جريدة عُمان، الأربعاء 1 ذو الحجّة 1446هـ/ 28 مايو 2025م
تأتي زيارة الرّئيس الإيرانيّ الجديد مسعود بزشكيان لمسقط، ولقاءه بأخيه السّلطان هيثم بن طارق – سلطان عُمان – في الثّلاثاء من هذا الأسبوع كتجسيد للعلاقة التّأريخيّة الموغلة في القدم بين البلدين، وبيان لأهميّة القطرين في المحيط من حيث دول الجوار، وتأثيرهما دوليّا وعالميّا، ولمّا نتحدّث عن عُمان وإيران فنحن نتحدّث عن علاقات وتدافع لأكثر من ثلاثة آلاف عام، ولا زالت الآثار الماديّة واللّغويّة، والعادات في الألبسة والمطعومات والفنون وطرق تنظيم الحياة متشابهة بشكل كبير، فلمّا تزور مثلا منطقة يزد، تلك المدينة الصّحراويّة، والّتي “بيوتها مبنيّة من الطّوب، ويقال أصلها سجن أسّسه الإسكندر المقدونيّ (ت 323 ق.م)، ثمّ أصبحت من أهم المدن الإيرانيّة خصوصا في الدّولة الصّفويّة، وارتبطت بالزّرادشت”؛ لمّا تزورها كعمانيّ تتصوّر ذاتك في مدينة نزوى عاصمة داخليّة عُمان، ولا يكاد بقنواتها المائيّة (الأفلاج) تختلف عن القنوات المائيّة في عُمان، وترى زقاقها يتشابه مع زقاق الحارات القديمة عندنا، ولباس نسائهم التّقليديّ يتشابه بشكل كبير مع اللّباس التّقليديّ لدى نساء عُمان، وطباعهم ولطافتهم تتشابه كذلك.
التّداخل الثّقافيّ بين البلدين بعيدا عن العلاقات السّياسيّة، والّتي لها ظروفها التّأريخيّة كمدّ وجزر حاضرة تأريخيّا حتّى اليوم، بيد أنّ العلاقات الثّقافيّة كثيرا ما تركز دراستها حول التّأثير الفارسيّ في عُمان، ولكن قلّ ما يُدرس العكس، فهناك تأثير عمانيّ مقابل في المحيط الإيرانيّ القديم، والفارسيّ بشكل عام، وهذا يحتاج إلى شيء من التّفرّغ والدّراسة من حيث الدّراسات والأبحاث الأكاديميّة، أو المراكز المتخصّصّة، كان التّأثير ماديّا أم ديمغرافيّا، أم على مستوى اللّغة، والعادات والتّقاليد والفنون، مع التّأثير البحريّ والدّينيّ والمذهبيّ والفكريّ ونحو ذلك، فالعديد من القبائل العمانيّة هاجرت إلى إيران، وقد كانت أكثر امتدادا جغرافيّا سابقا كعمان أيضا، وهذه القبائل اندمجت في المحيط الإيرانيّ والفارسيّ، واستمرت الهجرات حتّى فترات متأخرة، ويرى الباحث الإيرانيّ صادق عبّاديّ أنّه “لمّا فتح الأمويون بلاد فارس كان أغلب قادتهم من البصرة [خصوصا من أزد عُمان]، مثل آل المهلب، وأصبحوا ولاة الأمويين في خراسان … وكانت خراسان عاصمة للمسلمين خصوصا في القرنين الثّاني والثّالث الهجريين، كما تمركزت القبائل العمانيّة والعربيّة في جنوب بلاد فارس كشيرزا والأهواز وعبّادان، وعن طريق الصّحراء الإيرانيّة وصلوا إلى خراسان، والقبائل العربيّة عموما ذابت في المجتمع الإيرانيّ، وتوجد قرى في صحراء إيران تبعد عن حدود الخليج حوالي ألف كيلو يتحدّثون العربيّة إلى اليوم من غير الأهواز وعبّادان، وإنّما في خراسان ذاتها، مثل قائنات الّتي تنتج الزّعفران في جنوب خراسان حوالي مائتي كيلو مترا، وهي أقرب إلى أفغانستان”.
وهنا نشير سريعا إلى الحضور العمانيّ في الذّاكرة الإيرانيّة، من حيث الدّين واللّغة والاستثمار مثلا، حيث هناك أربعة أديان اشتركت بين البلدين، وهي الزّرادشت قديما حضورها أقرب إلى الحضور الفارسيّ أو الإيرانيّ القديم في عُمان، ثمّ المسيحيون النّساطرة “ويسمّون كنيسة المشرق الآشوريّة، وهؤلاء تكوّنهم في أنطاكيا منذ فترة مبكرة من تكوّن المسيحيّة، وبعد الاضطهاد هاجروا إلى فارس والعراق”، “والكنيسة النّسطورية الآشوريّة بعد الاضطهاد البيزنطيّ وجدوا ملاذهم في بلاد فارس لفترة من الزّمن، حتّى جاء سابور الثّاني (ت: 309م) فاضطهدهم ليجدوا ملاذهم في عُمان، ثمّ الإحساء والبحرين، وحتّى العراق، ولا يزال وجودهم في العراق حتّى اليوم”، وكان لهم تأثيرهم في عُمان، ولعلّ من يقصدهم الشّيخ سالم بن حمد الحارثيّ (ت: 1427هـ) في مقولته في العقود الفضيّة: “أنّ العمانيين قبل البعثة كانوا على الدّين المسيحيّ” هم النّساطرة، خصوصا في شمال عُمان، ومن ذريّة مالك بن فهم كانوا نساطرة، ولهم آثارهم ومجامعهم وأديرتهم، ثمّ يأتي اليهود، ووجودهم في إيران حتّى اليوم كبير جدّا، وتعتبر إيران الثّانية في الشّرق الأوسط من حيث الوجود اليهوديّ فيها، ومن أكثر الدّيانات عددا فيها حتّى اليوم، وقد ارتبطت اليهوديّة “بفارس ما قبل 2700عام، أي بعد السّبيّ البابليّ، وتعاملت معهم الدّولة الفارسيّة خصوصا في عهد كورش الكبير (ت: 529 ق م) تعاملا حسنا، وهو من أرجعهم إلى أورشليم، وبقت طائفة كبيرة منهم في إيران إلى اليوم، ويتحدّثون اللّغة الفارسيّة بجانب العِبريّة، ويرى الباحث اليهوديّ الحاخام رابي دايفيد أنّ مصطلح اليهوديّة ظهر في عهد الدّولة الفارسيّة، ولم يكن المصطلح معروفا في عهد النّبيّ موسى – عليه السّلام -، فظهر بعد ألف عام من وفاته”، هؤلاء اليهود امتدّوا تأريخيّا إلى اليمن وعُمان، وخصوصا في جنوب عُمان، واستمرت العلاقات لأسباب تجاريّة خصوصا بين يهود طهران وشيراز وبين مسقط حتّى فترة تأريخيّة متأخرة، ومنهم من استقرّ في مسقط، على أنّ وجودهم قديم أيضا حتّى في شمال عُمان كصحار، ولهم حضور في بعض الأدبيات الفقهيّة العمانيّة منذ فترة مبكرة.
وإذا كانت الزّرادشتيّة والنّساطرة واليهوديّة امتدادها من حيث الجملة من إيران إلى عُمان، فإنّ الإسلام كان عكسيّا، فالعديد ممّن نشر الإسلام، وشارك في الفتوحات في الإسلام المبكّر في بلاد فارس من أزد عُمان، فسجستان مثلا وكانت تمتدّ في أجزاء من أفغانستان وباكستان وإيران، وغالبها اليوم في أفغانستان وقديما كانت ضمن بلاد فارس، هذه ارتبطت في الإسلام المبكر بالخوارج عموما، وبالإباضيّة خصوصا، وارتبطت بهجرات العمانيين العلميّة مبكرا من خلال البصرة في العراق، ويرى الباحث أسامة محمّد فهمي صدّيق أنّ سجستان أصبحت “كعبة الخوارج في المشرق الإسلاميّ”، ومنها انتشر الإسلام في خراسان الكبرى وما بعدها، وخراسان – كما أسلفتُ – لها ارتباط بالهجرات العربيّة عموما، ولها ارتباط بالقبائل العمانيّة كآل المهلب والأزد بشكل عام، كما ارتبطت بالخوارج والإباضيّة قديما في بداية نشأتها، ومن أشهر علمائهم منها أبو غانم الخراسانيّ (ت: 190هـ على قول) صاحب أقدم مدوّنة فقهيّة إباضيّة حفظت آراء آباء الإباضيّة الأوائل، من جابر بن زيد (ت: 93هـ) ومن بعده من تلاميذه وتلاميذ تلاميذه.
الحضور الدّينيّ العمانيّ لم يتوقف في إيران حتّى يومنا هذا، فهناك ارتباط وثيق بين شافعيّة قشم وشافعيّة عُمان، فالشّيخ حبيب بن يوسف الفارسيّ الصحاريّ المسقطيّ (ت: 1276هـ) كان يلقب بمفتي الجزيرة أي جزيرة قشم في إيران، كما كان مفتيا عريقا في مسقط، وله مدرسة كبيرة فيها في منطقة مغب، وكان مقرّبا من سلاطين آل سعيد، وقشم احتفظت حتّى اليوم بالمدرستين الإسماعيليّة والكماليّة، والعديد من رموزها وفقهائها من شافعيّة عُمان، ولها أوقافها في عُمان وخصوصا صحار، كما كانت هناك علاقات دينيّة ومذهبيّة في لنجة وبندر عبّاس وغيرها، هذا ما استثنينا العلاقات الشّيعيّة خصوصا العجم، وهو طبيعيّ لكون الشّيعة هم الأكثر انتشارا في إيران من الدّولة الصّفويّة وحتّى اليوم.
وإذا جئنا إلى اللّغة فالمعلوم أنّ اللّغة البهلويّة هي اللّغة الإيرانيّة القديمة، ويرى صادق عبّادي أنّ “الدّواوين عند العرب تكتب باللّغة الفارسيّة القديمة، وسنّ عمر بن الخطاب (ت: 23هـ) هذه الدّواوين، وفي العهد الأمويّ عرّبت من البهلويّة، والدّيوان كلمة فارسيّة بمعنى الدّفتر المكتوب فيه التّقارير المالية، ولمّا حكم العرب فارس كانت لغتهم العربيّة، بينما لغة البلد البهلويّة، ولمّا كان مركز الحكم العربيّ في القرنين الثّاني والثّالث الهجريين بلاد خراسان، وكانت لغتهم الفارسيّة، وهي لغة طاجيكستان اليوم، فتوسعت من خراسان إلى ما بعدها، فأزاحت اللّغة البهلويّة، فولدت لغة فارسيّة معاصرة، فإذا قيل الفارسيّة القديمة أي يقصدون البهلويّة، وإذا قيل الفارسيّة المعاصرة أي لغة بلاد خراسان، وهذه اختلطت بالعربيّة، فمفرداتها من خمسين إلى ستين بالمائة فارسيّة، والباقي مفردات عربيّة”، وممّن أثر فيها أزد عُمان لوجودهم في خراسان منذ الإسلام المبكر، كما أنّ عالم النّحو سيبويه (ت 180هـ/ 796م) “وأصله من بلاد فارس من شيراز، واستقرّ بالبصرة، وهو من علماء النّحو العظام حتّى لقب بشيخ النّحاة”، هذا الرّجل كان من تلاميذ الخليل بن أحمد الفراهيديّ (ت: 173هـ/ 786م)، ولصيقا به، والفراهيديّ أصله من عُمان، واستقرّ بالبصرة.
وفي الجانب الاستثماريّ والامتداديّ فعمان قديما امتدّت إلى سيراف في إيران، ولقوتهم البحريّة كان لهم حضورهم وتأثيرهم الاستثماريّ والثّقافيّ في الخطّ السّاحليّ الجنوبيّ من إيران اليوم، وكانت العديد من الموانئ كبندر عبّاس وغيرها تحت إدارة العمانيين حتّى وقت قريب، وإن كانت العلاقات الاقتصاديّة والاستثماريّة لها حضورها حتّى اليوم بشكل طبيعيّ، بيد هناك من المفردات الحاضرة في الذّاكرة الثّقافيّة والاجتماعيّة في عموم إيران مثل “اللّيمون العمانيّ”، فلا تدخل سوقا شعبيّا في جميع أنحاء إيران إلّا وتصادفك هذه العبارة، واليوم في شيراز مثلا تجد القهوة العمانيّة في العديد من المقاهي، فكثيرا ما تصادفك عبارة بالفارسيّ: “شاى كرك قهوه عمانى موجود”، كما تجد البيسة والرّيال العماني أيضا لهما حضور في المطاعم والمقاهي وعند الصّرافين بشكل طبيعيّ، ممّا يفتح آفاقا – كما أسلفت – للباحثين العمانيين خصوصا في كشف الذّاكرة العمانيّة وحضورها في المحيط الإيرانيّ قطريّا، والفارسيّ عموما، كما في الاتّجاهات الأخرى كبلاد السّند والهند الكبرى، وشرق آسيا، ولا يكتفى بالجوانب السّياسيّة والمواثيق الاقتصاديّة، فهناك ذاكرة عمانيّة كامنة في غيب الشّعوب والبلدان، تنتظر من يخرجها إلى عالم الشّهود والتّوثيق.
*للمزيد يُنظر كتابي: “إيران التّعدّديّة والعرفان”، وبعض النّصوص في المقالة بين (المُزدوجين) أو علامة الاقتباس منقولة من الكتاب نفسه.