عندما نتحدث عن القراءة فنحن نتحدث عن جانب أشبه بالجانب التّكويني الّذي لا يمكن بحال أن يستغني عنه الإنسان، سواء على مستوى الفرد، أم على مستوى الجماعة.
فالقراءة تمثل الغذاء العقليّ للإنسان، فثلاثية الإنسان متكاملة، القلب والعقل والجسد، فهو بحاجة إلى رياضة الروح للقلب، ورياضة القراءة والتفكر والمعرفة للعقل، كما أنّه بحاجة إلى رياضة البدن للجسم.
ولهذا الأمم الّتي لا تقرأ ولا تفكر عمرها الزّمني ليس طويلا، وسرعان ما يصيبها الوهن والضّعف، وتكون رهينة أمم أكبر منها، تقدّمت بفعل القراءة وتشجيع الإبداع ومراكز البحث ومؤسسات التّعليم والمعرفة.
من هنا ندرك أول خطاب قرآني للنّبيّ محمد صلّى الله عليه وسلّم بالقراءة في قوله سبحانه وتعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ،اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.
والقراءة هي الفريضة الغائبة، وهي مقدمة على الصّلاة والصّيام والحج، إلا أنّ النّاس أصبحوا يهتمون بالمساجد ونقشها أكثر من الاهتمام بالمعرفة، وبناء العقول، والسباق في إنشاء مراكز البحث والإبداع والإنتاج!!
والقراءة في القرآن لها معنيان رئيسان، قراءة ما يكتبه الإنسان في أيّ معرفة، وقراءة ما في الكون من سنن ونواميس، ومحاولة الكشف لتسخير هذه السنن في اختراع ما ينفع الإنسان، والاستفادة من الأمم السابقة في هذا، وما وصلت إليه المعارف الإنسانية والتّجريبيّة من نتاج ومعارف.
لهذا نجد النّص القرآنيّ يحذّر من التسليم لثلاثة أمور:
الأمر الأول: موروث أهل الكتاب وانتشار التّحريف بينهم، حيث قال سبحانه: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
الأمر الثّاني: التّقليد والاستسلام للفكر الموروث حيث قال سبحانه: {أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ، بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}.
الأمر الثّالث: عدم التّأكد من صحة الخبر، حسب الآلة المتاحة، يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}.
وفي المقابل أمر الله سبحانه وتعالى بإعمال العقل والتّدبر والتّفكر في عشرات الآيات، كما أمر بالسّير في الأرض، باطنا وفضاء، لكشف أسرارها، وتسخير سننها، حث قال: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، وقال: {وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ}.
وجعل التّفكر في الكون من صفات المؤمنين العابدين حيث قال: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
بل حتى الآيات القرآنية ذاتها مع يسرها وسهولتها أمر الله سبحانه وتعالى بالتدبر فيها، قال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}.
خلاصة ما تقدّم القرآن يدعو إلى التّأمل والنّظر والتّدبر، وهي من أسس العبادة لله سبحانه وتعالى.
ونأت الآن إلى قضية وسائل التّواصل والقراءة، فهناك فريقان: فريق يرى وسائل التّواصل سببا في الانتكاس القرائيّ، والاشتغال بها جعلت مستوى المعرفة متدنيا، ومستوى القراءة متراجعا.
وفريق آخر يرى أنّها زادت من مستوى المعرفة لدى النّاس، ورفعت من مستوى الوعي والتّنوير.
وفي الحقيقة ليس الخلل في وسائل التّواصل وإنّما الخلل في التّعامل معها، فالسّؤال يكمن في آلية استثمارها معرفيّا وقرائيّا، فإدراك قيمتها في ذلك يجعل منها سلاحا مهما في زيادة الوعي المعرفيّ والقرائيّ في المجتمع، وليس العكس.
فلهذا شخصيّا أميل إلى القراءة المنتجة أكثر من القراءة التّرفيّة، وأقصد بهذا من خلال التّقسيم المعرفيّ للقراءة، فهناك قراءة عموديّة، قد يقرأ بها الشّخص عشرات الكتب، بيد هناك قراءة رأسيّة فاعلة وناقدة مع الكتاب ذاته.
فعلى سبيل المثال في القراءة الرّأسيّة عليه استحضار التّالي:
أدرك بداية عنوان الكتاب وماهيته، ثمّ أبحث عن الكاتب ولماذا كتب وزمانه وعصره، وأركز على مقدّمة الكتاب وفهرسه لأدراك الخريطة الذّهنيّة للكتاب، وأحاول أثناء القراءة تدوين أهم عناصر الكتاب، مع النّقد والإضافة.
وهنا يأتي دور وسائل التّواصل الاجتماعيّ، فهي فرصة أولا لمشاركة الآخرين ما قرأت، إمّا على شكل تغريدات سريعة، أو مقتطفات منوعة، أو مقالات تلخيصيّة وناقدة، أو مقاطع مرئية.
وهذا له ثلاثة فوائد: الأولى مشاركة الآخرين بكلّ سهولة، فهو يملك قناته وصحيفته بذاته، ينشر في أيّ وقت شاء، ومتى ما يشاء.
والثّاني: تحقيق مبدأ الفائدة لغيره، والتّفاعل معهم، فهو لا يقرأ لذاته بقدر ما يقرأ ليساهم في نشر الوعي والمعرفة في المجتمع، وهذا يتحقق بصورة كبيرة عن طريق وسائل التّواصل.
والثّالث: الرّقيّ بالذّات، لأنّه هنا يرقى بذاته قرائيّا ومن ثمّ كتابيّا وإلقائيّا، ويتطور بهذا شيئا فشيئا، ثمّ إنّ مساحة الحريّة والتّداخل والنّقد الذّاتيّ والغيريّ في وسائل التّواصل يساهم بشكل كبير في رفع هذا المستوى من الرّقيّ المعرفيّ والقرائيّ للكاتب ذاته.
على أنّ وسائل التّواصل عندما تستثمر في هذا يتحقق بها عدة أمور:
أولا: الخروج بوسائل التّواصل من كونها أداة للتّرفيه، وقد يكون سلبا عندما تستغل في نشر الأكاذيب والشّائعات، حيث يخرج بها إلى أداة استثماريّة لما أسلفنا ذكره في الجانب القرائيّ والمعرفيّ والتّنويريّ، وبلا شك أنّ الوسائل ترتفع بارتفاع معدل القراءة والوعي في المجتمع، والعكس صحيح، وإن قيل قديما إذا أردت أن تعرف الشّخص فانظر من يصاحب، فهنا إذا أردت تقييم مجتمع أو فرد فانظر كيف يستثمر وسائل التّواصل!!
ثانيا: وسائل التّواصل تجعلك تتعرف على قراء أكثر، وفي مجالات كثر، وبلغات متعددة، وهذا يؤدي إلى تداول المعرفة، فلا يمكن للإنسان أن يقرأ كلّ شيء، وأن يدرك خرائط جميع المعارف، إلا أنّ وسائل التّواصل عندما تستثمر في هذا يجعلك تحقق هذا الأمر، من خلال القراءة الجماعيّة التّداوليّة، بدلا من القراءة العموديّة التّي تقف عند القارئ فقط!!
ثالثا: معاصرة كلّ جديد في المعرفة، ومعرفة المستجد فيها، وهذا مهم للقارئ؛ لأنّ المعرفة أصبحت تتطور وتتضاعف في الوقت نفسه بشكل يومي!!!
رابعا: الانتقال من القراءة المعجبة إلى القراءة النّقديّة، ومن القراءة التّرفيّة إلى القراءة الاستثماريّة، وهذا يتحقق عن طريق وسائل التّواصل الاجتماعيّ بشكل كبير جدا.
خامسا: معرفة القراء والمبدعين في المجتمع؛ لأنّ مساحة الحريّة وإعطاء الفرصة للآخر ليعبر عن رأيه؛ يفتح مجالا أكبر للإبداع والانتاج بكافّة صوره وأشكاله.
ولهذا أرى أنّ هذا الوسائل إن أدركنا بحق أهميتها سوف تكون جانبا استثماريا مهما خاصة في هذا المجال.
وعليه علينا أن نخرّج من النّظرة السّلبيّة لهذه الوسائل إلى النّظرة الإيجابيّة والمنفتحة بشكل أكبر إذا ما أدركنا أهمية ذلك خاصّة في مثل هذه الجوانب، وهذا يتحقق شيئا فشيئا بمساهمة الفرد نفسه، مع مؤسسات المجتمع المدنيّ، وفتح المجال لذلك بصورة أكبر.
لهذا بعد حين سوف يتسع الإدراك المعرفيّ لهذا، ويرقى بالعقل الجمعيّ، مع الرّقيّ بالمجتمع المدنيّ، حيث سيقدّم له خدمة تساهم في رقية في كافّة الجوانب والمجالات.
صحيفة شؤون عمانيّة، 1439هـ/ 2017م