شؤون عمانيّة، 9 أكتوبر 2023م
تتجدّل في كتابات المفكر العماني الأستاذ بدر العبريّ الرؤية المشروعيّة للتعايش مع سجيّة شخصيته المسالمة في مزيج لا أقول يصعب على القارئ الفصل بينهما، بل لن يأبه بذلك مع تعمق أطروحاته وتشابك “المصطلحات” التي يستخدمها مع أحداث العالم المعاش وسرديات الماضي المتشنّجة.
كتابه “لاهوت الرحمة” يُشبه ببعض نواحيه ما يمكن أن نسميه “ما بعد المانيفستو”، حيث يتعامل بدر العبريّ مع تطورات المجتمع عبر التاريخ ويدرك أهمية “الدياليكتيك” (الهيجلية) كمسألة مستمرة ومتداولة. يطلق بدر العبري على هذه العملية مصطلح “الجَدَلِيّات”، والتي تختلف قليلاً عن الدياليكتيك، حيث أن الجدل طريقة في المناقشة والاستدلال صوَّرها الفلاسفة بصور مختلفة، وهو عند مَناطقة المسلمين: :-قياسٌ مؤَلَّف من مشهورات أَو مُسلَّمات.
سؤال الكتاب الجوهري والمستتر في آن واحد هو: هل يستطيع الإنسان أن يكون “فردا” في قناعاته وفي سلوكياته ومع ذلك يكون جزء من الجماعة؟ ففيما يتعلق بفهم الإنسان لكونه “فردًا” وجزءًا من الجماعة، يظهر الاستفهام حول إمكانية تحقيق هذا التوازن. فنجد في الغرب ثقافة تمجد الفردانية، لكن هذا يتطلب أحيانًا التخلي عن بعض جوانب الانتماء الجماعي. وهكذا، يمكن للفرد أن يكون “غريبًا” داخل الجماعة، مما يتيح له حرية الاحتفاظ بفرادته دون الحاجة إلى التنازل عنها من أجل الانتماء. الفردانية أصبحت تُرمز إلى الوحدة والعزلة.
يتناول الكتاب جذور مفهوم “الفردانية” عندما يتساءل اللاهوتيون عن معنى أن يكون الله جل وعلا “فردًا”. هل كان الله تعالى قبل الخلق صامتًا وغير متكلم؟ هل كونه تعالى فردًا وحيدًا دفع الله تعالى إلى خلق المخلوقات لكسر هذه الوحدة؟ وهل الفردانية تتعارض مع مفاهيم الأنسنة الاجتماعية والجماعية؟
هناك مطب وقع فيه المنتمون إلى قسم دراسات فلسفة الدين خاصة الذين ينتمون إلى أغلب المدارس التي سبقت ما بعد الحداثة. سنتحدث عن نزعتهم لكي نعرف كيف يمكن لنا خوض جدل مدروس.
في محض نقدهم للمدارس الفلسفية السابقة قام أتباع مدرسة ما بعد الحداثة من إبراز مصطلحين مهمين: Pareidolia وAnthropomorphism ليسهل إبراز مثالب أطروحات المدارس السابقة.
فهذين المصطلحين يشخصان حالة بشرية مهمة تعملان بصمت في تشكيل الوعي اللاهوتي عند الإنسان، وذلك عن طريق إتاحة إمكانية تصوّر الكائنات والقوى الخارقة بشكل أكثر تجسيمًا وإنسانية. إليك كيف يمكن لكل من هذه الإتاحات أن تؤثر على الوعي اللاهوتي:
Pareidolia:
عندما يرى الإنسان وجوهًا أو رموزًا بشرية في ظواهر طبيعية أو أشياء غير حية، فإنه يمكن أن يعزز هذا الشعور بالوجود الإلهي. على سبيل المثال، إذا رأى شخص شكل وجه بشري في سحابة، قد يرتبط ذلك بفكرة وجود قوى أو كيانات خارقة.
Pareidolia يمكن أن يساهم في تطوير الأفكار اللاهوتية حيث يرى الإنسان الوجود الإلهي في الأشياء اليومية ويعزز فهمه للعالم الروحي.
Anthropomorphism:
عندما يميل الإنسان إلى إعطاء الكائنات والكيانات اللاهوتية صفات بشرية مثل العاطفة والإرادة والقرار، فإنه يمكن أن يقوي هذا التصور للألوهية. مثلاً، عندما يصوّر الإنسان إلهًا بملامح بشرية، فإنه يمكن أن يشعر بالارتباط الأعمق مع هذا الإله.
Anthropomorphism يسهم في تجسيد القوى والكائنات الروحية بطريقة تجعلها أكثر قربًا وفهمًا للإنسان، مما يمكن أن يعزز الوعي اللاهوتي والتفاعل مع العقائد الدينية.
فعندما يتساءل اللاهوتيون ما معنى أن يكون الله جل وعلا فردا؟ هل الله تعالى قبل الخلق كان صامتا لا يتحدث؟ هل كونه تعالى أحدا واحد فردا قاد الله تعالى إلى خلق المخلوقات لكسر الوحدة؟
هذه أسئلة مشتقة من وعي الإنسان لا من إله. فالإنسان الذي يشعر بالوحدة والذي يحتاج أن يعاشر مخلوقات من جنسه لكي ينسجم وضعه مع فطرته. بمعنى آخر إنه سؤال بشري لم يميز بين البشر والإله ووقع في مطب الظاهرتين: Pareidolia وAnthropomorphism . لكن نقيس على ما يقول الحنابلة في أطروحتهم اللاهوتية: الله فرد أحد. فردانية لا كأي فرد منّا و أحدية لا كأحدية أحد منّا.
كل هذه الأسئلة الدقيقة فتح محاورها كتاب “لاهوت الرحمة” واستطاع أن يتوصل إلى تخريجه تنفذ بنا من أفق ثقافي متأزم ومتشنج.
استنجد بدر العبري بأطروحات متكلمي المتصوفة ليؤسس لأخلاقيات تسمح لتعايش كافة الناس بسلام. عندما حث على الاتصاف بصفات الله، والتخلق بأخلاقه، تعالى جده، تحديدا “الرحمة” محور كتاب “لاهوت الرحمة”.
في هذا يقول المتصوفة أن الله تعالى يحب من العباد أمورًا اتَّصف بها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله وَتْرٌ يُحبُّ الوَتْر”، وقال: “إنهُ جميلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ”
كما قال أبو الحسن الشاذلي (656هـ): “للصوفى أربع صفات منها التخلق بأخلاق الله. وكتب أبو حامد الغزالي (505هـ) في كتابه (المقصد الأسنى) فصلا بعنوان: “كمال العبد وسعادته في التخلق بأخلاق الله تعالى والتحلّي بمعاني صفاته وأسمائه بقدر ما يتصوّر في حقّه”. كما قال ابن عربي الصوفي (638هـ): “ولهذا تشير الحكماء بأن الغاية المطلوبة للعبد التشبّه بالإله، وتقول فيه الصوفية: التخلق بالأسماء، فاختلفت العبارات وتوحَّد المعنى” الفتوحات المكية (2/ 126). كما وافق متأخري متكلمي الحنابلة على ما ذهب إلية متقدمي متكلمي الصوفية: عندما قال الشيخ عبدالعزيز بن باز مجيبا على سؤال (الحث على الاتصاف بصفات الله والتخلق بأخلاقه، هل لها محمل؟). الجواب “….. له محمل صحيح، وهو الحث على التخلق بمقتضى صفات الله وأسمائه وموجبها، وذلك بالنظر إلى الصفات التي يحسن من المخلوق أن يتصف بمقتضاها، بخلاف الصفات المختصة بالله كالخلاق والرزاق والإله ونحو ذلك، فإن هذا شيء لا يمكن أن يتصف به المخلوق، ولا يجوز أن يدعيه، وهكذا ما أشبه هذه الأسماء.”
-هكذا يؤسس بدر العبري للتعايش “الرحيم” في كتابه “لاهوت الرحمة”. فكلنا نسير “الطريق” بفردانية تجاربنا الوجودية تماما مثل ما يقول أهل التصوف أن الطّرُق إلى “رحمة الله” بعددِ أنفُس الخَلق؛ هذهِ الركيزة الصوفيّة المؤمنة بأنّ الطرق إلى الله كثيرة جداً؛ لأنّها بعدد أنفسِ الخلق جميعاً، مهمة جداً، فهي تروّض الصوفي مبكراً لتقبُّل اعتناق “الفَرْدَانِيّة” المؤسِّسة للتعدد الثقافيّ الكونيّ، فهذه العقيدة من ناحيةٍ هي انعكاسٌ لإيمانٍ وثيقٍ بالفردية، وهي لا ترى حَرَجاً في أن يخوض كلّ صوفيّ في فهمه الخاصّ لِجَنْيِ معنى التَّجربة الصوفيّة. فالتصوف يحوم حول فكرة أنّ “كلّ تجربةٍ صوفيّة هي فردانيّة متفرّدة في نوعها، ولا يمكن أن تتكرر في تجارب بقيّة البشر؛ إنّها “فردانيته” غير ثابتة، بل هي سائلة تجري في سهول ووديان “المقامات”، لتنتج “أحوالاً” نفسية وسيكولوجية غير قابلة للتكرار، ومن خلال تفهّم الصوفي لهذه المقالات الصوفيّة الأساسية، سيتهيّأ وعيُ كُلِّ صوفيٍّ إلى تقبّلِ أنْ يكونَ لغيرِهِ مِنَ المتصوّفة طرقهم الخاصّة بهم الَّتي تختلف عنه. إنّ التصوف في عمقهِ الجوهري هو عقيدة قائمة على تقبل التعدديّة بصياغات لا نهائية.
إذا فردانية بدر العبري تتشكل عبر التجارب الخاصة ولكنها ذات ثقافة جماعية، مؤنسنة قرآنيا ومورثيا.
يستشهد الكتاب ب “التعارفية” القرآنية:
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [الحجرات 13]، ليؤسس لأهمية أن يعيش الفرداني في بوتقة الجماعة.
كما يستشهد الكتاب ب “الأخوة” العلوية : “الناس صنفان : إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق”― الإمام علي بن ابي طالب.
إذا الفردانية في كتاب “لاهوت الرحمة” عبارة عن فردانية غير مستغرقة في غرابة تفصلها عن الجماعة المحلية أو الوطنية أو الإقليمية أو الكونية. باختصار، يُعَتَبَر كتاب “لاهوت الرحمة” لبدر العبري مساهمة قيمة ومهمة في تعزيز فهمنا للتعايش الجماعي مع هامش يسمح للفردانية من تشكيل فردانيتها.
إن قيمة الكتاب كـمنظور تنظيري وتأسيسي لا تُستهان بها على الإطلاق، إذ يمثل كتاب “لاهوت الرحمة” لبدر العبري مصدرًا ثريًا ومفيدًا. يتميز الكتاب بمنظور مشروعي يُعزز التفكير في توازن الفردية والاندماج الاجتماعي. يعتمد على الأخلاقيات الروحية واللاهوتية ليقدم رؤية تشجع على تعزيز التعاون والتفاعل الإيجابي بين الأفراد والمجتمعات.
هذا الكتاب يساهم بشكل كبير في توجيهنا نحو عالم يسوده التلاحم والتفاعل، حيث يسعى إلى تعزيز التفهم المتبادل والتقبل، وذلك من خلال دمج قيم الفردية مع قيم التكامل الاجتماعي. بفضل هذا الأسلوب المتجانس بين التنظير والتطبيق، يُعتبر الكتاب مرجعًا هامًا للباحثين والمهتمين بقضايا التعايش والتلاحم الاجتماعي.