يوم النحر فقها وأثرا ومقاصدا
يوم النّحر مذكر بيوم الفداء، يوم إرادة إبراهيم بأمر من الله لذبح ابنه إسماعيل على المشهور، فاستجاب الله تعالى له، وفداه بذبح عظيم، وهذا اليوم يفدي فيه الحجاج بالهدي والقربان، ويشارك فيه المسلمون حجاج بيت الله تعالى هذه السنة العملية الاجتماعية، وعليه قام الشرع بتوظيفها فيما يجمع بين السنة العملية والأبعاد الاجتماعية كما سنراه في الحلقة القادمة بعون الله تعالى.
وهذا اليوم في مجمله يحتوي على مقصدين عظيمين:
الأول: فيه تربيته للنفس حيث تجمع بين الواجبات والطيبات، والواجبات تذكير بالله ليستغل العباد الطيبات في شكره سبحانه، ويتقوون بها على طاعته، فالحياة الدنيا كلها طيبات، ولابد من جعلها في طاعة الله سبحانه وتعالى، لذا يبدأ الناس يومهم بالصلاة وتكبير الله تعالى، ثم يجمعون ذلك مع طيبات الحياة، وهكذا يريدنا الله تعالى أنّ نجعل حياتنا كلها كيوم النحر المبارك، قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}.
الثانية: الفرح الجميل، واللهو الخالي من المحرمات، والكلام الطيب البعيد عن الزور، وكلّ طيب مباح، يجمعه الناس في يوم الفرح والبهجة، فشعائر الله لا رهبانية ولا عبوس فيها، بل هي مهذبة ومنمية ومربية للإنسان، ليتعامل مع الطيبات وفق فطرة الله سبحانه وتعالى.
ولهذا جاء في الآثار استحباب واستحسان بعض الأمور منها:
1- مواصلة التكبير لفظا في يوم العيد والجهر به عقب الصلوات في يوم النحر وحتى آخر أيام التشريق، واستأنسوا بقوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}ن وهو استحسان وعادة عملية متوارثة في إظهار عظمة الله، ومشاركة الحجاج في ذلك، وإن كان أصل التكبير هو التعظيم الفعلي لا القولي، إلا أنّ هذه العادات نوع من التذكير بهذه الشعيرة المباركة.
2- استحباب الغسل والتطيب ولبس أجمل الثياب، ولا داعي للإسراف وكلفة النفس فيما لا تطيق، فهذا ليس من شرع الله، {يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.
3- مشاركة المجتمع في صلاتهم وعيدهم وذلك تجديد لأواصر المحبة والمودة، وإعلانا لمبدأ الترابط والأخوة.
الأضحية والقربان فقها وأثرا ومقاصدا
كما رأينا أمر الله للحاج بالهدي بعد التحلل، وقد جرت السنة العملية لغير الحجاج أيضا يتقربون بالأضاحي إعانة للفقير، وإظهارا لنعمة الطعام، وبداية ظهورها، وهل هي موجودة من قبل البعثة أم لا، وهل كانت على هذه الصورة، هذا بحاجة إلى بحث وتقصي لعلّ الزمن يتيح لنا ذلك.
وعموما استشهد بعض العلماء على الأضحية بقوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}، والآية في مجملها تؤكد عنصر التوحيد لله سبحانه وتعالى، في شعيرتين عظيمتين هما الصلاة والذبح وليس المراد بها الأضاحي، وعليه ركزّ إبراهيم الخليل في دعائه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}.
وعلى المضحي قبل أن يضحي أن يراعي الأدبيات القرآنية التالية:
أولا: أنّ الأضحية والقربان لا يصل إلى الله تعالى، وإنما يصل إليه قصدُك وتقواك وإخلاصك له سبحانه وتعالى، {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}، فلا بد من جعل الأضحية خالصة لوجهه سبحانه.
ثانيا: لم يشرع الله تعالى الذبح للتباهي في الأضاحي والقربان، أو الإسراف بها، وإنما شرعها لذكره سبحانه، وإطعام الجائع الفقير، قال سبحانه: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}.
ثالثا: نعمة الأنعام، من إبل وبقر وغنم وضأن، سخّرها الله تعالى لك لتتنعم بها أكلا وشربا، وسيرا وجمالا، فاشكر الله على هذه النعمة، واجعلها في طاعته، واطعم بها المحتاج، ولا تسرف بها بأي حال، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}.
رابعا: في يوم النحر تأكل وتشرب بكل هناء وطيب نفس، وانظر إلى أمم حولك لا يجدون قوتَ يومهم، يعتاشون على فتات العيش، ونحن نتنعم بالخيرات، ونتمتع بالطيبات، فهلا جعلنا للآخرين نصيبا من النعيم، ولننظر إلى إخواننا وجيراننا كما تنظر إلى أنفسنا، قال تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
والعلماء من خلال المرويات والآثار استخلصوا أدبيات للأضحية منها:
أولا: أن يضحي المرء بأفضل ما يجد، فاستحسنوا أن لا تكون عوراء أو عرجاء أو شبهها، وهذا للترغيب، ليتقرب الإنسان إلى الله بأفضل ماعنده، وإلا فالأصل التقرب بما يقدر عليه.
ثانيا: ومن هذا استحسنوا أن تصل إلى أفضل عمرها كالضأن أن تكون بلغت ستة أشهر، والمعز سنة، والبقر عامين، والإبل خمسة أعوام، وهذا للتحبيذ، ويعود جملة إلى الأعراف، وما يراه أهل البلد أفضل أضحيتهم، وإلى الاستطاعة، لأنّ الأضحية في أساسها سنة، فهي خارجة عن دائرة الإلزام.
ثالثا: أن يقسمها أثلاثا، ثلث للأكل، وثلث للادخار، وثلث للهدية والصدقة.
وعموما الأضحية سنة، الغرض منها تحقيق التكافل الاجتماعي، فلا معني أن يكلف الإنسان نفسه، أو يقترض من أجل أضحية، والأصل أنّ القادر يضحي، ويعطي غير القادر، وهذا الذي أراده الله تعالى من مشروعية الأضاحي، مع قصد القربان والاستجابة وتوحيده سبحانه وتعالى، ولم يرد أن يشق على العباد، أو يعصوه بالإسراف والمباهاة، والترف والمخيلة.
أيام التشريق فقها وأثرا ومقاصدا
أيام التشريق أكل وشرب وذكر لله عزوجل، أشار إليها بقوله تعالى على قول الجمهور: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}.
وهذه الأيام المباركة تحوي من المقاصد القرآنية الرفيعة منها:
أولا: يجمع الناس في هذه الأيام بين غذاء الروح وغذاء البدن، وهكذا شريعة الله شاملة متكاملة، لا رهبانية فيها، ولا تفريط في حدود الله تعالى، قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}.
ثانيا: ما يفعله الناس في هذه الآيام لا يصل إلى الله تعالى، وإنما يصل إليه التقوى والإخلاص والمراقبة له، يقول سبحانه: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}.
والعلماء أيضا استخلصوا من خلال المرويات والآثار أدبيات منها:
أولا: كراهة الصيام فيها، إشعارا بنعمة الأكل، ليتربى الإنسان محاملا معه ثلاث صفات: الشكر وعدم الرهبانية، والادخار وعدم الإسراف، والصدقة وإعانة المحتاج، قال تعالى: {يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.
ثانيا: التكبير لله، والجهر به إدبار الصلوات، ويبدأ بعد صلاة الظهر من يوم العيد، وينتهي بصلاة العصر من ثالث أيام التشريق، أي رابع أيام العيد، وفيه إظهار لعظمة الله تعالى وجلالته، وتوكيد على توحيده وتنزيهه سبحانه، وهذا أشرنا إليه في الجزء الثاني المتقدم.
عموما بعد هذه الدورة التوحيدية والإيمانية مع هذه الأيام المباركة، حري أن نجمع في حياتنا وحتى نلقى الله تعالى بين الحسنيين الدنيوي والأخروي، فلنجعل حياتنا كلها مزرعة للدار الآخرة، فنقدُم إلى الله بأي حسنة دنيوية كانت من نظام ونظافة وعلم وإحسان ومعروف وأمانة وغيرها، وبأي حسنة أخروية من ذكر ودعاء وتبتل وقراءة قرآن وغيرها، قال تعالى: { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.
جريدة عمان 1434هـ/ 2013م