من مقالة: مسقطيّات (1): من مسقط إلى الذّات: رحلة في ضيافة الفكر العُمانيّ في صحيفة شؤون عمانيّة
من أبرز محطات هذه الرحلة، وأكثرها إشراقًا على المستويين الفكري والإنساني، كان لقائي بالشيخ بدر بن سالم العبري؛ الكاتب والباحث العُماني المتبحّر في الشؤون الدينية والفكرية والتاريخية، وأحد الوجوه البارزة في المشهد الثقافي العُماني المعاصر. لقد جمع هذا اللقاء بين عمق الفكر وسعة الأفق، وبين المعرفة المترسّخة والخُلق المتواضع، حتى بدا لي العبري كصوت هادئ وسط ضجيج اللحظة، وأحد أعمدة النهضة التأملية التي تشقّ طريقها في عُمان بثبات وبصيرة.
لم تكن هذه المرة الأولى التي ألتقيه فيها؛ فقد جمعتني به لحظة عابرة في منتدى النقد الفلسفي بمؤتمر الفجيرة عام 2024. ورغم قِصر تلك اللحظة، أدركت أنني أمام رجلٌ تتآلف فيه المعرفة والبصيرة، وتنسجم فيه شفافية الروح مع رهافة الخُلق.
في لقاء مسقط، لم تتجدد قناعتي بالعبري فحسب، بل ترسّخت وتعمّقت. فهو ليس مجرد باحثٍ تقليدي، بل رحّالةٌ في خرائط الفكر، يجول في عوالم الدين، والمجتمع، والفلسفة، والتاريخ، بقلم سيّال ونفسٍ تأملية لا تخبو… يتناول قضايا التعايش والإنسان بجرأة الحكيم، وبلغةٍ تُزاوج بين الحفر المعرفي والبصيرة الوجدانية.
ما أدهشني أكثر من اتساع أفقه، هو إحاطته الدقيقة بالشأن الخليجي عامة، والسعودي خاصة؛ بأعلامه ومفكريه، بتفاصيل ثقافته، وأدبه، وفنّه، وتحوّلاته الفكرية.
كان يتحدث عن المملكة كما يتحدث العارف بأسرار المكان لا زائره، وكأن بينه وبينها صلة روحية لا تُختصر بالجغرافيا. عندها فقط أدركت – وربما على نحوٍ مغاير – أن الآخر أحيانًا يُعيد تشكيل وعينا بذواتنا، لا لأن معرفته أوسع، بل لأننا ننظر من خلاله إلى ما كنا نعتقد أننا نعرفه.
العبري نموذج نادر للعالم والمثقف الذي لا يهاب السؤال، ويعرف كيف يخوض في مياه النقد دون أن يُغرق المركب، وكيف يُوازن بين ثقل التراث وضغط الحاضر. فهو من القلائل الذين يجمعون بين الرصانة الدينية والانفتاح الفلسفي، وبين الحفر في جذور النصوص ومساءلة الراهن بلغةٍ هادئة، لكنها نافذة.
وخلف هذا الشيخ الهادئ، وجدتُ بعض تلامذته النجباء، شبابًا لا تخطئ العين فيهم لمعان الشغف، ولا يخطئ القلب فيهم حرارة الطموح. كانوا أشبه بجيلٍ يُمسك بالشعلة في زمن الرياح، يُنقّب عن المعنى، لا لينجو وحده، بل ليبني جسرًا معرفيًا يمتد نحو الغد.
لقراءة المقالة كاملة