المقالات النقدية

نحو إنشاء مؤسّسة بحثيّة في قراءة القضايا الحيّة

جريدة عمان، الثّلاثاء 24 محرّم 1446هـ/ 30 يوليو 2024م

هناك بعض القضايا الحيّة المتعلّقة بالوطن أو مجموعة من الأفراد يغلب عليها التّكهن؛ لعدم اتّضاح الرّؤية، ولعدم وجود أدلّة واضحة، ولطول زمنيّة التّكتيم، لهذا يبني الباحث أو المحلّل على ما لديه من بيانات فرديّة، أو نتيجة شيوعها في المجتمع، أو حديثها المتناقل في وسائل التّواصل الاجتماعيّ، وقد تكون بعضها متناقضة ومتضاربة.

كما أنّ هناك اجتهادات فرديّة من قبل الباحثين أو الدّارسين، في بعض القضايا المحليّة أو الاجتماعيّة، بناء على اجتهادات شخصيّة، أو إحصاءات ليست دقيقة، فيدخل في دائرة التّعميم، أو يخرج بنتائج ليست سليمة في الجملة، ولكن يبقى اجتهادا يشكر عليه.

ولأنّ المجتمعات البشريّة اليوم منفتحة على بعضها، فما يحدث في أقصى الأرض نجد ما يماثله في بلدنا بعد حين، ولأنّ الإعلام أصبح فرديّا لا قدرة للرّقيب في التّدخل فيه، فأصبح له تأثيره الأقوى، وله تنوعه ومشاربه، منه ما يتوافق معنا، ومنه ما يتناقض، ثمّ لم يعد المستقبِل مشاهدا أو مستمعا أو قارئا فقط؛ بل أصبح متفاعلا معه أيضا، وأصبح الّذي يخشى الرّهاب الاجتماعيّ يستخدم معرّفات وهميّة ليتفاعل مع من يميل إليه فكرا أو سلوكا، ومنهم من تجاوز الرّهاب ليعيش واقعه بفردانيّته المطلقة.

لهذا لم يعد المجتمع محصورا في هويّة وصورة واحدة، فأنت تعيش ساعات من يومك في عوالم افتراضيّة متبيانة، تجد لمّا تتأمل ما يماثلها أو يماثل بعضها في واقعك الحقيقيّ، منها ما تراه حسنا، ومنها ما تراه سيئا، ومع هذا، هناك واقع لابدّ من التّعامل معه كواقع، وعدم تجاهله بدعوى الهويّة الواحدة.

وفي المقابل لا ينبغي تسطيح هذا الواقع وفق قراءات علويّة أو انطباعيّة أو أبويّة مطلقة، بل نحن – في نظري – بحاجة إلى مؤسّسة بحثيّة تعنى بهذه القضايا الحيّة، يتفرغ لها باحثون خصوصا ممّن لهم تخصّصات في علوم الاجتماع والنّفس والتّربية والإعلام والاقتصاد، وما له علاقة بالواقع الفكريّ والاجتماعيّ، بحيث تقرأ الواقع عن عمق، كما لها قدرة في الحصول على بيانات وإحصاءات من الجهات المختصّة.

هذه الجهة أو المؤسّسة بلا شك سوف ترفد المجتمع بعد حين بقراءات عميقة، كما سيكون لها القدرة في تفكيك البنية الفكريّة والاجتماعيّة، هذا إذا توفر لها أربعة عوامل: الأول: وجود باحثين أكفاء يفرغون للعمل البحثيّ، وقراءة الواقع بعمق، والثّاني وجود مساحة واسعة من الحريّة في الحصول على بيانات كافية، وفي طرح نتائج العمل البحثي والنّقديّ مع الاستقلاليّة كباحث مستقل غير موجه ولا مؤدلج، غايته الإنسان والوطن والمعرفة، والثّالث وجود دعم ماديّ يتناسب مع عملهم البحثيّ، والرّابع وجود رؤية واضحة ودقيقة للمؤسّسة من جهة، وللعمل البحثيّ من جهة ثانية، وللمحاسبة والرّقابة من جهة ثالثة، حتّى لا تتحوّل ذاتها إلى بطالة مقنعة لا ثمرة لها.

كما أنّ هذه المؤسّسة أيضا سوف ترفد المجتمع بعد حين بمتحدّثين وباحثين لهم كفاءتهم ورؤيتهم العميقة، خصوصا في وسائل الإعلام المحليّة والخارجيّة، لا يتوقفون عند الاجتهادات الشّخصيّة، ولا عند الانطباعات القاصرة، ولا عند المصالح الآنيّة، بل لهم عمقهم المعرفيّ، وإدراكهم العميق للواقع وتحدّياته، وقدرتهم على التّفكيك والنّقد والتّحليل.

كما سترفد المجتمع ببحوث وكتابات وإصدارات لها عمقها في قراءة الواقع، يستفيد منها المعنيون في كافة الاتّجاهات التّقنينيّة والتّشريعيّة والخطابيّة والخدميّة والإعلاميّة، لا تتوقف – كما أسلفتُ – عند الاجتهادات الشّخصيّة، بل هي رؤية بحثيّة جماعيّة لها عمقها؛ ولما تملكه من بيانات واضحة ودقيقة، لهذا تخرج بنتائج لها دقتها وواقعيّتها.

وما حدث من جدل في الفترة الأخيرة حول بعض الكتّاب والمحلّلين، ففي الجملة يشكرون على اجتهادهم، وفي سدّ ثغرات كتابيّة وإعلاميّة، خصوصا في وسائل التّواصل الاجتماعيّ، وفي قنوات ومواقع من في الخارج خصوصا، لما أحدثه الحدث من وقع أليم وفريد في الوقت ذاته، ولكن لا يعني عدم وجود حالات سابقة متأثرة، ولكن حتّى اليوم لا توجد دراسات بحثيّة عميقة في الموضوع وغيره من المواضيع، أغلبها لا تتعدّى الاجتهادات الشّخصيّة، والرّؤى الفرديّة، لهذا قاعدة البيانات والقراءات عندنا – للأسف – في مثل هذه الجوانب ضعيفة جدّا.

ثمّ علينا أن ننظر إلى المستقبل، فالواقع هو كائن نعايشه كواقع، له تدافعه وثقله، هذا التّدافع والثّقل لا يقابل بتأملات فرديّة، أو انطباعات قاصرة، أو قراءات محدودة، أو غايات وخطابات مؤدلجة، بل لابدّ من الجمع بين العمق والقراءة من الدّائرة الواسعة، فهناك اقتضاءات لأيّ حدث لابدّ من الالتفاتة إليها، وقراءتها قبل قراءة الحدث ذاته، أو قبل وقوعه، بحيث نخرج بنتائج تمنع تكرار الأحداث السّلبيّة، أو لكي لا تتحوّل – لا قدّر الله – إلى تظاهرة أوسع، ولا تتمدّد بصورة أكبر، وهذا لا يتوقف عند القراءات السّطحيّة، ولا عند محاولة نسيان هذه الأحداث؛ لأنّ الأفكار لا تموت، ولكنّها تضعف لما يحجّم اقتضاءاتها، فمثل هذه الجماعات المتطرّفة لا تشتغل على وقوع الحدث، بل تستغل اقتضاءات الواقع لتوجيهها سلبا لحدوث الحدث، لهذا في نظري وجود مؤسّسة أو جهات بحثيّة عميقة لها ضرورتها لتفكيك مثل هذه الاقتضاءات وغيرها، ومواجهة الواقع بعقلانيّة كبرى، ووفق سننيّة وأدوات الواقع ذاته.

السابق
جواب حول تحصنين المجتمع من أفكار التّطرّف … حادثة الوادي الكبير نموذجا
التالي
لقاء حول التّعايش العمانيّ وأحداث الوادي الكبير
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً