المقالات النقدية

المنطلقات الثّقافيّة في القضيّة الفلسطينيّة

أصل الكلمة مقدّمة للجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء في اجتماع اتّحاد كتّاب العرب في فندق راديسون بلو بمنطقة الخوير بمحافظة مسقطـ، الأربعاء 8 شوال 1445هـ/ 17 أبريل 2024م

الافتتاحيّة:

الثّقافة خيط مشترك في المجتمع الإنسانيّ، فهي الخيط المرتبط بذات الإنسان كعقل مفكر، وجسد متأثر بما حوله في الطّبيعة والكون والمجتمع، وبما ورثه من حضارة وفكر وتراث، وبما وصل إليه من معرفة واختراع وإنتاج، وكما يرى إدوارد تايلور ت 1917م أنّ الثّقافة هي: “الكلّ المركب الّذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفنّ والأخلاق والقانون والأعراف والقدرات والعادات الأخرى الّتي يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً في المجتمع”، وكما يرى أيضا سعد محمّد رحيم أنّ “المثقف الّذي يدخل منطقة السّياسيّ عليه ألاّ ينس كونه حامل هم ومشروع ثقافيين، وليس طالب مصلحة وسلطة، والسّياسي يعمل وينتج خطابه من دون اعتبار كبيير للأخلاق، بينما المثقف يضع الأخلاق ﻓﻲ صلب خطابه، أو هكذا يفترض به”، لهذا القضيّة الفلسطينيّة حاضرة في البعد الثّقافي من منطلقات أربعة في نظري:

المنطلق الأول: الثّقافة وأنسنة القضيّة الفلسطينيّة

أصل المقدّس يتمثل في الإنسان وليس الحجر، فالحجر مقدّس إضافي لاعتبارات خارجيّة، كان المقدّس أرضا أم دور عبادة أم جبلا أم حائطا، أمّا الإنسان فقدسيّته ذاتيّة، أيّا كان دينه ومذهبه وتوجهه الفكري والسّياسي، ووضعه الاجتماعيّ والعشائريّ، وفي فلسطين قبل أن نتحدّث عن مقدّسات الأديان الماديّة فنحن نتحدّث عن الإنسان الفلسطينيّ، والّذي تكالب عليه الظّلم المعنويّ والمادي، فهذا الإنسان كان مسلما أم مسيحيّا أم يهوديّا أم سامريّا أم غيرهم وقع عليه الظّلم ولا يزال يقع، حيث اغتصبت أرضه، وأخرج بغير حق، فضلا عن المجازر والدّماء والتّشريد في الأرض.

فليست القضيّة قضيّة المسجد الأقصى وكنيستي المهد والقيامة، وحائط المبكى، وجبلي جرزيم وصهيون أكبر من قضيّة هذا الإنسان، والّذي ينبغي للثّقافة أن تقف معه كإنسان وقع عليه ظلم من قوى كان هدفها التّخلص من فئة دينيّة، فتضرر بذلك اليهود أنفسهم، كما وقع الظّلم على باقي الأديان والتّوجهات الأخرى، والغالبيّة من المسلمين لكون الكثرة لهم هناك، ولو كانت الكثرة للمسيحيين أو السّامريين لكان ظلما لا يجوز الوقوف معه، وقد كان الجميع قبل النّكبة يعيش بحريّة، ويمارس طقوسه وعباداته، فلم تمارس العنصريّة ضدّ أحد بحال.

وجميل ما رأيناه مؤخرا من مئات المظاهرات في العالم، والدّاعمة للقضيّة الفلسطينيّة، ليس على المستوى العربيّ والإسلاميّ فحسب، بل أصبحت هذه المظاهرات إنسانيّة، واقفة عند الإنسان  الفلسطينيّ والغزاويّ، وفي بلدان داعمة للاحتلال، ومجرّمة لكلّ ما هو ضدّ السّاميّة، حيث هناك آلاف المتظاهرين شرقا وغربا ليسوا من المسلمين فقط، وليسوا من المهاجرين العرب فحسب؛ بل شاركهم من غير المسلمين من الأديان الأخرى، حتّى من اليهود الرّافضين ما تقوم به الصّهيونيّة من إبادة في غزّة، وظلم في فلسطين، ومن المسيحيين البروتستانت الرّافضين للظّلم والإبادة والوحشيّة غير الإنسانيّة بحقّ الفلسطينيّ والغزّاويّ، ومن غير العرب من أحرار العالم، ومن منظمات حقوقيّة وإنسانيّة عالميّة، فهذا خيط رفيع للثّقافة لتستوعب محيطا وعالما أكبر من هويّتها الضّيقة.

المنطلق الثّاني: الثّقافة والخطاب الأيدلوجي الدّينيّ

لما جاء تيودور هرتزل [ت 1904م] في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر الميلاديّ، وألف كتابه “الدّولة اليهوديّة”، كانت فكرته علمانيّة وليست دينيّة، حيث يضع هذا السّؤال في كتابه: “هل سننتهي إلى حكومة ثيوقراطيّة؟”، فيجيب: “لا بالتّأكيد، إنّ العقيدة تجمعنا، والمعرفة تمنحنا الحريّة، ولذلك سنمنع أيّ اتّجاهات ثيوقراطيّة تتصدر قيادتنا من جانب الكهنوت، سوف نحصر كهنتنا داخل حدود المعابد”.

وحتّى عهد هرتزل كانت المسألة اليهوديّة مسألة علمانيّة، غير متقبلة حتّى في الوسط الدّينيّ بشكل كبير، وفكرة قيام الدّولة في فلسطين لم يكن اختيارا كبيرا، فكان يماثله أو يزيد عنه اختيار الأرجنتين، لكونها كما يرى هرتزل “أكثر بلاد العالم خصوبة، وهي تمتد على مساحات شاسعة، وفيها عدد قليل من السّكان، ومناخها معتدل، وجمهوريّة الأرجنتين سوف تحصل على مكاسب كبيرة إذا تنازلت لنا عن قطعة من أراضيها”.

إلا أنّ الارتباط التّأريخيّ لليهود بفلسطين في العقل اليهوديّ الجمعيّ كما يراه هرتزل قد يقنع شريحة أكبر من اليهود، كما يمكن استثمار الخطاب الدّينيّ بما يحقق فكرة الدّولة، بيد أنّ الفكرة من الأساس فكرة علمانيّة لجمع الجنس الإسرائيليّ في مكان واحد، وليخلّصهم من الاضطهاد الغربيّ، وأن يغلب على قيامها السّلم والتّعايش مع الآخر، حيث كان وضع اليهود حينها في أروبا كما يرى هرتزل أنّ “مساواتهم [أصبحت] أمام القانون الّتي منحها لهم التّشريع حبرا على ورق، فهم محرومون من شغل الوظائف ذات الأهميّة النّسبيّة سواء في الجيش أو في مجال عام أو خاص، بل إنّ المحاولات قائمة لإبعادهم عن شتّى المهن أيضا “لا تشتري من اليهود””.

فهل نجح هرتزل في إبعاد الدّين عن القضيّة، أم أنّ قضيّته استغلت من قبل الاستعمار الغربيّ تحت لباس الدّين ذاته، لتتحول إسرائيل من دولة علمانيّة إلى دولة أصوليّة دينيّة متحكمة في السّياسة الإسرائيليّة، فيرى إسرائيل شاحاك ونورتون ميزفينسي أنّ “الأصوليّة اليهوديّة ليست قادرة على التّأثير فقط في السّياسات الإسرائيليّة التّقليديّة؛ ولكنها قادرة أيضا على التّأثير على السّياسات الإسرائيليّة النّوويّة، ونفس العواقب الأصوليّة الّتي يخشاها الكثير من الأشخاص في بلدان أخرى يمكن أن تحدث في إسرائيل”.

ومع كون الثّقافة العلمويّة شائعة بكثرة في إسرائيل، إلا أنّ الأصوليّة اليهوديّة المتعصبة أصبحت هي المتحكمة حتّى في القرار السّياسيّ اليمينيّ المتطرف، ومن خلال اللّباس اليهوديّ ذاته، ممّا جر المجتمع إلى مزيد من العنف والقتل واضطهاد الآخر؛ لأنّ الخطاب اللّاهوتيّ المغلق أصبح مؤثرا في السّياسة الإسرائيليّة.

لهذا الواقع الإسرائيليّ اليوم من الدّاخل أصبح متأزما من حيث النّظرة الأصوليّة اللّاهوتيّة المغلقة، كما يستخدم اليوم أيضا الخطاب الأيدلوجيّ المسيحيّ، وإذا كان للمسيحيين رؤية أيدلوجيّة سلبيّة اتّجاه اليهود، بدعوى مقتل المسيح، ثمّ تغيّر الحال، حيث منهم من يرى أنّ التّعجيل بقيام الدّولة اليهوديّة هو تمهيد لمجيء المسيح، وتمهيد أيضا لتّحقق نبوءات الكتاب المقدّس، والّتي أخذها منهم السّبتيون ثمّ شهود يهوه، “فيرون أنّ قيام دولة لليهود تحقيق لنبوءات البشارة بالحكومة الأرضيّة، وهي أرض الفردوس، حيث سيبدل الله بعد فترة وجيزة كلّ الحكومات البشريّة بحكومته هو، وسينعم رعايا هذه الحكومة بالسّلام”، كما أنّ هناك أيضا من القراءات الإسلاميّة من تحاول تبرير ذلك بنصوص التّفضيل وربط الأرض المقدّسة باليهود في بعض آيات القرآن الكريم.

لهذا تأتي الثّقافة في مواجهة تديين توجهات القضيّة، وإلّا أنّ فكرة المخلص، وربطه بالدّم والصّراع، وإثارة الحروب والفساد لتعجيل ظهوره، كما ربط ظهوره بالمسيح وأرض فلسطين، أو بالمقدّسات؛ هي فكرة حاضرة في العقل الأخباريّ عند العديد من الأديان، وخصوصا الإبراهيميّة، ومع أهميّة نقد هذا التّوجه، لما يحمله من رسائل سلبيّة لها تأثيرها في المجتمعات الإنسانيّة، ويعوق الرّغبة في تحقّق السّلم في العالم، وحماية الإنسان وحقوقه الذّاتيّة، وعلى رأسها حقّ الحياة، إلّا أنّ استغلال بعض الأدبيّات الدّينيّة السّلبيّة من جهة، وقراءة الأدبيّات الدّينيّة الظّرفيّة قراءة مطلقة، سيقود العالم إلى مزيد من العنف والدّماء والصّراع.

المنطلق الثّالث: الثّقافة والرّهان السّياسيّ

ما نراه الآن في قضيّة غزّة من بعض السّياسات الغربيّة المنحازة لهذا الاحتلال، لكن ليس من صالح القضيّة الفلسطينيّة خصوصا، وليس من صالحنا عموما هذا الاستعداء المطلق للغرب، وربط هذا الانحياز السّلبيّ بالحضارة الغربيّة، وإلغائها بالكليّة، وكأنّ الحضارة الغربيّة محصورة في هذه الزّاويّة السّياسيّة النّفعيّة السّلبيّة فحسب، مع خطابات شعبويّة غايتها التّعميم والتّهييج السّلبيّ، وهي ذاتها تستخدم وسائل وأدوات النّتاج الغربيّ ذاته، لتعبّر عن رأيها وتهييجها.

وقد يكون هناك شيء من التّمايز في بعض جوانب وفروع القضيّة بين الرّأي السّياسيّ ورأي الجماهير بشكل عام، بيد أنّ الرّأيين يتفقان على جوهر واحد، وينطلقان من رؤية مشتركة واحدة، وهي مظلوميّة الشّعب الفلسطينيّ، وضرورة تحقيق كرامته الإنسانيّة، ورفع الظّلم عنه، وإقامة دولته المشروعة، مع حقّ العودة، وتحقيق أمنه الدّائم.

والرّؤية السّياسيّة لا يمكن أن تتحرك بذاتها، فهي تتحرك وفق مواثيق دوليّة وعربيّة، ووفق الدّبلوماسيّة الضّاغطة في الأمر، خلافا للخطاب الجماهيري والثّقافيّ عموما الّذي يجد فضاء أوسع في الخطاب، بأي شكل من الأشكال كان هذا الخطاب، ليكون ضاغطا على الحكومات، ثمّ أنّ السّياسيّ تحرّكه المصالح الآنيّة والظّرفيّة، ويدور وفق المسارات الدّوليّة والقوميّة، والمساحات المتاحة للضّغط وإيقاف الحرب والإبادة، وأمّا المثقف النّاقد يدور حول المبادئ، ليكون ضاغطا في حماية الإنسان، وأن يكون قلمه وصوته فاعلا لدى جميع الأطراف، لتضع الحرب أوزارها، وتحفظ تلك النّفوس كأيّ نفس أخرى لها حقّ الوجود والتّمتع به.

المنطلق الرّابع: الثّقافة والإحياء العربيّ

بداية التّفكك الفلسطيني الدّاخلي من أكبر الأسباب الّتي جرّت إلى النّظرة الدّونيّة لحالهم، فقوّة الذّات توجب احترام الآخر، وتفكك البيت من الدّاخل يسهل اختراقه، ولمّا كان البيت الفلسطيني متحدّا في كلمته، مناضلا في قضيّته، لم تفرّقه التّوجهات اليمينيّة واليساريّة، وكانت الغاية التّحرير وإرجاع الحق؛ وكان العالم على ضعف الإعلام حينها، يخرج مناصرا له، ثمّ لمّا ضعف وتفرق بدأت بعض الحكومات العربيّة بالتّراجع على خجل، واليوم من يقرأ التغريدات يجد أصواتا تراجعت، وبما أنّ العديد من الشّعوب لا زالت صادقة ووفيّة، ومدركة لأحقية الفلسطيني كإنسان في أرضه، وفي هذا فرصة للبيت الفلسطيني أن يراجع أوراقه من جديد، وأن يترك خلافاته جانبا رغم المأساة والمعاناة.

ومع أملي الكبير في إحياء البيت الفلسطيني، لكن من المؤسف حقّا أن أراه بعيدا اليوم، ونحن نخرب بيوتنا بأيدينا، وقد كان أجدادنا في نهايات القرن التّاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، يتحدّثون عن إحياء هذه الأمّة من بعد صدمة الإفاقة، حيث كان عدّوهم واحدا – أي الاستعمار -، فوحد بغداد مع دمشق والقاهرة وبيروت والخليج وما بينهما إلى أقصى دول المغرب، واليوم – للأسف – نتقمص دور المستعمر، ونستخدم ذات أدواته في خراب هذا البيت العربيّ، فأين بغداد وصنعاء وبيروت والخرطوم وطرابلس، وأين حواضر العالم العربيّ، ونحن نساهم في خرابها بمعولنا نحن لا بمعول غيرنا.

من المؤسف حقّا أن نعيش هذه اللّحظة ونرى العديد من الأقطار العربيّة يقتلها الفقر والخوف والتّشريد والحرب، في طرقاتنا نرى المشردين من حروب اليمن والسّودان وفلسطين وسوريّة وغيرها، فضلا عن الباحثين عن لقمة العيش بثمن زهيد لا يكفي لأجرة شهرهم، ونحن أغنى أهل الأرض بهذه الثّروات، فهذه إبادة أخرى لمقدّرات أمّة من أعظم أمم الأرض تأريخا وتنوعا.

هنا يأتي دور الثّقافة لتساهم في بلورة أنّ إحياء أي جزء عربيّ هو إحياء للمنطقة ككل، ولا يمكن إحياء البنيان والطّرق والجسور قبل إحياء الإنسان، ومن أكبر ما يعوق الإحياء الإحياءُ القطريّ دون الاعتناء بإحياء الآخر؛ بل أن نكون عونا في دماره وتشرذمه وضعفه، وكما أنّ الإحياء القطريّ، أي في الدّولة القطريّة الواحدة جانب مهم جدّا، علينا كمثقفين ومؤسّسات ثقافيّة أن نتعاون معه، وأن نشترك في تمكينه والحفاظ عليه، ولكن علينا أيضا أن نساهم إيجابا في إحياء الآخر أمنيّا وتنمويّا، وفي الواقع العربيّ على الإحياء أن يمتدّ جميع الوطن العربيّ، فعكس الإحياء الإماتة، وإماتة أيّ جزء عربيّ إماتة للكل، بمعنى يكون بؤرة سلبيّة تهدّد الواقع العربيّ أيّا كانت جغرافية بعضه قربا أو بعدا.

ملحوظة: أجزاء الكلمة مختارة من مقالات منوّعة للكاتب نشرت في بعض الصّحف والمجلّات.

السابق
العلاقات الثّقافيّة بين عُمان ومصر
التالي
لا تتمنوا الحرب
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً