المعارف الإنسانيّة اليوم تتطور بمعدل كبير جدا ليس على مستوى العام فحسب؛ بل على مستوى اليوم، وذلك لأسباب كثيرة جدا، وعلى رأسها التّطور التّكنلوجيّ الهائل الّذي جعل من المعرفة متاحة في أيّ وقت ومكان، بجانب توفرها للجميع وبأبسط ثمن، وأقصر زمن.
وبلا شك هذا سيؤثر بدوره على ماهيّة العلوم الشّرعيّة، وعليه ستكون هذه العلوم أمام أمرين: أمام التّجديد والإصلاح، أو أمام الجمود والتّقليد دون تجديد.
ماهيّة العلوم الشّرعيّة:
وقبل التّطرق إلى هذين الاتجاهين لابدّ من تحديد بداية ماهيّة العلوم الشّرعيّة، فنحن هنا أمام لفظتين: علم وشرع، أمّا العلم فالمراد به إدارك ماهيّة الشّيء، وإطلاقه في القرآن المراد به القطع كلفظة الرّؤية، أمّا المراد به هنا الوسيلة الموصلة إلى الغاية، ويعرّف بعضهم العلم: إدراك الشّيء على ما هو عليه إدراكا جازما.
أمّا الشّرع ففي القرآن المراد به المنهج، ومنه قوله تعالى: ثّم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون، والشّرع هنا المراد به المفاهيم والأدلة والقواعد الشّرعيّة المتعلقة بالجانب الإسلاميّ.
من هنا يعرّف بعضهم العلوم الشّرعيّة بقولهم العلوم التي تفرعت عن الكتاب والسّنة والإجماع، ويدخل فيها العقيدة والفقه، والقرآن وعلومه، والحديث وعلومه، والّلغة العربية وفروعها، والتّأريخ الإسلاميّ وجوانبه.
وعليه العلوم الشّرعيّة لها بعدان، البعد الأول البعد التّأريخيّ، فهي تعود جملة من حيث الأدلة الشّرعيّة إلى عهد إكمال القرآن الكريم، أما علوم الأدب واللّغة والتّأريخ والجغرافيا والفلك المتعلق بهما فقبل ذلك بكثير.
والبعد الثّاني بُعْدُ الأداة وتطورها، ويدخل في هذا التّقعيد، فهذا تطور لاحقا لأسباب عدة منها الكتابة والتّرجمة ونشاط التّأليف، وتشجيع الخلفاء والأمراء بذلك، وقيام مدن علميّة كبغداد والأندلس مثلا.
وعليه في القرون الأولى حدث ازدهار كبير، فكانت هناك مدارس لغويّة وفقهيّة وأدبيّة وتأريخيّة أثّرت في تطور الأداة والعلم ذاته.
وبعد سقوط بغداد عام 656هـ / 1258م حدث في الجملة تراجع كبير في المعارف الإسلاميّة، فظهرت الشّروح والحواشيّ بدل التّأليف والانتاج، والمناظيم بدل التّفكير والنّقد والإبداع، فساد هذا الجو غالبا إلا في فترات استثنائيّة حتى جاءت الدّراسات الاستشراقيّة وخاصة في القرنين التّاسع عشر والعشرين، وأعقب هذا ظهور مدارس إصلاحيّة بداية من رفاعة رافع الطّهطاويّ ت 1873م، إلا أنّ النّهضة الحقيقيّة قادها الإمام محمد عبده ت 1905م، وعمّت حركته المدارس الإسلاميّة.
وعليه العلوم الشّرعيّة مرت أمام تطور الحركة العلميّة الغربيّة بثلاث اتجاهات رئيسة:
الاتجاه الأول: يرى أنّ العلوم الشّرعيّة أو الدّينيّة عموما عالة على الواقع الإنسانيّ اليوم، فهو ينادي برفضه كليّا، ووضعه في متاحف التّأريخ.
الاتجاه الثّانيّ: فريق يضاد الاتجاه الأول، فهو يرى الجمود على ما وصل إليه الأوائل، واعتبر إعادة صياغة العلوم الشّرعيّة أقرب إلى الضّلال والرّدة، فضلا عن نقدها.
الاتجاه الثّالث: فريق يقف موقفا وسطا بين الفريقين، فهو لا يلغي العلوم الشّرعيّة، وفي الوقت نفسه لا يجمد عليها، فهو يطالب بنقدها وإصلاحها، والتّمييز بين المقدس وغير المقدس، مع التّعامل بين الدّليل القطعيّ وسعة الرأي، ومراعاة الآلة وتطور العصر.
والاتجاه الثّالث وإن بدأ متواضعا، إلا أنّه بدأ ينتشر بقوة، وأصبح له أكثر حضورا وشعبيّة، بدل الاتجاهين الأولين.
أهم التحديات المعاصرة:
يمر المجتمع الإسلاميّ بتحديّات عدة في جوانب كثيرة، ومنها بلا شك في معارفه وآلة علومه، والذي يهمنا هنا العلوم الإسلاميّة أو الشّرعيّة، وسنتناول هنا باختصار أهم التّحديات.
أكبر التّحديات تتمثل في عدم وجود مراكز نقديّة، ومراجعات بحثيّة، وغالب المعاهد الدّينيّة لا زالت رهينة التّقليد والتّلقين، من هنا ظهرت أصوات في غير أحضان هذه المؤسسات، ولا زالت في مجملها أصواتا فردية تفقد العمل المؤسسيّ النّاقد.
وعليه سيجد الدّارس الفرق بين المؤسسات الغربيّة القائمة على البحث النّقديّ، والمؤسسات الشّرقيّة القائمة على الجانب التّلقينيّ، وهذا التّحدي يؤدي إلى وجود أبحاث قد تميل كل الميل عن التّصور القرآنيّ الشّرعيّ، إمّا ذات الشّمال، أو يبقى في الشّرق ذات اليمين.
ومن التّحديات جمود الآلة، وعدم تجددها بتجدد الواقع، وذلك لأنّ الآلة وجدت عقلا نتيجة التّأثر بما وصل إليه العالم الإسلاميّ حينها من معارف يونانيّة وفارسيّة ونحوها، فظهرت التّراجم العرفانيّة والفلسفيّة والمنطقيّة والموسيقيّة، مما أوجد مادة خصبة في تقعيد علوم اللّغة والأصول والعروض ونحوها، ولكن هذه العلوم جمدت لاحقا لفقدانها الحاسة النّاقدة والمفكرة الّتي وجدت في تلك القرون، ولعودتها يحتاج إلى فتح أكبر قدر من الحريّات في دراستها ونقدها وفهمها.
ومن أكبر التّحديات قراءة النّص الاستنتاجيّ البشريّ طيلة القرون الماضيّة بعيدا عن البعد المكانيّ والزّمانيّ، مما تصور بعضهم أنّ هذه التّجربة البشريّة في حدّ ذاتها نصوصا تزاحم بل مقدمة على النّص القرآنيّ، والّذي جعله الله تعالى مصدّقا ومهيمنا وفرقانا على ما عداه، مما أحدث فرقا تتصارع على قراءة بشريّة مضت، ويتعصبون لها، فضلا عن الإضافة والزّيادة، ونمت بهذا جماعات متطرفة تكفّر من عداها.
كذلك ظهرت جماعات تتعصب للروايات التّاريخيّة المتعلقة بعد وفاة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وما حدث من صراع سياسيّ، تحول في ذاته إلى علوم كلاميّة وعقديّة، ثمّ تحولت لاحقا هذه العلوم إلى جانب مقدس، من هنا نما الصّراع في الماضيّ، مما تصور فئة من النّاس أنّ هذا الدّين غير صالح للواقع، فظهر أفراد أصابهم الشّك في قدرة هذا العلم الشّرعيّ في ملائمة الواقع، والعيش في الحاضر، والاهتمام بالمستقبل.
ومن التّحديات حصر علوم الشّرع في قضايا شكليّة، والصّراع حولها، وترك الاهتمام بمعارف مهمة، وعدم التّركيز على المنطلقات الكبرى، فقل الحديث عن العلم والقسط والعدل والأمانة والتّعارف ونحوها، بينما كثر التّركيز في جوانب شكليّة، فتحولت هذه الكليات إلى خلقيات هامشيّة، مع أنّ الأصل تكون قواعد كليّة ركز عليها القرآن الكريم.
كذلك من التّحديات الانفتاح على العالم بوسائله ومعارفه، وهذا يسقط تلقائيّا على العلوم الشّرعيّة، ليس في وسائل التّعليم فحسب؛ بل حتى في داخل المعرفة ذاتها، كما أنّه سهّل الوصول إلى المعرفة، وقراءة ما يوجد في كتب التّراث من آثار ومرويات واستنتاجات، بعضها يشكل جانبا سلبيّا، من هنا يشعر الجيل الجديد بالازدواجيّة، ولذلك أكبر تحدي هنا هو في أهميّة وجود آلات جديدة تفرز هذا التّراث، وتعرضها على منطلقات القرآن والقيم العليا، حتى لا يحدث ردة فعل سلبيّة، وهناك بلا شك نماذج كثيرة حتى لا يكون كلامنا تنظيريا، كالمرويات المسيئة إلى الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، وتجعله أقرب إلى الجانب الدّموي والشّهوانيّ، كمرويات سحره ومحاولة انتحاره وقتله بالظّن والرّيبة وغيرها.
بجانب التّراث المليء بالتّعصب المذهبيّ، والّذي يحوي من التّطرف وإباحة القتل والسّب واللّعن والهجر، وهذا لا يعني نسيان الجوانب المضيئة في التّراث وهي كثيرة جدا، ولكن حتى لا نفقد هذه الجوانب المضيئة علينا بذاتنا نقد معارفنا قبل أن يقوم بذلك غيرنا!
ويدخل في هذا التّحدي العولمة أو إن صح التّعبير العولمة الفقهيّة، ففي السّابق كان كلّ قطر يتبع مذهبا أو مدرسة معينة، ولهم فقهاؤهم وعلماؤهم، أما الآن فأصبح العالم يعيش في قرية واحدة، وتشعبت فيها المعارف والآلات المذهبيّة، إمّا عن طريق الفضائيّات أو الجامعات أو الشّبكة العالميّة، وهذا بلا شك سيؤثر على العلوم وتوسعها وكثرة الجدل حولها، مما نحتاج إلى روابط ومؤسسات دائمة بين المدارس الإسلاميّة، وليس مجرد مؤتمرات آنيّة!
كذلك كثرة الهجرة إلى الخارج، إمّا لطلب الرّزق أو الدّراسة أو العيش هناك ولّد جماعات تعيش وفق منظومة قانونيّة أخرى، وحياة لها طقوسها وأبعادها الّتي قد تكون أحيانا لا تتوافق والأدبيّات الإسلاميّة، من هنا ظهر ما يسمى بفقه الغربة أو المغتربين، وهذا بلا شك سيحدث تحديا ليس في الآلة فحسب بل في فهم النّص ذاته، ومدى صيرورته وقدرته على الاستمرار، ولكي يتكيف هؤلاء المغتربون مع واقعهم، وفي الوقت نفسه يعتزون بدينهم وقيمهم.
وآخر تحدي يمكن أن نشير إليه هنا، مع وجود تحديات أخرى كثيرة لا يتسع لها المقام هو وجود اتجاهات أخرى أصبحت تنافس المؤسسات الدّينيّة، في جوانب الاجتماع والسّياسة والاقتصاد والقانون كالاتجاهات الحداثيّة مثلا، ممّا يلزم على المؤسسات الشّرعيّة والدّينيّة الانفتاح على الاخر ومداخلته، مع الانطلاق من القيم الشّرعيّة والقرآنيّة.
ما تحدثنا عنه يصل بنا إلى ضرورة وجود مؤسسات ناقدة وفاعلة في المعارف الإسلامية، لتعيش حاضرها، وتنقد ذاتها، وتوجه السّفينة لمستقبل أكثر أمانا والتزاما.
مجلّة المجلة الثقافية 1436هـ/ 2016م