المقالات النقدية

الدّولة والسّلفيّات الدّينيّة والمذهبيّة

جريدة عُمان، الأربعاء 18 شوال 1446هـ/ 16 أبريل 2025م

الدّولة – إن صحّ التّعبير – كائن متطوّر، وإذا كانت هناك قيم مطلقة عابرة للزّمكانيّة، إلّا أنّ الدّولة إجرائيّا لها ارتباط وثيق بالظّرفيّة، ولا يمكن بحال استنساخ نماذج إجرائيّة سالفة في واقع مختلف تماما، كما لا يمكن الوقوف عند حرفيّة النّصوص الإجرائيّة الماضويّة في واقع مختلف، قد تكون الرّوح مطلقة كالمساواة والعدل والحريّة، إلّا إنّ إجراء تحقّق ذلك لا ينفصل عن الواقع المعيش، وفي نظري لا توجد ديانة أو فلسفة من حيث الابتداء أرادت أن تختزل الدّولة في صورة إجرائيّة مغلقة، لكنّها تناولت الدّولة وفق ظرفيّة واقعها الّتي تعيشه، فإذا وجدت نصوص في ذلك فهي لا تخرج عن روح القيم المطلقة، أو الظّرفيّة المقيّدة بواقعها، وعليه ربط الدّولة كليّا بواقع ظرفيّ مختلف تماما ربط يقود العقل المعاصر إلى الجمود والتّخلّف، وقد يقوده إلى الصّراع والنّزاع والاحتراب، كما يجعل العقل يعيش في مخيال وهميّ يتمثل في أنّ استنساخ الدّولة في صورتها الإجرائيّة الماضويّة تقوده إلى الرّفاهيّة والكرامة والخلاص من آلام الواقع، وهو نوع من الوهم، والهروب من واقع الحال الّذي ينبغي أن يدرس بعقلانيّة الواقع، لا بأوهام الماضي، وكثيرا ممّا يروى عن الماضي يصلنا منه ما هو مختزل عن واقعه، وليست الصّورة الحقيقيّة المرتبطة بإنسان تلك المرحلة وفق تقدّمه أو تأخره وفق مقياس واقعه وظرّفيّة زمنه.

ولمّا نتحدّث عن السّلفيّة لا نريد هنا السّلفيّة بالمفهوم المذهبيّ المغلق المتمثل في بعض الجماعات الدّينيّة المعتدّة بأرثوذوكسيّتها، أو الّتي ترى الخلاص في رؤى واجتهادات السّلف، وليس المراد أيضا الوقوف عند بعض الجماعات الإصلاحيّة المعاصرة والّتي تبنت السّلفيّة لقبا لها، والمراد من حديثي هنا أنّه لا يوجد ديانة أو مذهب أو حركة لا سلف لها، أو لا رؤية سلفيّة لها، تسمت باسم السّلفيّة، أو حتّى كانت رافضة لهذا المصطلح، فالعديد من هذه الحركات لها ارتباط سياسيّ في النّشأة، ولها رؤية سلفيّة حول الدّولة والاجتماع البشريّ، قد تجمد عليها، وقد تتطوّر رؤيتها إذا ما حدث انفتاح عند بعض منظريها وأتباعها، بيد أنّ الخلاص من الرّؤية الماضويّة لا يمكن أن يتمثل في جميع أفرادها، وقد يتعرّض المنظرون الجدد لإقصاء من قبل التّقليديين [السّلفيين] في كلّ مذهب، والّذين يستخدمون البرجماتيّة النّفعيّة وفق كيان الدّولة القائم، وإن كان واقع خطابهم له رؤية ماضويّة خلاصيّة حول واقع الدّولة، لهذا يحاربون المنظرين الجدد باسم الدّولة نفسها عندما تكون المصلحة واقعة بين السّياسيّ والدّينيّ الأرثوذكسيّ.

قد يكون من النّاحية الشّكلانيّة لا خطورة في علاقة السّلفيّات الدّينيّة والمذهبيّة بالدّولة في الخطوط الجاميّة والنّفعيّة البرجماتيّة، الخطورة لمّا تتسع دائرتها حيث يتمثل إشكاليّتها في رفض الآخر القريب دينيّا أو مذهبيّا إذا كانت مخالفا لسلفيّتها الحرفيّة، ورفض البعيد خارج التّفكير الدّينيّ ذاته محاولة لإقصائه وإبعاده، مستخدمة أدوات الدّولة ذاتها من حيث المؤسّسات، وقد تتسع إلى القضائيّة والضّغط الاجتماعيّ، ولو كانت الدّولة لها صورة لبراليّة أو علمانيّة من حيث الابتداء، ليخرج مفهوم الاخر المختلف من دائرة المواطنة المرتبطة بالذّات الواسعة، إلى المواطنة المرتبطة بمدى النّفعيّة من جهة، وبضيق التّصنيفات المذهبيّة تجاه المختلف من جهة ثانية، وتتسع الخطورة عندما يملأ العقل الجمعيّ المستقِبل لخطابات سلفيّة ترى الخلاص في نماذج ماضويّة هي بذاتها تصارعت وتحاربت، واختزلت في روايات وقصائد شعريّة، يستقبل العقل الجمعيّ هذه الخطابات بلا إعمال عقليّ، ولا نقد معرفيّ، تجعله يعيش الازدواجيّة بين مخيال الخطاب وظرفيّة الواقع، ليسقط ذلك سلبا في تأثره بجماعات متطرّفة باسم الدّين، أو يكون ناقما لمحيطه الّذي يعيش فيه.

لهذا لابدّ من إعادة قراءة الدّولة وفق نظريّات الواقع، ولابدّ من نقد مثل هذه الخطابات غير المنضبطة من تديين الدّولة وإخراجها من إطارها الإنسانيّ المتحرّك، إلى الأطر اللّاهوتيّة المغلقة من جهة، ومن طبيعتها الحاليّة الواقعيّة إلى الخلاصات الماضويّة الوهميّة من جهة أخرى، ليبنى العقل الجمعيّ على المواطنة المرتبطة بالذّات المتساوية بين الجميع، هذه الذّات لا تلغي الخصوصيّات الدّينيّة والمذهبيّة والفكريّة والثّقافيّة، ولكنّها من حيث الدّولة يبقى الجميع ذاتا واحدة لا تمايز بينهم، والكلّ سواء في العمل والاجتهاد والشّراك والإبداع والكفاءة، فإذا لم يحدث مثل هذا النّقد، وإذا لم يتم إعادة التّعامل مع العقل الجمعيّ ليكون متعقّلا ناقدا محاورا، وليس مستقبلا فقط لخطابات من الخارج باسم المقدّس أو غيره، قد ينضبط تفكيره حاليا نتيجة قوّة الدّولة الوطنيّة، وليس لسبب ما يتمثله من ثقافة جمعيّة مؤمنة بإنسانيّة الدّولة وظرفيّتها الزّمكانيّة، يظهر ضرر ذلك في الخطابات غير المنضبطة والّتي قد تتحوّل إلى فعل حال ضعف الدّولة المركزيّة.

فالجماعات الحركيّة المتطرّفة مثلا لم تكن بعيدة عن هذه الخطابات والسّلفيّات غير المنضبطة، والّتي بنيت على كراهيّة وإقصاء الآخر تحت مفهوم “الولاء والبراء”، أو تحت عموميّة الأسلمة بما في ذلك المتحرّك في الاجتماع البشريّ، ومحاولة لاستنساخ تجارب سابقة لها ظرفيّتها وفق التّديين والخلاص باسم المقدّس، ولو كانت مرجعيّتها روائيّة وتطبيقات تراثيّة لا علاقة لها بالنصّ الأول من حيث الابتداء، هذه الجماعات تجاوزت حدّ الخطاب إلى الفعل، بيد أنّ الخطاب الّذي تحمله لا يختلف عن خطاب السّلفيّات الدّينيّة والمذهبيّة في عالمنا العربيّ والإسلاميّ، فلا زالت النظرة الخلاصيّة للدّولة في صورتها الماضويّة حاضرة، والعديد من أدبيات هذه الجماعات الحركيّة المتطرّفة لا يختلف تماما عن الّذي يطرح في الجامعات والمساجد، وما نراه أيضا في الكتب الدّينيّة التّقليديّة فيما يتعلّق بالحكامة، وتصنيف المختلف الدّينيّ والمذهبيّ، وكلاسيكيّة الولاء والبراء والتّكفير والتّفسيق، وإسقاطات ذلك على المعاملات والحدود والقوانين المدنيّة وما يماثلها.

السابق
عُمان والبحرين والثّقافة المشتركة
التالي
سياحة جامع السّلطان قابوس الأكبر وخطوة في مجال التّصحيح
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً