ملخص ورقة “أنسنة التّعبير في واقع الدّولة القطريّة من لاهوتيّة المدارس السّياسيّة الإسلاميّة الأولى إلى أنسنة الدّولة القطريّة المعاصرة” والمقدّم للمعهد العاليّ في الدّراسات التّطبيقيّة في الإنسانيّات بسبيطلة -جامعة القيروان في الجمهوريّة التّونسيّة – ندوة المدينة، الدّورة الرّابعة، بعنوان: “الإنسان والتّعبير” 29 – 31 أكتوبر 2024م
(1)
مفهوم الدّولة القطريّة تزامن مع الدّولة الحديثة، إلا أنّه اليوم أصبح واقعا في العالم أجمع تحت مظلّة حقوقيّة واحدة، ومنها العالم الإسلاميّ والعربيّ، حيث تحوّل من دولة الخلافة إلى دولة المواطنة، وقد كان تجربته السّابقة قد تطوّرت بعد حادثة السّقيفة (11هـ)، حيث تجمعت القبائل المختلفة في زاوية واسعة جغرافيّا، وتمدّدت بتمدّد انتشار الإسلام، من الأمّة والإمارة، إلى الإمامة والخلافة، ابتدأت من الشّورى إلا أنّها رجعت إلى الوراثة في القبيلة أو الأسرة أو الشّخص الأقرب نسبا، وتباينت الشّورى بين الشّورى المطلقة في الأمّة كما عند الإباضيّة والعديد من المعتزلة، أو الشّورى وفق القرشيّة كما عند غالب السّنة وأهل الحديث، أو الشّورى في البطن الهاشميّ نصّا جليّا في عليّ بن أبي طالب (ت 40هـ) وذرّيته من بعده كما عند الإماميّة والنّصيريّة والإسماعيليّة والجاروديّة، أو نصّا خفيّا في البطنين من بني هاشم كما عند الزّيديّة، وجميعهم يقولون بالشّورى إلا أنّ أغلبهم قيّدها بالقرشيّة أو النّصيّة، كما اختلفوا في إطلاقيّة القيد من ظرفيّته خصوصا في القرشيّة.
(2)
ارتبط تطوّر الخلافة أو الإمامة بلاهوت النّصّ لتبريره، من رواية “قدّموا قريشا ولا تَقَدّموها” لحل أكبر مشكلة بين المهاجرين والأنصار بعد وفاة النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم -، لتصبح رواية “الأئمة من قريش” قاعدة قيديّة لها ظرفيّتها حينها كقول عبد الله بن أبي السّرح (ت 36هـ): “أيّها الملأ إن أردتم أن لا تختلف قريش فيما بينها فبايعوا عثمان” أي بعد وفاة عمر (ت 23هـ)، هذه الرّؤية ستتمدّد في الدّولة الأمويّة من خلال روايات الخلافة ومناقب بني أمية وروايات الجبر والتّحذير من الخوارج والخروج، ثمّ تتسع الرّؤية أكثر في الدّولة العباسيّة لتحمل قيد القرشيّة، وطبيعة الوراثة، وتضيف إليها روايات النّصيّة في البطن الهاشميّ، ولتطوّر المباحث الكلاميّة تطوّر الجانب اللّاهوتي، ويصبح التّعبير السيّاسي يعيش في اغترابات لاهوتيّة أكثر منها إنسانيّة.
(3)
وارتبطت الدّولة العثمانيّة وما قبلها من دويلات بنظريّة التّغلّب لاحقا للخروج من أزمة روايات القرشيّة، ومع سقوط فكرة الخلافة والّتي ارتبطت بالدّولة العثمانيّة مؤخرا إلّا أنّ مفهوم الخلافة كأمل عودة له ظلّ موجودا إلى اليوم، وكان قائما ابتداء مع بدايات المدرسة الإصلاحيّة كما عند الإمام محمّد عبده (ت 1905م)، إلّا أنّه تراجع عن هذا الرّأي مع تقادم العهد، ولتبلور الدّولة القطريّة كواقع، وظلّ مفهوم الخلافة حاضرا مع حركات الإسلام السّياسيّ خصوصا عند الإخوان المسلمين ابتداء من حسن البنا (ت 1949م)، مع محاولة أسلمة الدّولة لا علمنتها بالمعنى الشّموليّ، هذا الاتّجاه الحركيّ السّنيّ الإخوانيّ أثر في الجانب الشّيعيّ الإماميّ القائلين بالنّصّ الجليّ أيضا، ومع تأثر بعض الشّيعة الإماميّة بالإخوان المسلمين مبكرا؛ لهذا ولد حزب الدّعوة الشّيعيّ في العراق عام 1957م، والّذي كان محل جدل في حوزة النّجف حينها، لطبيعة الاتّجاه الشّيعيّ الإماميّ السّلبيّ من السّياسة بعد الغيبة الكبرى، وانقطاع السّفارة، إلا أنّها تظهر وتخفت بين فترة وأخرى بنسب متفاوتة، بيد أنّ التّشكل الأكبر كان مع الإمام الخمينيّ (ت 1989م)، والّذي طوّر نظريّة ولاية الفقية من النّيابة عن الإمام الغائب في بعض الجوانب، إلى النّيابة عنه حتّى في الإمامة الكبرى، كما استطاع أيضا تطبيق ذلك عمليّا بعد الثّورة الإيرانيّة 1979م، إلا أنّ هذه التّجربة الوليدة للشّيعة في التّأريخ من حيث الولاية العامّة للفقيه؛ إلا أنّها أمام نظريّات متقدّمة للدّولة اليوم من حيث الانتخابات، وطريقة الاختيار، والدّساتير المرتبطة بالمواثيق الدّوليّة وغيرها، لهذا حاولت هذه الرّؤية المزاوجة بين التّراث وعلمنة الدّولة من خلال التّوسّع في الأسلمة من خلال المقاصد والمصالح، دون الوقوف عند حرفيّة النّصوص، مع ظهور نظريّات شيعيّة أخرى تزامنت مع ولاية الفقيه كدولة الإنسان عند محمّد باقر الصّدر (ت 1980م) ومحمّد حسين فضل الله (ت 2010م)، وولاية الأمّة على نفسها كما عند محمّد مهدي شمس الدّين (ت 2001م)، بيد أنّ نظريّة ولاية الفقيه هي الغالبة في التّفكير الشّيعيّ الإماميّ اليوم.
(4)
لفظة دولة لم ترد في القرآن الكريم إلا مرة واحدة في سورة الحشر آية 7: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، والدّولة الشّيء المتداول يدار بينهم، تارة عند هذا وتارة عند هذا، وتطوّر التّعبير إلى التّداوليّة في الوزارة والسّلطة والملك، وقد كان سابقا يعبّرون عنها بدولة الخلافة أو الإمامة أو الولاية.
القرآن لم يتطرّق إلى مفهوم الدّولة ولا حتّى الخلافة والإمامة ونظامها، ممّا يجعلها في الدّائرة المفتوحة، والمرتبطة بالظّرفيّة التّأريخيّة، فنظامها وفلسفتها متطوّرة بتطوّر الوعي الإنسانيّ، ولمّا نتأمل النّصّ الأول – أي القرآن – لا نجد كما أسلفنا مفهوما واضحا للدّولة، وإنّما أشار إلى قيمتي الحكامة بالعدل، وإلى الشّورى.
(5)
بسقوط الدّولة العثمانيّة عام 1922م انتهت دولة الخلافة، وبدأ تكوّن الدّولة الوطنيّة القطريّة، ومفهوم الدّولة بمعناها الإقليميّ الوطنيّ التّعاقديّ تبلور بشكل كبير في الغرب بعد عصر الأنوار، لهذا بدأت بعض المراجعات مبكرا، وأجرأها ما قدّمه عليّ عبد الرّازق في كتابه “الإسلام وأصول الحكم”، والّذي صدر مبكرا عام 1925م، والّذي خلص فيه “بأنّ محمّدا – صلّى الله عليه وسلّم – ما كان إلا رسولا لدعوة دينيّة خالصة للدّين، لا تشوبها نزعة ملك، ولا دعوة لدولة، وأنّه لم يكن للنّبىّ – صلّى الله عليه وسلّم – ملك ولا حكومة، وأنّه – صلّى الله عليه وسلّم – لم يقم بتأسيس مملكة، بالمعنى الّذي يفهم سياسة من هذه الكلمة ومرادفاتها، ما كان إلا رسولا كإخوانه الخالين من الرّسل، وما كان ملكا، ولا مؤسّس دولة، ولا داعيا إلى ملك”.
بيد أنّ طرح مثل هذه القضايا، ورغم بدايات تكوّن الدّولة الوطنيّة؛ لم يكن بتلك الإنشراحة في عالمنا الإسلاميّ والعربيّ، ولم توجد قراءات ناقدة بشكل كبير، خشية الرّهاب الدّينيّ، وتأثيره على الجانبين السّياسيّ والاجتماعيّ، ومع ذلك طرحت بعض القضايا المتعلّقة بالدّولة والحكامة حينها، وقد كان الاستعمار في النّصف الأول من القرن العشرين الميلاديّ وحد جميع الاتّجاهات، وتناغم الإسلاميون مع الاتّجاه اليساريّ والاشتراكيّ بشكل عام، لنجد كتابات إسلامية تحمل بعض مضامينها عناوين اشتراكيّة، ككتاب “التّكافل الاجتماعيّ في الإسلام لمحمّد أبو زهرة (ت 1974م)، و”اشتراكيّة الإسلام” لمصطفى السّباعيّ (ت 1964م)، و”العدالة الاجتماعيّة في الإسلام” لسيّد قطب (ت 1966م)، و”ومن هنا نبدأ” لخالد محمّد خالد (ت 1996م)، واعتبر عليّ شريعتيّ (ت 1977م) أنّ أبا ذر أول اشتراكيّ في الإسلام، فقد كانت هناك شيء من الانشراحة في التّعامل مع النّظريّة الاشتراكيّة، خصوصا في أجوائها الثّوريّة والاجتماعيّة وليس العقائديّة.
(6)
نظريّة الخلافة ظلّت عالقة في التّفكير الإسلاميّ الحركيّ، بيد أنّهم لاحقا أكثر انفتاحا على الأدوات العلمانيّة في الوسائل وليس الحاكميّة، والحاكميّة هي أسلمة الحكامة كما طرحها أبو الأعلى المودودي (ت 1979م) وسيّد قطب، ثمّ ظهر فريق آخر من التّيار السّلفيّ كفّر الدّولة المدنيّة لثلاثة أسباب كما عند محمّد عبد السّلام فرج في كتابه الجهاد الفريضة الغائبة: الأول: تعلو فيها أحكام الكفر أي تعطيل الشّريعة واستبدالها بالقوانين الغربيّة، والثّاني: ذهاب الأمان للمسلمين، إشارة إلى الاستبداد ضدّ الإسلاميين والتّضييق على أنشطتهم، والثّالث: المتاخمة أو المجاورة أي مع الكفار، وعلى هذا حكّام العصر كفار مرتدون وعقوبتهم أشدّ، ويستندون إلى نصوص ظاهريّة من القرآن مثلا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، وبعض الرّوايات كرواية: “من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهليّة”، وتشكلت مؤخرا في أدبيات الحركات الجهاديّة كالقاعدة وداعش.
(7)
كما أنّ الحركات اليساريّة والقوميّة كانت الأرقى في تصوّر الدّولة المدنيّة في النّصف الأول من القرن العشرين، وكانت لها الرّؤية العصريّة في التّعليم والصّحة والزّراعة والرّعي، بيد أنّ الحركات اليساريّة في العالم العربيّ فشلت في التّطبيق العمليّ في الجملة، ويمكن القول بعد مائة سنة من سقوط الخلافة الإسلاميّة؛ لم توجد تجربة قطريّة وطنيّة متكاملة في الوطن العربيّ، كما لم توجد روح إحيائيّة تجعل الجميع سواء في نهضته الوطنيّة، وعدم التّدخل في شؤونه الدّاخليّة، لهذا نحن اليوم، ومع بدايات القرن الحادي والعشرين؛ لازال غالب أقطار العالم العربي في صراعات طائفيّة وأهليّة، كما يعاني من الجماعات المسلحة، ومن الفقر والبطالة والضّعف في جميع المستويات.
(8)
وفي نهايات النّصف الثّاني من القرن العشرين، وبداية الألفية الجديدة، وجدت العديد من القراءات النّقديّة، أكثر انشراحا واقترابا من دولة المواطنة والإنسان، ووجدت العديد من الأطروحات والنّظريّات الإحيائيّة والنّقديّة، ولكن لتحقيق هذا علينا أن نمايز بين الإحياء والتّدخل المصالحيّ، وبين اتّجاهات الحكامة في الماضي وبين الدّولة الوطنيّة المعاصرة، وبين الدّولة الوطنيّة الشّموليّة وبين الدّولة الوطنيّة التّعاقديّة.
وأمّا التّمايز بين الإحياء والتّدخل المصالحيّ؛ فالإحياء مرتبط بالإنسان من جهة، وبالقوميّة من جهة ثانية، من حيث الأنسنة، أي يرتبط كمواطن بذاته بعيدا عن أيّ انتماءات هويّاتيّة، ومن حيث القوميّة فهي قديمة كظاهرة اجتماعيّة، حديثة كانتماءات إحيائيّة وليست تصارعيّة أو احترابيّة ، فالأمّة العربيّة وإن كانت ابتداء مكوّن إنسانيّ، إلّا أنّها قوميّة مستقلّة لها جوامعها الخاصّة، لهذا لابدّ أن يفكر جميع أقطارها بعقل الإحياء للكل، لا بعقل المصالح والمنافع الآنيّة، فإحياء جزء منها هو إحياء للكل.
(9)
وأمّا اتّجاهات الحكامة في الماضي وبين الدّولة الوطنيّة المعاصرة، فظرفيّة الماضي تختلف عن ظرفيّة الحاضر، فلها قيمها المطلقة، إلّا أنّ مصاديقها ظرفيّة، ومنها ما يتعلّق بمصاديق الحكامة والسّلطة، فعلى العقل المعرفيّ أن يشتغل بقيم الدّولة، وحقوق الإنسان فيها، ومدى تحقّق قيم العدالة والمساواة، بدل الإغراق في قضايا ماورائيّة، أو صراعات مفاهيميّة
وهذا ينطبق أيضا على الدّولة الوطنيّة الشّموليّة بينها وبين الدّولة الوطنيّة التّعاقديّة، فدولنا العربيّة والإسلاميّة عموما كانت ملكيّة أم جمهوريّة، عليها أن تؤمن اليوم بضرورة التّعاقد، لأجل تحجيم الاستبداد، ولأجل الشّراك في الموازنات الدّاخليّة، والاستفادة من التّدافع بشكل إيجابيّ، فيما يحققّ النّهضة الإحيائيّة في الدّولة القطريّة، مع ضرورة بعث الإحياء لجميع البشر، واحترام ما يرتضونه من تعاقد بينهم.