البحوث

مفهوم الدّولة في القرآن وتكوّن المذاهب السّياسيّة الأربعة في التأريخ الإسلاميّ

لفظة دولة لم ترد في القرآن الكريم إلا مرة واحدة في قوله تعالى في سورة الحشر آية 7: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.

وقرأ جميع قراء الأمصار دولة بضم الدّال، وحكي عن أبي عبد الرّحمن الفتح فيها[1]، والدّولة الشيء المتداول يدار بينهم، تارة عند هذا وتارة عند هذا[2]، وقيل هما بمعنى واحد – أي بالضم أو بالفتح-[3]، وقيل بالضم في الملك، وبالفتح في النّصر[4]، وعلى هذا يأتي بمعنى دولة للمعنيين في اللّغة المتقدم ذكرهما آنفا، والآية تميل غالبا لمعنى التّداول ويدخل فيه ضمنا الغلبة كما يبدو، وهذا يعود إلى مفهوم اللّفظ ومدى تصديق الخارج عليه كما عند المناطقة.

وأصل الدّولة تستخدم للمعنى الماليّ خصوصا، فهي بضمّ الدّال لتداول المنفعة الماليّة، ثمّ استخدمت بفتح الدّال لرابط التداوليّة أيضا، ولكن هنا ليس في المال؛ وإنّما في الكراسيّ والملك والوزارة وخدمة المجموع.

وهذا الخلاف سنجده ظاهرا بين المتقدمين من أصحاب المعاجم وبين المتأخرين، فنجد مثلا بين مختار الصّحاح لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر الرّازيّ ت 666هـ وبين بعض المعاجم المعاصرة، حيث نجد في مختار الصّحاح: الدَّوْلَةُ في الحرب أن تدال إحدى الفئتين على الأخرى، يُقال كانت لنا عليهم الدّولة، والجمع الدِّوَلُ بكسر الدّال، والدُّولةُ بالضّم في المال يقال صار الفيء دولة بينهم يتداولونه يكون مرة لهذا، ومرة لهذا، والجمع دُلاَتٌ ودُوَلٌ، وقال أبو عبيد: الدُّولة بالضمّ اسم الشّيء الّذي يتداول به بعينه، والدَّولة بالفتح الفعل، وقال بعضهم: هما لغتان بمعنى واحد، وقال أبو عمرو بن العلاء: الدّولة بالضّم في المال، وبالفتح في الحرب، وقال عيسى بن عمر: كلتاهما تكون في المال والحرب سواء[5].

فنجد الدّولة في هذا المصدر في القرن السّابع الهجريّ وهو متقدّم نوعا ما، ومع ذلك استخدمها فقط في المعنيين الماليّ والحربيّ، ولم يستخدمها بمعنى تداول السّلطة، أو بالمعنى السّياسيّ بصورة خاصة.

لهذا سنرى معاجم اللّغة المعاصرة تدرج مصطلح الدّولة بالمعنى الحديث، فجاء في المعجم الوسيط تعريف الدّولة: الدَّوْلَةُ جمع كبير من الأفراد، يَقْطن بصِفة دائمة إقليمًا معيَّنًا، ويتمتع بالشّخصيّة المعنويّة، وبنظام حكوميّ، وبالاستقلال السّياسيّ[6]، وفي الرّائد: بلد يخضع سكانه لنظام إداريّ سياسيّ اقتصاديّ خاص[7]، وفي معجم الغني في اللّغة العربيّة: نِظامُ البِلادِ وَجِهازُها الإِدارِيُّ والسِّياسِيُّ والاقْتِصادِيُّ والاجْتِماعِيُّ[8].

ولهذا نخلص كما أنّ اللّغة كائن متطور، إلا أنّها خاضعة ومتأثرة للبعد الثّقافيّ والتّداخليّ بين الأمم والحضارات، ومن هذا مفهوم الدّولة، والّتي استخدمته الأمم الأخرى منذ فترة مبكرة، إلا أنّه دخل إلينا متأخرا، أو كان مستخدما عندنا إلا أنّ غلبه اللّغة الحجازيّة غلبت على غيرها، فالعرب كانت لهم حضارات وممالك سابقة.

وهذه الحضارات والممالك عبّر عنها القرآن حسب ما يتداول حينها، فعبّر عن الدّولة مثلا بعبارة (القرية) مثلا في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ} [النّمل/ 34]، والقرية هنا أيّ الدّولة.

واستخدم عبارة (المدينة) في قوله تعالى: {وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص/20].

واستخدم أيضا عبارة (البلد) في قوله سبحانه: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد/ 1-2].

واستخدام هذه العبارات لأسباب عديدة منها أنّ الممالك كانت بصورة عامة في الجزيرة أقرب إلى القبيلة أو اتحاد أكثر من قبيلة في جزء معين، فمثلا كانت مكة وحدها أقرب إلى كونها دولة، وكذا الحال في الطّائف ويثرب.

ولهذا خاطب القرآن العقل العربيّ حينها وفق ثقافته، فلمّا تكوّنت للعرب حضارة مرة أخرى – وكما أسلفت كانت لهم حضارات سابقة كحضارة مجان ودلمون وآشور والفينيقيين، ونحوهم – ظهر مفهوم الخلافة والأمّة، ثمّ ظهر مفهوم الدّولة.

وإذا كانت اللّغة في سياقها المعرفيّ كائن متطور، فالأولى أن تكون الدّولة أولى بذلك، فهي كائن متطور بذاته، ولا تجمد على شكل معين، وهي تجربة بشريّة بحته، وليست وحيا منزلا من السّماء.

لهذا لابدّ أن نفصل الدّولة بداية عن التّأريخ والتّفسيرات والرّوايات الدّينيّة؛ لأنّ علاقة الدّولة بداية بالقيم الإنسانيّة، والقيم الإنسانيّة جوانب مشتركة بين أهل الأرض جميعا من جهة، ومن جهة أخرى مرتبطة بذات الإنسان، فهي لا تفرق بين أحد للون أو جنس أو شكل أو دين أو ثقافة.

وهذه القيم هي الّتي ركز عليها القرآن الكريم، وما عداها من مفرزات تأريخيّة ودينيّة هي من صنع البشر.

وعلى ما تقدّم ممكن أن ننطلق من هذا الأصل لنبني عليه فروع المسألة، وأساس الخلاف حولها، فأصل الدّولة أنّها لصيقة بالنتاج الإنسانيّ، ولا يوجد إشارة في القرآن أنّ الدّولة لها طريقة إلهيّة معينة، أو كيفية سماويّة محددة، ممّا يدلّ على أنّ الدّولة علاقتها من حيث الأصل بالعقل البشريّ، وتتغير بتغير التّفكير البشريّ، وتتطور بتطور التفكير البشريّ كذلك.

وهذا لا يعني أنّ الشّرائع لم تأت بقيم كالعدل والحرية والشّورى، وهذا ما سنلحظه أثناء الحديث عن قيم القرآن في الدّولة، ولكن أصل المسألة وآلية التّطبيق ترجع إلى العقل البشريّ.

فإذا فقهنا هذا الأصل سهل علينا إدراك ما دونه من مسائل الخلاف، وتعدد السّبل في ذلك، هذا من جهة ومن جهة أخرى لابدّ من التّفريق بين أصل النّص القرآنيّ وبين التّطبيقات البشريّة، ومن المعلوم أنّ الدّولة بالمفهوم الولائيّ الأكبر، والتّنظيمات الإداريّة ظهرت بعد وفاة الرّسول – صلّى الله عليه وسلّم- خاصة في عهد الخليفة الثّانيّ عمر بن الخطاب ت 23هـ.

ولو تأملنا الطّريقة السّائدة في الحكم في الجزيرة العربيّة أبان البعثة كانت أقرب إلى التّحالفات القبليّة في مساحة معينة من الأرض، ولم تكن في غالبها كالرّوم والفرس وتنظيماتهم القبليّة.

فنحن نجد مثلا في الدّولة الرّومانيّة قانون جونستنيان في الفقه الرّومانيّ، والّذي اعتمد في القسطنطينية في 22 نوفمبر عام 533م، أي قبل بعثة النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم- بما يقارب سبعين سنة ونيفا، وذلك في عهد الامبراطور الرّومانيّ جونستنيان ت 565م، ومنها سميت باسمه.

وهذا القانون ليس وليد الصّدفة أو الاختراع؛ لأنّ العلوم الإنسانيّة لا تخترع من الصّفر، وإنّما هي تراكم تجارب سابقة، وعلى هذا الفقه الإسلاميّ أيضا لم يخترع من الصّفر، خاصة في قواعده الأصوليّة والمنطقيّة، وإنّما استفاد من تجارب الأمم الأخرى وفلسفاتهم.

فالمكيون تحالفوا حول قريش، والمدنيون حول الأوس والخزرج، فسمي الأول بالمهاجرين وإن لم يكونوا في الأصل قرشيين، وسمي الثّاني بالأنصار وإن لم يكونوا من ذات القبائل المدنيّة.

من هنا تشكل تحالف أكبر من التّحالف القبليّ، فظهر أشبه بالحزبين الكبيرين المهاجرين والأنصار، وكلاهما ينطلق من نقطة واحدة وهي حماية الدّعوة الجديدة، وحماية الرسول الأعظم – عليه الصّلاة والسّلام -، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} التّوبة/ 100.

فهي ليست في الأصل تحالفات سياسيّة بالمفهوم الحزبيّ المعاصر، بقدر ما هي مديح قرآنيّ لأمتين تشاركتا في نصرة هذا الدّين في بدايته، ولهذا أشاع النّبيّ بينهم من البداية خلق الأخوة أو ما يسمى بالتآخي بين المهاجرين والأنصار.

وعليه بشكل طبيعيّ أن تكون رمزية النّبيّ – عليه السّلام – هي الظّاهرة كنبيّ وقائد وقاضي وإمام وخطيب، وهذا لا يعني عدم وجود معارضة غير مقتنعة في داخل الجماعة الّتي أعلنت الإسلام والإيمان بهذا النّبيّ ورسالته، ممّن خاف على مصالحه السّياسيّة والماليّة، وهذه سماها القرآن بالمنافقين، وبيّن أنّ النّبيّ لا يعلمهم، والله وحده هو الّذي يعلمهم.

ولمّا توفي النّبي الأكرم عام 11هـ ظهر الخلاف السّياسيّ إلى السّطح من خلال سقيفة بني ساعدة ليتحول الحزبان النّاصران للدّعوة الجديدة إلى أقرب بالحزبين السّياسيين، فيختلف الفريقان فيمن يرأس هذه الولاءات القبليّة كخليفة عامّ للمسلمين، فتشكلّ عندنا الأنصار وأشهر رموزهم سعد بن عبادة ت 14ه.

وفي المقابل تشكل المهاجرون وأشهر رموزهم أبو بكر الصّديق ت 13ه، وعمر بن الخطاب ت 23ه.

وبين هؤلاء كانت آراء أضعف ففريق يرى الخلافة لأقرباء النّبيّ وأولى بهم العباس عمه ت 32هـ، وعلي بن أبي طالب ت 40ه، كذلك حنّ بعض الطّلقاء إلى مجدهم الأول، وهو الّذي تشكل مع الأمويين خصوصا معاوية بن أبي سفيان ت 60هـ.

هذا الخلاف من بداية الوفاة، والّذي سيستمر لفترات طويلة، وتصاغ حوله الرّوايات، وتتشكل به العقليّة السّياسيّة لمرحلة طويلة من الزّمن؛ بل إلى يومنا هذا في العقليّة الإسلاميّة في جملة مذاهبها.

هذا الخلاف يدلّ دلالة واضحة من البداية أنّ الآلية السّياسيّة لو كانت محسومة نصا لما ظهر هذا الخلاف؛ بل لضاق أصلا!!

وعليه ظهرت المعارضة السّياسّية إلى السّطح والّتي سميت بالمرتدين في عهد أبي بكر ت 13هـ، وهو في الحقيقة ارتداد سياسيّ وليس دينيّا، حيث تشكلت المعارضة خصوصا في المناطق النّائيّة من نجد وحتى حدود عمان.

كذلك اغتيل المعارض سعد بن عبادة ت 14هـ، والّذي رفض البيعة إلا للأنصار كاغتيال سياسي في فترة مبكرة، ثمّ نسب قتله إلى الجنّ، وأنّ الجنّ هي التّي قتلته؛ لأنّه بال في طعامهم.

هذا الخلاف السّياسيّ طبيعيّ؛ لكن غير الطبيعيّ أن يتحول ذاته إلى خلاف دينيّ، والأصل أننا بهذا الخلاف نفصل بين النّص والتّطبيقات الّتي ظهرت للنّص، خصوصا بعد إكمال النّص، ومن المعلوم أنّ هذه الخلافات بعد إكمال النّص، وبعد وفاة النّبيّ المبلغ لهذا النّص، لهذا تبقى في الدّائرة البشريّة الّتي لا يمكن بحال أن تكون هي النّص.

ولهذا للخروج من هذه الإشكاليّة اخترعت رواية: إياكم ومحدثات الأمور فإنّها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليكم بسنتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين المهديين عضوا عليها بالنّواجذ.

فهذه الرّواية وإن ضعفها بعض المحدثين أنفسهم، إلا أنّ البعض حصرها في الجانب السّياسيّ، وبعضهم أعمها حتى في الجانب التّشريعيّ، والحقيقة أنّ الدّين اكتمل بإكمال القرآن، وما حدث بعده ينسب إلى البشر وليس نصا تشريعيّا إلهيا.

ومن هذا الخلاف تشكلت عندنا المذاهب الأربعة: مذهب النّص، ومذهب الشّورى، ومذهب القرشيّة الشّورويّة، ومذهب القرشيّة الوراثيّة.

بينما مذهب الأنصار انطفأ من البداية، وضعف وجودهم بشكل غير طبيعيّ منذ فترة مبكرة، وقلّ حضورهم السّياسيّ شيئا فشيئا.

وفي الحلقة القادمة سنتطرق إلى هذه المذاهب الأربعة ونشير إلى بعض استدلالتهم، خصوصا فيما يتعلق بالقرآن الكريم.

مجمل المذاهب الأربعة في اختيار الخليفة في الثّقافة الإسلاميّة

خلصنا في الحلقة الأولى أنّ القرآن الكريم ترك أصل تكوين الدّول ومفهومها إلى الصّيرورة الزّمانيّة وتطور الفهم البشريّ في ذلك، لهذا لن نجد تصورا عن الدّولة بالمفهوم التّقليديّ ولا بالمفهوم المعاصر في القرآن الكريم.

والدّول الّتي واكبت نزول القرآن إمّا تحالفات قبليّة، وهي أقرب إلى المشيخة في وقتنا المعاصر، وإمّا وراثة في الحكم، وهذا هو الغالب، خاصة في الممالك العظمى كفارس والرّوم.

وكون القرآن لم يتطرق إلى هذا، نستلهم من هذا دلالتين:

الأولى: قضية الحكم مرتبطة بالمبادئ كالعدل والحرية والحفاظ على النّاس وحقوقهم، وهذا ما اهتمت به الآيات، وما عدا ذلك من الوسائل لا علاقة له والدّين بالمعنى التّشريعيّ الإلهيّ، وإنّما هو مرتبط بالتّشريع البشريّ، حيث أنّ الدولة كما أسلفنا سابقا كائن بشريّ متطور.

الثاّنية: من خلال الأولى ندرك أنّ الدّولة نص مفتوح، وليس نصا مغلقا، ولهذا لا معنى لتكفير  الدّول والأنظمة، واختزال نظام معين على أساس أنّه الممثل الوحيد للإسلام.

إلا أنّ القرآن الكريم أشار إلى الشّورى في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} الشّورى/ 38.

والآية جاءت في سياق التّمدح، بينما آية آل عمران/ 159: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} جاءت في سياق الأمر.

ومفهوم الشّورى في اللّغة من التّشاور، ومنه أشار عليه بالرّأي[9]، بينما المعاجم المعاصرة تتوسع في تفصيل الشّورى لتوسع مفهومها، ففي معجم الغنيّ الشّورى هي: جعل الأمر للتّشاور والاستماع إلى جميع الآراء من أجل الاتفاق على رأي، وكان الحكم شورى بين النّاس في صدر الإسلام، ومنه مجلس الشّورى أي مجلس التّشاور والتّداول في شؤون البلاد وقضاياها[10].

والتّطور في الفهم اللّغويّ يماثله من طرف آخر التّطور في الإسقاط التّفسيريّ، فالقرطبيّ ت 671هـ ذكر آراء عديدة لها، ومنها قوله أنّ النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – كان يشاور أصحابه في الآراء المتعلقة بمصالح الحروب[11]، وإلى هذا ذهب العديد من المفسرين.

وأشار الطّبريّ أيضا أنّ الأنصار قبل قدوم النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – إليهم إذا أرادوا أمرا تشاوروا فيه، ثمّ عملوا عليه، فمدحهم الله تعالى به، وعزا هذا الرّأي إلى النّقاش[12] [أبو بكر محمد بن الحسن بن محمد بن زياد] ت 351هـ.

وذهب بعض أهل الجرح والتّعديل إلى نكارة النّقاش، وأنّه يكذب في الحديث، والغالب عليه القصص، وأنّ كلّ حديث النقاش منكر[13]، وبغض النّظر عن منهجية أهل الحديث في الجرح والتّعديل إلا أنّ نكارة هذه الرّواية يظهر من خلال السّياق التّأريخيّ أيضا، وذلك إذا عملنا قراءة تفكيكيّة لها، حيث أنّ أهل مكة أيضا مشهورون بتشاورهم، وهذا يظهر في دار النّدوة الّتي كانت منطلقا للتّشاور عند المكيين، ومنذ فترة مبكرة جدا، وكذا الحال يظهر عند أهل عمان عندما وصلت رسالة النّبيّ – عليه الصّلاة والسّلام – إلى عبد وجيفر ابني الجلندى عن طريق عمرو بن العاص ت 43هـ، فشاور قومه في الأمر، من هنا يظهر أنّ عادة التّشاور من العادات القديمة عند العرب والمتمسك بها كالنّخوة والكرم والشّجاعة مثلا.

ويوجد رأي عن الحسن ت 110هـ أنّ الشّورى بمعنى الاتفاق في الرّأي[14] أي بمعنى النّتيجة؛ لأنّ الاتفاق نتيجة للتّشاور، والشّورى سبب له.

وهكذا يتطور المعنى حتى نجد ابن عاشور ت 1393هـ/ 1973م في التّحرير والتّنوير يقول: الشّورى ممَّا جبل الله عليه الإنسان في فطرته السّليمة، أيّ فطره على محبّة الصّلاح، وتطلّب النّجاح في المساعي، ولذلك قرن الله تعالى خلق أصل البشر بالتَّشاور في شأنه إذ قال للملائكة: {إنّي جاعل في الأرض خليفة}  البقرة / 30، إذ قد غَنِي الله عن إعانة المخلوقات في الرّأي، ولكنَّه عرض على الملائكة مراده ليكون التَّشاور سنّة في البشر، ضرورة أنّه مقترن بتكوينه، فإنّ مقارنة الشّيء للشّيء في أصل التّكوين يوجب إلفه وتعارفه، ولمَّا كانت الشّورى معنى من المعاني لا ذات لها في الوجود جعل الله إلفها للبشر بطريقة المقارنة في وقت التّكوين، ولم تزل الشّورى في أطوار التّأريخ رائجة في البشر[15].

نخلص ممّا سبق أنّ الشّورى قيمة مغلقة من حيث ثبوت النّص؛ إلا أنّها قيمة مفتوحة من حيث الإنزال، وآلية التّطبيق، وسيأتي لاحقا في حلقة مستقلة، هل الشّورى هي الدّيمقراطيّة من حيث الأصل، والدّيمقراطيّة تطور لإنزال الشّورى، أم بينهما تفاوت وتضادّ!!

ولهذا يرى أحمد الكاتب أنّ الشّورى أصل المدارس الإسلاميّة في الإمامة، بل حتى عند المدارس القائلة بالنّص، كما في كتابه تطور الفكر السّياسيّ الشّيعيّ من الشّورى الى ولاية الفقيه.

وعليه أصل المدارس السّياسيّة في الثّقافة الإسلاميّة هي الشّورى، ولما كان النّبيّ – عليه الصّلاة والسّلام – موجودا؛ كان له ثقله في جميع الجوانب دينيّة وسياسيّة واجتماعيّة، من هنا ذهابه أحدث فراغا كبيرا في سدّه، أو على الأقل كرمزية في احتواء الجميع، خاصة وقد صاروا أمّة واحدة، كما أراد هو نفسه كما يظهر من ميثاق المدينة حيث قال: هذا كتاب من محمدٍ النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم -، بأنّ المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم، إنّهم أمّة واحدة من دون النّاس.

وذلك لأنّ المدينة المنورة لن تكون هنا للأنصار فحسب؛ بل سينافس الأنصار المهاجرون، والمهاجرون ذاتهم خليط من أعراق متعددة، وأجناس مختلفة، ففيهم الحبشيّ والرّوميّ والحجازيّ واليمنيّ وغيرهم[16].

لهذا ستظهر أسماء كما رأينا في الحلقة السّابقة، تشكلت على شكل أشبه بالأحزاب فالأنصار وأشهر رموزهم سعد بن عبادة ت 14ه، والمهاجرون وأشهر رموزهم أبو بكر الصّديق ت 13ه، وعمر بن الخطاب ت 23ه، وبين هؤلاء أقرباء النّبيّ وأولى بهم العباس عمه ت 32هـ، وعلي بن أبي طالب ت 40ه، كذلك حنّ بعض الطّلقاء إلى مجدهم الأول، وهو الّذي تشكل مع الأمويين خصوصا معاوية بن أبي سفيان ت 60هـ.

وفي البداية كان الخلاف طبيعيا؛ إلا أنّه بدأ يكبر ويزداد بسبب الخلافات القبليّة، وما تبعها من حالات إقصاء بل واغتيالات محكمة سلفا، فالأنصار ذبل ظهورهم شيئا فشيا، حتى أنّه شبه انعدم ذكرا وتأريخا.

ثمّ حدث خلاف بين المهاجرين السّابقين، وبين الطّلقاء، مستغلين مقتل عثمان بن عفان ت 35هـ طرقا في أحقيتهم بالإمامة أو الخلافة.

وازداد الخلاف واتسع حجمه بسبب ظهور الرّواية الدّينيّة والسّياسيّة والتّأريخيّة، ولهذا بدأت تتشكل المذاهب الأربعة، وهي:

المذهب الأول: مذهب الشّورى، وهو الأصل الّذي كان عليه الجميع، إلا أنّه ضاق عند مذهبي القرشيّة والنّصيّة، والقرشيّة أوسع حيث ترى أنّ الشّورى باقية ويدخل فيها اختيار الحاكم فيمن توفر فيه شرط القرشيّة، بينما النّصيّة ترى أنّ الآية لا دلالة لها في الحكم والإمامة؛ لأنّ الآية في مقام بيان أهميّة و قيمة التّشاور في الأمور العامّة الّتي تتطلب ذلك، وهذا يقتضي عدم الأخذ بها؛ لأنّ في القرآن الكريم ما يفاد منه تشريع الخلافة[17] أي في قوله تعالى: {وإذ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} البقرة/ 124.

وعلى المذهب الأول بقي الإباضيّة كأصل عام يدخل فيه جميع المسلمين ممّن تتوفر فيه شروط الإمامة أو الخلافة، ولو كان عبدا حبشيا[18].

وهذا الرّأي أصبح يتبناه معظم الحركات الإسلاميّة بمذاهبها المعاصرة، بينما ذكر القرشيّة أصبح ضعيفا جدا؛ بل حتى ما تبنته مدرسة ولاية الفقيه المتطورة من المدرسة النّصيّة الاثني عشرية كما في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة إذ أصبح الحاكم يتّم اختياره عن طريق الشّورى أو العمل الدّيمقراطيّ بالمفهوم المعاصر.

المذهب الثّاني: مذهب القرشيّة، لرواية: الأئمة من قريش، وعلى هذا الأشاعرة وأهل الحديث[19] وبعض المعتزلة[20].

وهذا المذهب كما أسلفنا شبه انقرض، إلا أنّه بقي من يدعيه، أو يدرسه كمادة في الخلافة أو الإمامة، ومنهم من يرى أنّه محصور بالخلافة العامّة على جميع المسلمين، ومنهم من يرى من حيث الأولوية، فإذا وجد القرشيّ قدّم على غيره.

المذهب الثّالث: مذهب النّصيّة، وأشهرهم قسمان، قسم النّصيّة الظّاهريّة أي القائلين بالولاية لعليّ بن أبي طالب ت 40هـ بالنّص الظّاهر الجليّ، وهذا الحال في ذريته الأئمة الاثني عشر وآخرهم محمد العسكريّ المهدي المنتظر[21].

والقسم الثّانيّ المدرسة النّصيّة الخفيّة، أي القائلة بولاية عليّ بن أبي طالب ت 40هـ بالنّص الخفيّ، ويخصصونها في آل البيت، بداية من عليّ ثمّ الحسن ت 50هـ فالحسين ت 61هـ، ثمّ في بطونهما من الذّكور، ولا يخصصون أحدا بعينه[22]، ولهذا جوّزوا إمامة الشّيخين أبي بكر ت 13هـ وعمر ت 23هـ من باب جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل[23].

وأمّا الإسماعيليّة فقريب قولهم من الإماميّة إلا أنهم يتوقفون عند الإمام السّابع إسماعيل بن جعفر الصادق ت 145هـ، وما بعدهم يسمونهم بالأئمة المستورين.

الحاصل أيضا هذا المذهب اضطر إلى الرجوع حاليا إلى نظرية الشّورى وتفعيلها!!

المذهب الرّابع: مذهب الوراثة، وهذا وإن كان مذهبا قديما، وكانت الوراثة موجودة في القبائل المشيخيّة عند العرب، وفي فارس والرّوم، إلا أنّ الشّورى كان ظاهرا من وفاة النّبي – عليه الصّلاة والسّلام – على خلاف في التّطبيق حتى الخليفة الرّابع علي بن أبي طالب ت 40هـ.

ولما أخذ معاوية بن أبي سفيان ت 60هـ الحكم بالغلبة، ورّثه لابنه يزيد ت 64هـ، واختلف في تغلّب معاوية وتوريثه فذهب أهل الحديث وأكثر الأشاعرة في إمامته[24]، ورفض باقي المذاهب هذا الفعل[25].

إلا أنّ القول بالوراثة صار الأكثر عملا في التّأريخ، حتى عند من قال بأصل الشّورى، كما سنرى في الحلقة القادمة.


[1]  الطبري. جامع البيان في تأويل القرآن. ج23ص279.

[2]  أطفيش: محمد بن يوسف، تيسير التفسير للقرآن الكريم، ط وزارة التراث القومي والثقافة/ سلطنة عمان، الطبعة الثانية 1415هـ/ 1994م، 13/ 237.

[3]  المصدر نفسه؛ 13/ 237.

[4]  المصدر نفسه؛ 13/ 237 (بتصرف).

[5]  مختار الصّحاح للرّازي، مادة (دول)، نسخة الكترونيّة.

[6]  المعجم الوسيط: مادة دول.

[7]  معجم الرائد: مادة دول.

[8]  معجم الغني: مادة دول.

[9] ينظر: مختار الصّحاح، مادّة: شور.

[10] ينظر: معجم الغنيّ: مادّة شور.

[11] ينظر: تفسير الطّبريّ، تفسير سورة الشّورى آية 38، نسخة الكترونية.

[12] ينظر: المصدر نفسه، تفسير سورة الشّورى آية 38، نسخة الكترونية.

[13] الذّهبيّ: محمد بن أحمد بن عثمان، سير أعلام النّبلاء، ط مؤسسة الرّسالة، طبعة: 1422هـ / 2001م، 15/ 574.

[14] ينظر: تفسير الطّبريّ، تفسير سورة الشّورى آية 38، نسخة الكترونية.

[15] ينظر: التّحرير والتّنوير، تفسير سورة الشّورى آية 38، نسخة الكترونية.

[16] العبريّ، بدر بن سالم بن حمدان، فقه التّطرف، مخطوط.

[17] مقال بحثيّ بعنوان: الإمامة (عند المذاهب الإسلاميّة)، نشر موقع: مركز الشّعاع الإسلاميّ للدّراسات والبحوث الإسلاميّة تحت إشراف صالح الكرباسيّ، تاريخ الزّيارة: السّبت، 15 يوليو 2017م السّاعة الواحدة ظهرا، https://www.islam4u.com.

[18] ينظر: البارونيّ: أبو الرّبيع سليمان، مختصر تاريخ الإباضيّة، الطّبعة الرّابعة، مكتبة الضّامريّ/ مسقط، لا تاريخ، ص 17 – 19.

[19] بدويّ: عبد الرّحمن، مذاهب الإسلاميين، الطّبعة الثّانية، دار العلم للملايين، بيروت/ لبنان، شباط/ فبراير 2005، ص 631.

[20] ينظر: المصدر نفسه، ص 326 – 327.

[21] الشّيرازيّ: محمد الموسويّ، ليالي بيشاور، حققه حسين الموسويّ، الطّبعة الأولى، مكتبة شريعة، قم/ إيران، 1421هـ، ص 75 – 78.

[22] الهارونيّ: أحمد بن الحسين، التّبصرة في التّوحيد والعدل، تحقيق عبد الكريم أحمد جدبان، الطّبعة الأولى، مكتبة التّراث الإسلاميّ، صنعاء/ اليمن، 1423هـ/ 2002، ص 73-90.

[23] الزّيديّ: الكاظم، لقاء مع الكاظم الزّيديّ، منشور في صفحة بدر العبريّ العبريّ على الفيسبوك، مخطوط.

[24] الهيثميّ: أحمد بن حجر، تطهير اللّسان والجنان عن الخطور والتّفوه بثلب سيدنا معاوية بن أبي سفيان، الكتاب ملحق بكتاب الصّواعق المحرقة على أهل البدع والزّندقة للمؤلف نفسه، لا طبعة، مكتبة القاهرة، لا تاريخ، ص 43.

[25] ينظر مثلا: البارونيّ: أبو الرّبيع سليمان، مختصر تاريخ الإباضيّة، مصدر سابق، ص 20.

السابق
الوحدة من خلال شعائر الحج
التالي
مذهب مدرسة الشّورى
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً