جريدة عُمان، الأربعاء 6 محرّم 1467هـ/ 2 يوليو 2025م
شاع مؤخرا في وسائل التّواصل الاجتماعيّ، وبعض الإعلام الرّقميّ، وعند بعض “المشاهير” من خلال المقاطع الصّغيرة مصطلح “السّمت العمانيّ”، ورأيت بعض المحاضرات له، بيد أنّي لم أهتدِ إلى تعريف واضح له، وما معياره وحدوده، ومدى تداخله مع الهويّة المتحرّكة، فهناك خلاصة صورة واحدة له، غالبها مرتبطة بالرّجل، وهي أن يلبس ثوبا ومصرّا أو عمّة عمانيّة، مع الخنجر والعصى، وأن يجلس بهيئة معيّنة، وهكذا فيما يتعلّق بطريقة مناولته للقهوة، وسؤاله عن علوم الضّيف وأخباره، وما شابه ذلك من عادات معهودة في المجتمع.
جاء في مختار الصّحاح أنّ السّمت هو “الطّريق، وهو أيضا هيئة أهل الخير”، ولعلّ تقييده بأهل الخير أي اللّباس الدّينيّ – إن صحّ التّعبير – المعهود عند مجتمع ما، حيث أنّ اللّباس الدّينيّ ذاته متحرّك جغرافيّا وزمنيّا، وفي المعجم الوسيط سمت “حسن سمته، وسار على الطّريق بالظّنّ … والسّمت الطّريق الواضح والمذهب والسّكينة والوقار والهيئة ونقطة في السّماء فوق رأس المشاهد”، ففي هذا التّعريف جانب وجدانيّ متعلّق بالسّمت كالصّمت وقلّة الحديث إلّا في المهم، وجانب مشاهد كهيئة اللّباس وما يظهر عند بعضهم من آثار السّجود في جلد رأسهم إشارة إلى كثرة النّسك، وهذا شاع كثيرا عند بعض المتصوّفة والمتنسكة.
الظّاهر من هذا أنّ السّمت مرتبط بالهويّة المتحرّكة “الطّريق والمذهب”، وليس بذاته هويّة ثابتة، فما ليس مألوفا اليوم قد يكون مألوفا غدا، وما لا يكون مقبولا في مجتمع ما هو مقبول في مجتمع آخر، فمثلا القيام لمصافحة الضّيف نجده مألوفا عندنا ومذموم أن يصافح ضيفه وهو جالس، بينما هو من عادات المجتمع في بعض دول المغرب الأقصى وهو مصافحة الضّيف جلوسا، ولا يقوم له، كذلك اللّباس ففي اليمن وحتّى في ظفار مثلا من الوقار الخروج بالإزار، والصّلاة به، وهو من عادات العرب العتيقة حتّى في الإسلام المبكر، بينما أصبح اليوم مستهجنا في أغلب مناطق الخليج أن يقابل به ضيفه، أو أن يدخل به المسجد ومجالس التّجمّع للعزاء أو الأفراح، وكان سابقا معهودا في مجالس العزاء أن تجد العديد يعزون بعيدا عن إظهار الفرح بلبس العمّة أو المصرّ، وحمل العصى، ولبس الخنجر، فيرونه لا يتناسب ومجالس العزاء الّتي هي أقرب إلى إظهار البساطة والحزن، فتجد العديد بكمّتهم، ولا يحملون عصى في أياديهم، بينما اليوم بسبب “تحرّك الهويّة” أصبح من المعهود خلاف ذلك، وبعضهم يبالغ في لبس الخنجر ليكون صورة غالبة، وليست محصورة عند بعض الأعيان.
ثمّ طبيعيّ أن تتأثّر الهويّة المتحرّكة بالحداثة كما تتأثّر بالتّحديث، ويعود هذا إلى الهجرات والخلطة، وإلى الإعلام والسّياحة، مثلا لمّا بدأت الحداثة نتيجة الثّورة الصّناعيّة وما بعدها تدخل إلى الجزيرة (أي دول الخليج) في نهايات القرن التّاسع عشر الميلاديّ وبداية القرن العشرين، وقد كان دخولها إلى البحرين أسبق وأسرع وأكثر تقبّلا، ثمّ دخلت ببطئ إلى باقي الخليج، ولها تمظهراتها في اللّباس والنّقل وطريقة الأكل والسّماع كالرّاديو والسّينما والتّصوير واستخدام الأوراق النّقديّة (الأنواط)، بل حتّى في المساجد كمكبرات الصّوت، فكان جدل في تقبّل العديد منها، ففي عُمان مثلا بدأ “الكوت والجوتيّ” يدخلان في المجتمع مبكرا قبل 1970م، فاختلفوا في حكم استخدامهما، وفي هذا يرى خلفان بن جميّل السّيابيّ (ت: 1392هـ/ 1972م) “وأمّا الكوت والجوتيّ فإنّ الله تعالى أباح للنّاس جميع اللّباس إلا ما ورد الدّليل بتحريمه كالذّهب والحرير في حقّ الرّجال دون النّساء، هذا في أصل الحكم، ولكن إذا صار هذا اللّباس المذكور من زيّ أهل الشّرك وشعارهم، وبه عرفوا كما عرفت النّصارى ….. بكمّتهم الكبيرة المعروفة؛ كره ذلك عند المسلمين لما فيه من التّشبه بهم”، كذلك لبس البنطلون ورباط العنق، وقولهم: “إنّ لباس البنطلون إن كان يستر الرّجل من سرّته إلى ركبتيه فلا بأس به، وهو جائز، بل هو أستر من الإزار، هذا إذا ما كان وحده ، وإن كان فوقه قميص فجائز مطلقا، وأمّا رباط العنق كهيئة الزّنار فهذا لا يجوز، وتستعمله النّصارى، وهو الفارق بين المسلم والنّصرانيّ في الهيئة، والله أعلم” ، وأجازوا “لبس السّاعة في معصم اليد … إن قصد به غرض صحيح في الشّرع” كمعرفة أوقات الصّلاة، كما حدث جدل حول الأكل بالمقامش – أي الملاعق – والشّوك، والأكل على الطّاولات، “إنّ نبيّنا – صلّى الله عليه وسلّم – ما روينا عنه أنّه أكل بالمقامش والشّـوك، بـل كان يأكل بثلاث، وربّما استعان برابعة وخامسة، لكنّا لا نقول إنّ الأكل بالمقامش حرام ما لم يرد الأكل خلاف السّنّة، فإن أراد خلافها حرّم ذلك، والأكل فوق الكراسي جائز ما لم يكن لأجل الكبر والتّرفع فهذا حرام”، كما حرّموا “النّظر إلى السّينما، والجلوس عندها … وهي نوع من السّحر”، وفكرة السّينما حاضرة مبكرا، فقد اعتبر الإمام الخليليّ (ت: 1373هـ/ 1954م) دخول السّينما من اللّهو واللّعب، وذهاب السّاعات فيها من أعظم المفاسد، كما اعتبر الإمام الخليليّ سماع القرآن من الرّاديو أو السّنطور من الملاهي، “وليس من تعظيم القرآن قراءته في السّنطور”.
واشتدّ الأمر في عُمان بعد 1970م بسبب الانفتاح الإعلاميّ والدّيمغرافيّ بصورة أكبر، فكانت جدليّات في تحرّك الهويّة، وصلت أحيانا إلى التّبديع والتّفسيق، وحفظت بعض جدليّاتها الصّحف والمجلّات الأولى، وبعض الكتابات الفقهيّة كالفتاوى، فشاع حينها عند الشّباب إطالة شيء من شعورهم، ولبس بعض الملابس الملّونة، ممّا أغضب إحدى الكاتبات العمانيّات، فكتبت مقالة في مجلّة الغدير عدد 37، صفر 1401هـ/ ديسمبر 1980م بعنوان “حول الشّباب المتميّع”، واعتبرتهم بأنّ “شباب اليوم تعدّوا حدودهم، فبدلا أن يتحوّلوا من شباب إلى رجال نفتخر بهم، ونعتزّ بهم؛ تحوّلوا إلى أنذال يقارنون الفتاة شكليّا ومعنويّا”، ممّا أحدثت المقالة جدلا وردودا حينها.
تحرّك الهويّة اليوم بشكل أكبر شيء طبيعيّ جدّا؛ لسبب أنّ العالم مفتوح على بعضه، ولم يعد المؤثر الوحيد مقصورا عند الإعلام الجديد حينها كما كان يخافه الطّبيب النّفسيّ الإنجليزيّ تشارلز دافي في العقد الأول من القرن العشرين الميلاديّ بسبب تأثير “ومحاكاة وتقليد أبطال الشّاشة البيضاء من أمثال جيمس دين وبريسلّي وباقي الممثلين الأمريكيين” على المراهقين في بلده إنجلترا وباقي العالم الأوروبيّ خصوصا آنذاك، [النّصّ لليلى الحافي مترجمة كتابه مشكلات الشّباب، ترجمته عام 1960م]، نحن نتحدّث اليوم عن تأثير الثّقافة الصّينيّة والكوريّة المزاحمة للثّقافة الأمريكيّة، بل أنّ التّقنيات المعاصرة كالإنستجرام والتّك توك، والمقاطع الصّغيرة في جميع وسائل التّواصل مؤثرة بشكل واضح، وهي أشمل من حصرها في زوايا جغرافيّة محدّدة، فهي تساهم في تحرّك الهويّة بشكل أكبر، هذا لا يمنع أن يدرس مثل “السّمت العمانيّ” بشكل اجتماعيّ منهجيّ معرفيّ واضح، له رؤيته ومعالمه، لكن أخشى أن يؤدلج ويصهر في جانب هويّاتيّ معيّن، مصوّرا المجتمع في تعدّديّته أنّه على صورة واحدة، وحتّى لا يتحوّل إلى عائق يعوق تقبّل الآخر وحركة الانفتاح الطّبيعيّ في المجتمع، فينبغي دراسة مثل هذه التّحوّلات بشكل أعمق بعيدا عن التّسطيح والرّؤية الأيدلوجيّة المسبقة، كانت دينيّة أو اجتماعيّة أو ثقافيّة.