بداية لا أحد ينكر النقلة النّوعيّة الّتي حدثت بعد عام 1970م عندما تولى السّلطان قابوس بن سعيد الحكم في البلاد.
وإنكار ذلك غلو في الحقيقة، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.
كما أنّه من العدل أيضا عدم هضم تأريخ أمّة ضاربة في التّأريخ لها بطولاتها ونضالها وأمجادها وتراثها، فضلا عن نتاجها العلمي والفكري والفقهي والأدبي واللّغوي.
وعندما نشاهد الإعلام قبل حلول العيد تجد التّغني بالماضي والأمجاد، فإذا ما اقترب العيد الوطني تتصور من بعض الخطاب أنّ أجدادنا عاشوا في ظلام وغوغائيّة ورجعيّة طويلة الأمد.
والحقيقة بعض الخطاب في الإعلام يكاد يلغي أيّ بطولة ونضال، وتقدّم ونتاج قبل 1970، وهذا غلوا وإفراط كبير.
والتّأريخ يقرأ تطوره ونهضته حسب معطيات ذلك الزمن لا حسب زمننا، وإلا أجهضنا حق أولئك، فلا يمكن بحال أن أقرأ تطور ذلك الزمن بحسب معطيات اليوم، كما أنّه لا يجوز للجيل القادم أن يقرأ تقدمه بحسب معطيات الزمن الذي يعيشه، ويلغي نهضة اليوم وتقدمها، وهذا من البخس في الميزان، وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ.
ثم لا يمكن بحال أن نصور أنّ ذلك الزمن ملائكي لا يخلو من العيوب، فهو تأريخ بشري يحوي المآسي كما يحوي المفاخر، ويشمل السلبيات كما يشمل الإيجابيات.
وتاريخ ما بعد 1970 أيضا ليس تأريخا ملائكيا لا يشمل النّقائص والأخطاء، لأنه اجتهاد بشري، يدرس وفق السّنن البشرية في التّقدم والبناء والعطاء، وفي التّدافع والإصلاح والاستمرار.
وعندما نقارن بين المرحلتين فإننا نظلم الاثنين معا، فلا مقارنة مثلا بين دولة كانت إمبراطوريتها تمتد أضعاف ما عليه اليوم، وتقارن بالدول الكبرى في العالم، بل يحسب لها ألف حساب، فكرسي الإمام قيد الأرض له هيبته ومكانته شرقا وغربا، وقصر السّيد سعيد بن سلطان تخضع له الدول الكبرى.
فإذا قارنا بين المرحلتين لظلمنا هذه المرحة بحق، وقد فقدت الدولة أراضيها، وضعفت إمبراطوريتها، فأصبحت دويلة من دول العالم الثالث.
وكذا الحال لو قارنا في الجانب الاقتصادي والعسكري، فقبل عام 1970 كان العماني يأكل مما تزرعه يده، ويلبس مما يخيطه مغزله، ويسافر بحرا بمراكب صنعها بنفسه، ويأكل في أواني أنتجها مصنعه، وبيوت عمانية خالصة هندسة وبناء، وعندما قامت الحرب العالمية الثانية لم يتأثر العماني كثيرا بينما جائحة بسيطة اليوم نخسر فيها أضعافا مضاعفة.
ولكن من الظلم أن نقارن ذلك الحال بحال اليوم، والسؤال المنطقي هنا: أين نحن اليوم؟ والإجابة حسب معطيات اليوم لا حسب معطيات الأمس، فلا نهضم أيضا نهضة ما بعد 1970، وإنما تناقش وفق الزّمن الّذي نعيشه لا وفق الّزمن الذي عاشه أجدادنا.
ونحن لا ننكر الحروب الأهليّة التي أكلت الأخضر واليابس، ولكن لم يكن يُقضى عليها بمجرد 45 سنة، بل سبقت بتضحيات سابقة أقامها مخلصون في الوطن، ومنها الجهود الإصلاحيّة التي أقامها الإمام السّالميّ رحمه الله تعالى مثلا ومن معه من مخلصي البلد.
كذلك كان للاستعمار البريطاني صولته في البلاد، لم نحصل على هذه الحرية لولا الثوّرات النضالية التي قامت مثلا في الستينيات، وعمت شرقا وغربا، وخصوصا في ظفار والدّاخل، فكان نتيجتها إبادة قرى بكاملها، وتشريد شعب أعزل، وحصاره، ومع ذلك قدّموا دمائهم لهذا الوطن فأشرقت حرية نتنعم بها اليوم، فلا يجوز عقلا هضم هذا النّضال، والّذي سجل بأحرف من نور.
ثم إنّ وقفة الشّعب العماني، من أعالي الجبال إلى منخفضات الوديان والسّهول، لم يكونوا في الجملة إلا أميين لا يعرفون القراءة والكتابة، فضلا أن يكونوا حاملي شهادات متوسطة أو ثانويّة أو عالميّة، وهؤلاء بنو البلد في السّبعينات، ووقفوا بصدق مع النّهضة، وهم أبناء ما قبل 1970، ولولا إخلاصهم وحبهم في التّنميّة لما كان عليه الوضع اليوم كما نرى، فكيف بنا أن نهضم حقوقهم، ونجعله أسودا مظلما.
فنحن أبناء الثمانينيات وما بعدها ولدنا في دولة آمنة مستقرة، ذات تعليم وصحة واستقرار، هذا لم يحصل فجأة، ولم يأتِ صدفة، بل كان نتاج أمم سبقت، وآباء ضحوا وناضلوا، أكثرهم قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا إخلاصهم لوطنهم وأمتهم.
على الجيل الجديد أن يشكر الله تعالى على هذه النّعمة، وأن يحترم تأريخ أمة لها عمقها التّأريخي والمعرفي، فالمخطوطات الّتي تركوها مع قلة سكانها يدل على النّهضة العلميّة التي عاشها أبناؤها لفترات بعيدة الزّمن، ولا يمكن أن يقاس ذلك بالوسائل المعاصرة، لأنّ لكل زمن وسائله في اكتساب المعرفة، كما أنّه لا يدافع عن تقصيرهم وأخطائهم.
وعلى الإعلام أن يحترم مشاعر النّاس في تأريخ أمتهم، وأن يكون معتدلا في وصفه، أمينا في كلمته.
والجيل الجديد عندما يعمّق فيه البعد التّأريخيّ، يكون له الدّور في توازن الإنسان، واستمرار العطاء، والاستفادة من أخطاء الماضي والحاضر، ليواصل هذا الجيل المسيرة إصلاحا، والواقع عطاء، والمستقبل نتاجا.
كما أسلفت في البداية لا ننكر حضارة ونهضة ما بعد 1970، ولا ننكر جهود السّلطان – حفظه الله – وجهود العمانيين ومن عاونهم جميعا، ولا نبخس حقوقهم، وفي الوقت نفسه نتعامل نحن مع نهضة بشرية، لا يمكن بحال أن تظل كما هي ساكنة، فلابد أن يفتح المجال للجيل الجديد أيضا ليشارك ويطور بلده، ليضع قاعدة للجيل القادم، كما وضع الجيل السابق لنا قاعدة، لتعود عمان مستقلة في معرفتها ونتاجها واقتصادها، متآلفة بين أبنائها، قوية في جيشها وعسكرها، ذات خير ومنفعة للعالم الإنسانيّ ككل، لأنّ التّطور طبيعة بشريّة، وخلقْة فطرية في الإنسان.
فيسبوك 1435هـ/ 2015م