المقالات النقدية

محمود محمّد طه وقتل الفكرة

جريدة عمان 7 أغسطس 2023م

قد تستطيع أن توقف إنسانا، أو تشوّه صورته، أو تستغل ضعفه، أو تضعه في زاوية ضيّقة تصنفه بها ظانّا أنّك قتلته اجتماعيّا أو سياسيّا، أو تنهي وجوده بالكليّة، ولكنك لن تستطيع قتل فكرته، فالفكرة لا تُحبس وإن قيّدت صاحبها، ولا تموت وإن أعدمت قائلها، فهي تسبح في هذا الفضاء لتتدافع مع الأفكار، وتسيح في الأرض حتّى تجد من يلتفت إليها ولو في عالم آخر، وظرف زمنيّ متأخر.

في التّأريخ نماذج عديدة من الأفكار الّتي أعدم أصحابها، أو شرّدوا في الأرض، أو حبسوا تحت الأرض وفوقها، أو أقصوا من المجتمع؛ لكن أفكارهم بقت وتدافعت، ومن حاربهم يوما؛ تبنى بعضا أو العديد من أطروحاتهم في أعقابه، وأصبحت جزءا من منظومته الفكريّة والاجتماعيّة، بل والسّياسيّة والدّينيّة.

ولهذا قيل “الفكرة لا تُصادر” وإنّما يتدافع معها، وعند إلينور روزفلت (ت 1962م) أنّ العقول الكبيرة تناقش الأفكار، أو على الأقل تناقش الأحداث كما عند العقول المتوسطة، أمّا العقول الصّغيرة فلا تزال تناقش الأشخاص، ولا تراوح مكانها عند الشّخوص.

ومن نماذج محاولة قتل الأفكار في عالمنا العربيّ ما حصل للمفكر السّودانيّ محمود محمّد طه (ت 1985م)، والّذي أتى بنظريّة “الرّسالة الثّانية” في كتابه “الرّسالة الثّانية من الإسلام”، والّذي صدر عام 1966م، ومداره أنّ “الأصل في الرّسالة الثّانية الحيويّة والتّطوّر والتّجدّد”، فيرى “من الخطأ الشّنيع أن يظنّ إنسان أنّ الشّريعة الإسلاميّة في القرن السّابع تصلح بكلّ تفاصيلها للتّطبيق في القرن العشرين، ذلك بأنّ اختلاف مستوى مجتمع القرن السّابع عن مستوى مجتمع القرن العشرين أمر لا يقبل المقارنة، ولا يحتاج العارف ليفصّل فيه تفصيلا ….”، فالدّين في نظره “لا يتطوّر، يتطوّر الإنسان في فهمه له، لابدّ من تطوير الشّريعة لمواجهة تحدّيات العصر ومطالب الإنسان”.

قدّم محمود طه رؤيته في فترة مبكرة منذ أربعينيّات القرن الماضي، أمام تيارات متجاذبة في محاولة الموائمة بين الشّريعة والنّصّ الدّينيّ بشكل عام والتّراث بشكل أعم؛ بين هذا وبين عالم مختلف تماما عن فترة نزول الشّريعة – أي القرن السّابع الهجريّ – فيرى محمود طه إذا توقف العقل عند تنظيم القرن السّابع الهجريّ فطبيعيّ أن تلتمس المجتمعات المسلمة “حلّ مشاكلها في فلسفات أخريات”.

فالمدرسة الإصلاحيّة حاولت الموائمة بالاتّساع في التّأويل، وقابلهم القرآنيّون الّذين رأوا أنّ الخلل في النّصّ الثّاني – أي الرّواية – وهيمنتها على النّصّ الأول، ممّا جعلته أقرب إلى التّبرك منه إلى الهيمنة والتّصديق، بينما مالت مدرسة ثالثة إلى تاريخيّة المتحرك من النّصّ الدّينيّ عموما، كالشّريعة مثلا، وعلى هذا اقتربت رؤية محمود طه من الرّؤية التّأريخيّة ولكن من خلال البعد الصّوفيّ أو الغنوصيّ تحت نظريّات الفيض والإنسان الكامل ووحدة الوجود وفق القيم الكامنة في القرآن المكيّ، بيد أنّ القرآن المدنيّ كان ظرفيّا تأريخيّا متوائما مع  القرن السّابع الهجريّ، فكان كتابه عام 1969م بعنوان: “الإسلام برسالته الأولى لا يصلح لإنسانيّة القرن العشرين”، والّذي أثار حفيظة الفقهاء، فهو لا يقصد أنّ الإسلام لا يصلح في القرن العشرين؛ ولكن يرى أنّ الإسلام بصورته الحرفيّة في الشّرائع أي المتحرك المتعلّق بالأحوال الشّخصيّة والمعاملات والبيوع والحدود والقوانين والدّولة لا يتناسب مع التّطوّر الإنسانيّ، والنّهضة المعرفيّة العالميّة في القرن العشرين، فعلينا البحث في جوهر الشّريعة، وليس الوقوف عند حرفيّتها، وهو لا يقصد هنا الثّابت كالطّقوس، كما أنّ المدرسة التّأريخيّة ترى بشكل ضمنيّ أنّ المدرستين الإصلاحيّة والقرآنيّة أقرب إلى التّرقيع، فهم بين جمود التّقليديين وعنفهم وإقصائهم من خلال دعم السّياسيين والمجتمع لهم، وبين التّطوّر المعرفيّ في العالم الّذي أوجد إشكالات في النّصوص الدّينيّة الّتي نزلت في فترة زمنيّة كانت بسيطة معرفيّا، وأقرب إلى الأميّة والبدائيّة.

لم تتوقف رؤية محمود طه عند الجانب المعرفيّ، بل امتدّت إلى الجانب الحركيّ من خلال تأسيس الحزب الجمهوريّ عام 1951م، والّذي قام على منطلقين في الابتداء: تحرير السّودان من الاستعمار الخارجيّ، ومن الولاءات الخارجيّة، والتّدخل في أرض السّودان، ونهب ثرواته وخيراته، والمنطلق الثّاني: سودنة المجتمع، أي جعل السّودان أمّة واحدة على اعتبار المساواة في الإنسانيّة، ولا يمكّن تحقّق المواطنة إلا على ذات المساواة، في الحقوق والواجبات، وفي الحكم والمسؤوليات؛ الجميع سواء، لا فرق بين مسلم ولا مسيحيّ ولا وثنيّ، ولا بين ذكر وأنثى، ولا بين مؤمن وغير مؤمن، ولا بين عربيّ وغيره.

لهذا جعل شعار الحزب من الابتداء في عام 1951م “الحريّة لنا ولسوانا”، أي الجميع سواء في الحريّة، ثمّ وضع سياجا لحكومة السّودان عام 1955م بأنّها “حكومة جمهوريّة فدراليّة ديمقراطيّة اشتراكيّة”، هذه الحكومة ذات دستور مرجعيّته إنسانيّة، بمعنى “أنّ أسس دستور السّودان الدّائم يجب أن تقوم على الأصول الّتي يلتقي فيها النّاس، وهي أصول الإنسانيّة”، “والدّستور يجب أن يستمدّ من الفكرة التّي توحد الشّعب كلّه، الدّستور ليس فيه أغلبيّة أو أقليّة …”، وأمّا “الكلام عن أنّ الدّستور الإسلاميّ يعطي الأقليات حريّة العبادة؛ هذا كلام ليس له قيمة بالمرة، لأنّك حينما تتكلّم عن الدّستور أنت تتكلّم عن الدّيمقراطيّة، والدّيمقراطيّة هي فرض التّساوي بين المواطنين من حيث هم مواطنون”.

وما قدّمه محمود طه من رؤية متقدّمة جدّا تتوافق مع العقل وسنن الاجتماع البشريّ، إلّا أنّها كما يرى الباحث السّودانيّ عبد الله الفكي البشير أنّها تتناسب مع السّودان بشكل كبير، لأنّه “بلد يعيش كظّة التّنوع والتّعدد الثّقافيّ، لا سيّما التّنوع الدّينيّ، ويبحث عن سبل التّعايش بين مجموعاته وثقافاته، هي ليست دعوة قاسية وظالمة في حقّ غير المسلمين فحسب؛ وإنّما في حقّ المسلمين أنفسهم، فالمسلمون أنفسهم جماعات وفرق، ولكلّ منهم رؤيته وفلسفته ومدرسته الخاصّة في فهم الإسلام …. وخلاصة الأمر ليس هناك فرصة في مجتمعات التّنوع الثّقافيّ كحال السّودان سوى اعتماد الدّولة المدنية على أساس المواطنة، بتساوي جميع المواطنين من حيث هم مواطنون”.

بطبيعة الحال ليس من السّهولة في تلك الفترة الزّمنيّة، وفي بدايات الإفاقة في العالم العربيّ، والتّحرّر من الاستعمار، أن يقدّم محمود طه هذه الرّؤى الجريئة وغيرها، لهذا من الطّبيعيّ أن يجد الاتّهام والتّشويه الدّينيّ، والإقصاء السّياسيّ والمجتمعيّ، بداية من تكفيرهم والحكم بردتهم من قبل المؤسّسات الدّينيّة الكبرى في العالم الإسلاميّ وفي السّودان، ثمّ الإقصاء من الجامعات والكليّات، إلى الحكم “غيابيّا بردّة محمود محمّد طه عن الإسلام” في 18 نوفمبر 1968م، ثمّ إعدامه في 18 يناير 1985م، بيد أنّ الحكومة الدّستوريّة أبطلت الحكم في 18 نوفمبر 1986م، ولكن بعد فوات الأوان.

إعدام محمود طه كان جسديّا، إلّا أنّ فكره أحدث مراجعات بداية من حكم الرّدّة وعقوبتها ذاتها، فيذكر عبد الله الفكي البشير في كتابه “المؤسّسات الدّينيّة” أنّ السّيّد الصّادق المهديّ (ت 2020م) يرى أنّه “لا يوجد في نصوص كتاب الله عقاب لمن بدل دينه … الشّريعة الإسلاميّة لا تشجع رمي الآخرين بالكفر”، وقد ألغى الدّستور السّودانيّ مادّة (126) الرّدة عن الإسلام، واستبدلها بتجريم التّكفير في عام 2020م، كما أنّ العديد من أفكار محمود طه تبناها خصومه لاحقا في السّودان، وتبنتها المؤسّسات الدّينيّة الكبرى في العالم الإسلاميّ، والّتي حكمت بردته سابقا.

والحقّ يقال إنّ الحالة المأساويّة الّتي يعانيها السّودان لعقود، والحالة الأشدّ الّتي يعانيها اليوم، في ظلّ الصّراعات المسلحة الأهليّة، والتّدخلات الخارجيّة، وقد أحزنني أن أرى السّودانيين مشردين في الأرض، وفي سفرتي الأخيرة كان غالب من في الطّائرة من السّودان، فسألتُ بعضهم إلى أين تذهبون، قالوا فقط نذهب إلى مسقط ونرجع في نفس الوقت لأجل تجديد تأشيرة الإقامة، فلا عمل يحفظ كرامتهم، ولا بلد يستقرون فيه، ولا أمّة عربيّة ترحمهم، وقد عانت هذه الأمّة سقوط وتشريد بلدان، ولا  نعلم أين يكون القادم، إن لم تدرك هذه الأمّة أن قوتها في إحياء جميع الشّعوب، وحفظ كرامتهم، وعسى أن لا يكون حال بعضها: “أكلتُ يوم أكل الثّور الأبيض”.

كما أرجو من المجتمع السّودانيّ الانتقال إلى حالة التّعقل، فبلد السّودان فيه الخير الكثير، وفيه من العقول الرّاجحة، استفادت منهم بلدان وأمم، فحريّ أن يستفيد منهم هذا البلد الطّيب، وجميل أن ينعم أهل السّودان كغيرهم بالاستقرار والأمن والعدالة الاجتماعيّة، كما أنّه من الواجب أن تستفيد السّودان من هذه الأطروحات التّقدميّة، والّتي قدّمها مفكروهم وفلاسفتهم، كرؤية محمود طه، ولا يعني التّسليم المطلق وعدم نقدها، ولا يقول هو بذلك، ولكن في الوقت نفسه جميل أن يلتفت إليها وإلى غيرها، لعلّ بارقة أمل تضيء قريبا، تخرج السّودان إلى عالم الاستقرار والتّقدم والمساواة والإحياء، وما ذلك ببعيد!!!

مصادر المقالة: كتاب محمود محمّد طه والمثقفون: قراءة في المواقف وتزوير التّاريخ، وكتاب المؤسّسات الدّينيّة: تغذية التّكفير والهوس الدّينيّ للدّكتور عبد الله الفكي البشير.

السابق
كمال الحيدريّ وتأريخيّة العقل الفقهيّ
التالي
كما كُتب على الّذين من قبلكم
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً