وسائل التّواصل الاجتماعيّ 2022م
من الفهم الحاذق لآيات التنزيل العزيز ينطلق الأستاذ بدر العبري في بناء منهجه لأنسنة الحضارة، وأنسنة الأديان ومذاهبها وطوائفها. فلولا الإنسان لما ظهرت الأديان، ولولا الإنسان لما نزل القرآن. الإنسان بعموم معناه، لا يقتصر على جماعة دون أخرى.
ويبدو أن الإطار العام الذي تتأطر به رؤية بدر العبري، هو التواصل الواعي (الخلطة، حسب تعبيره) بين أتباع الأديان والمذاهب وعدم التسليم الأعمى لما جاء في كتب التراث لأنها بنت ظروفها والعزلة التي كانت موئلا لبناء تصورات غير صحيحة عن الآخرين، كالصابئة والزرادشتية (المجوس). بل حتى بين مذاهب المسلمين وطوائفهم.
ومن المعلوم أن دماء كثيرة سالت بحروب دينية الغطاء والشعارات. وفتن بعناوين مذهبية ما كان لها أن تحدث، بالأمس، وليس لها أن تحدث اليوم والغد.
رؤية تسندها آيات التنزيل العزيز ومنها:
• (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(الحجرات 13)
* (وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)(المائدة 87).
* (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ)(الأنعام 65).
وكأن العبري في متابعته لهذا النهج، يخاطب قارئه: (أيّا كان مذهبك الذي ورثته أو انتقيته، وأيا كانت القبيلة التي إليها انتسبت، أو البلد الذي إليه انتميت.. لا تنسَ إنسانيتك).
وسأكتفي هنا بحوار مع مقالين نشرهما قبل أيام، الأول عن الزرادشت، والثاني عن رحلته إلى بومباي.
ففي مقاله المعنون: الزرادشت ومغالطات كتب التراث كتب:
(كثيرا ما تحدث مغالطات في فهم الآخر، هذه المغالطات إمّا قصديّة لأسباب سياسيّة أو دينيّة مذهبيّة، بسبب الاستبداد أو التّعصّب، وإمّا لعدم الخلطة، وقراءة الآخر من الآخر ذاته، واليوم – بحمد الله تعالى – أصبح العالم مفتوحا على الجميع، فقراءة الآخر ليس بتلك الصّعوبة الّتي كانت بالأمس، ولهذا يُعذر السّابقون فيما لا يعذر به كتّاب اليوم ومثقفوهم، والمعنيون بالملل والنّحل والأديان والمذاهب، وأقسام الأديان والمذاهب في الجامعات والكليات، فلا يعقل من قسم الأديان أن تدرّس الأديان والمذاهب الأخرى اليوم مثلا من كتاب الملل والنّحل لأبي الفتح الشّهرستانيّ [ت 548هـ]، والفصل في الملل والأهواء والنّحل لابن حزم الأندلسيّ [ت 456هـ] ونحوها).
وينطلق من هذا إلى موضوع الزرادشت فيرحل إلى بلدان عديدة ويلتقي بعلمائهم ويكشف الضباب المحيط بهم، مستعرضا منطلقاتهم الدينية. ثم يعرج على المصادر التراثية فيقول
“.(ولهذا نجد في الأدبيات الرّوائيّة كما في موطأ مالك [ت 179هـ] – بعيدا عن ظرفيّة الرّواية – أنّ عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال: “ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال عبد الرّحمن بن عوف [ت 32هـ]: أشهد لسمعت – رسول الله صلّى الله عليه وسلّم -: يقول: سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب”، فكانوا يجعلونهم في منزلة أهل الكتاب؛ للعديد من المشتركات كالإيمان بالله، ووجود كتاب مقدّس لديهم.
والحديث عن الزّرادشتيّة يطول بطبيعة الحال، وما أردت الإشارة إليه أنّ الكثير من المغالطات في الكتب التّراثيّة الإسلاميّة وغيرها اتّجاه الآخر المختلف، ليس على مستوى الأديان فحسب؛ بل حتّى على مستوى المذاهب الإسلاميّة ذاتها، فلا ينبغي اليوم أن تجعل هذه الكتب أصلا لفهم الآخر، ولا ينبغي أن تلقن هكذا للطّالب والمتلقي بعيدا عن روح النّقد والبحث والتّثبت، وعلى أن نتعامل معها وفق ظرفيّتها، لا وفق ظرفيّة زمننا، على أنّها أيضا موروث يعطي أبعادا ظرفيّة).
فعقبت على ما وصل إليه بقولي:
(أحسنتم وأجدتم وكتبتم الحقيقة بشجاعة، ورسمتم طريق الوصول إليها بالموضوعية، والتخلي عن الأساطير والخرافات التي كان سببها قديما (عدم التواصل بين الفرق) والتعصب لما قيل من قبل، واستغلال الجهل لترويج الضلال. ويتواصل ذلك كله إلى العصر الحديث مزدوجا مع التوظيف لأغراض أخرى وتحقيق المصلحة الذاتية وإشباع الغرور الفردي.. أحيّكم فضيلة الشيخ من كل قلبي وأنتم ترسمون منهجا من الإطار الذي يجب أن تنطلق منه الدراسات الموضوعية. لأن هذا المنهج لا ينقّي النظر إلى الزرادشتية فحسب، بل هو أيضا، يوسع أفق التفكير في تواصل مذاهب المسلمين بلا تعصب ولا غرضية مسبقة مسيّسة لمصالح ضارّة بالإسلام نفسه لتتجنب الأمة مزالق السقوط في أوحال التعصب الطائفي المؤدي إلى محن وفتن حذرنا الله منها (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ)
وعن جولته في بومباي/ الهند، كتب:
ليس من السّهل أن تجتمع التّعدديّة مع الأمن، وإن كانت هي من حيث الأصل، إلا أنّها قد تكون فتيلا أيضا يشتعل في أيّ وقت إذا تولّد خطاب طائفيّ، يقود هذه المجتمعات الآمنة والمتسالمة إلى الصّراع والعنف، وإن كنت أرى أنّ الطّبيعة الهنديّة لا تختلف كثيرا عن طبيعة سكان الخليج واليمن مثلا، فهذه مجتمعات من داخلها متسالمة ومتصالحة، لا تنظر بريبة كبيرة إلى المختلف، عدا خطابات دينية سلبيّة بين حين وآخر، غالبها مصدّرة من أجواء مظلمة من التّأريح، أو أحداث ظرفيّة فيه، يحاولون استنساخها، أو القياس عليها، وتزداد سوءا إذا غذّيت سياسيّا، وتحوّلت إلى تظاهرة اجتماعيّة.
لهذا أرى لاستقرار المجتمعات عقليّا وأمنيا ضرورة الخطاب الإنسانيّ، وربطه بالجمال الإلهيّ في التّعدديّة الطّبيعيّة في المجتمعات الإنسانيّة، فالأديان وسيلة للوصول إلى الإشباع الرّوحيّ، وتحقق الجمال الإلهيّ، أمّا الإنسان فهو دائرة المشترك في التّعامل الإنسانيّ، فلا يمكن حصر (الإنسان) بماهيّته الواسعة، في زوايا ضيقة، فإذا نظرنا إلى الواسع من خلال الضّيق ضاق الأفق، وأخرجت النّفوس ما في أضغانها من احتقار للمختلف، وتقزيم وتشويه له، أمّا إذا نظرنا إلى الضّيق من خلال الواسع فهنا يتسع الأفق، وتتصالح الذّات، وتتسالم مع الآخر، لتتوسع دائرة البناء، وتضيق دائرة الصّراع.
فكتبت:
هكذا تستكشفون الآفاق وتحملون رسالة السلام العُمانية لكل العالم، فتشع بكم الدروب، وترتقي لأهدافكم النفوس الأبية الطيبة.. تحياتي لكم أيها للشيخ المبجل (الشّيء الأهم بعد النّظرة الواسعة، والتّسالم مع الآخر، كيف نساهم في رقيّ هذا الإنسان ذاته، بعيدا عن هوّياته واختلاف أديانه وتوجهاته، من المؤسف حقّا أن يفشل المجتمع الإنسانيّ في تحقيق العدالة الإنسانيّة بين الجميع ولو بنسبة متقاربة، ولعل هذا هو الأهم الّذي ينبغي أن يشتغل عليه المفكرون والمنظرون، فتحقيق كرامة الإنسان من حيث ماهيّته هي الغاية الّتي لا ينبغي إهمالها في المجتمع الإنسانيّ، فموارد الطّبيعة كافية لتحقق الكرامة الإنسانيّة، ولكن الأهواء السّياسيّة والأيدلوجيّة تحول دون تحقّق ذلك.) سلّمكم الله تعالى.
تحية لكل النفوس الطيبة التي تريد رُقيّ الإنسان إلى حيث يحقق إنسانيته بتنفيذ رسالة استخلافه في إعمار الأرض.