط الدّار العربيّة للموسوعات، لبنان – بيروت، الطّبعة الأولى، 1983م، ص: 57.
[4] يُنظر في المصادر اللّاهوتيّة الهندوسيّة كتاب: مقدّمة قصيرة جدّا في الهندوسيّة، لكيم نوت؛ ترجمة: أميرة عليّ عبد الصّادق، ط هنداوي للتّعليم والثّقافة، الطّبعة الأولى، 2016م، ص: 27 – 40.
[5] موسوعة الأديان في العالم، قسم الدّيانات القديمة، ط Edito Creps, 2000 – 2001، ص: 157.
[6] العبريّ: بدر، التّعارف: تعريف بالذّات، ومعرفة بالآخر؛ طبع الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء، عمان – مسقط، والآن ناشرون وموزعون، الأردن – عمّان، الطّبعة الأولى، 2022م، ص: 27.
[7] الحايك: منذر؛ أبستاق كتاب زرادشت المقدّس: دراسة مقارنة؛ ط صفحات للدّراسات والنّشر والتّوزيع، سوريّة – دمشق، الطّبعة الأولى، 2019م، ص: 12.
[8] الماجدي: خزعل، أصول النّاصورائيّة المندائيّة في آريدو وسومر؛ ط فضاءات، الأردن – عمّان، الطّبعة الأولى، 2014م، ص: 18.
[9] ابن هشام: عبد الملك، السّيرة النّبويّة؛ تحقيق مصطفى السّقا وآخرون، ط دار إحياء التّراث العربيّ، لبنان – بيروت، الطّبعة الثّالثة، 1421هـ/ 2000م، ج:1، ص: 272.
[10] كونستانس: جيورجيو، نظرة جديدة في سيرة رسول الله؛ مرجع سابق، ص: 57.
[11] المصدر نفسه؛ ج: 1، ص: 272 – 273.
[12] ابن كثير: أبو الفداء، السّيرة النّبويّة؛ مرجع سابق، ج:1، ص: 282.
[13] المرجع نفسه؛ ج:1، ص: 282.
[14] هيكل: محمّد حسين، حياة محمّد؛ لا ناشر، ص: 93.
[15] الخَركوشيّ النّيسابوريّ: أبو سعيد عبد الملك بن أبي عثمان، مناحل الشِّفا ومناهل الصّفا بتحقيق كتاب شرف المصطفى؛ تحقيق: أبو عاصم نبيل با علويّ، ط دار البشائر الإسلاميّة، السّعوديّة – مكّة، الطّبعة الأولى، 1424هـ/ 2003م، ص: 426.
[16] الغزاليّ: محمّد، فقه السّيرة؛ ط دار القلم، سوريّة – دمشق، الطّبعة السّابعة، 1418هـ/ 1998م، ص: 84.
[17] ابن هشام: عبد الملك، السّيرة النّبويّة؛ مصدر سابق، ج: 1، ص: 271.
[18] كونستانس: جيورجيو، نظرة جديدة في سيرة رسول الله؛ مرجع سابق، ص: 58.
[19] عرجون: محمّد الصّادق إبراهيم، محمّد رسول الله، ط دار القلم، سوريّة – دمشق، الطّبعة الثّانية، 1415هـ/ 1995م، ص: 216.
[20] غباش: حسين؛ محمّد قراءة حديثة في سيرة رسول النّور والسّلام، ط دار الفارابي، لبنان – بيروت، الطّبعة الأولى، كانون الثّاني 2018م، ص: 62.
[21] البوطيّ: محمّد سعيد رمضان، فقه السّيرة النّبويّة؛ ط دار الفكر المعاصر، لبنان – بيروت، ودار الفكر، سوريّة – دمشق، الطّبعة الحادية عشرة، 1991م، ص: 60.
[22] المرجع نفسه؛ ص: 60.
[23] ابن كثير: أبو الفداء، السّيرة النّبويّة؛ ج: 1، ص: 281.
[24] المبَاركفوريّ: صفيّ الرّحمن، الرّحيق المختوم؛ ط مؤسّسة الرّسالة، لبنان – بيروت، الطّبعة الأولى، 1420هـ/ 1999م، ص: 66.
[25] ابن هشام: عبد الملك، السّيرة النّبويّة؛ مصدر سابق، ج:1، ص: 271.
[26] الخَركوشيّ النّيسابوريّ: أبو سعيد عبد الملك بن أبي عثمان، مناحل الشِّفا ومناهل الصّفا بتحقيق كتاب شرف المصطفى؛ مرجع سابق، ص: 426.
[27] ابن هشام: عبد الملك، السّيرة النّبويّة؛ مصدر سابق، ج:1، ص: 270 – 271.
[28] كونستانس: جيورجيو، نظرة جديدة في سيرة رسول الله؛ ص: 60.
[29] المرجع نفسه، ص: 60.