جريدة عمان 1443هـ/ 2022م
سنّة الزّمن سنّة واحدة لا تتغير ولا تتبدل، واهتدى الإنسان عن طريق جريان الشّمس والقمر إلى تحديد أعوامه وأيامه، {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس/ 5].
وارتباط الإنسان بالشّمس والقمر في حسبان أعوامه وشهوره وأيامه ارتباط قديم، حيث أنّ سنّة جريان الشّمس والقمر سنّة لا تتغير ولا تتبدل، {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس/ 38 – 40]، لهذا كانت التّقاويم منها ما هو شمسيّ، ومنها ما هو قمريّ، ومنها ما هو شمسيّ قمري، إلا أنّ الرّابط بينها هو تسخير الزّمن في خدمة الإنسان، وعمارة الحياة.
واليوم هناك من التّقاويم ما لها من خصوصيّة دينيّة وقوميّة، وهناك تقويم إنسانيّ مشترك وهو التّقويم الشّمسيّ الّذي ربط اسمه بميلاد السّيد المسيح عيسى – عليه الصّلاة والسّلام -، إلا أنّه تجاوز هذه الخصوصيّة إلى كونه ميقاتا عالميّا تسير عليه غالب الدّول القطريّة اليوم، وتعتبره ميقاتا سنويّا لتسيير شؤون حياتها من مناسبات إنسانيّة وقطريّة، واجتماعات ولقاءات دولية، وحركات السّير والطّيران، ونحوها.
لهذا أصبح المجتمع الإنسانيّ اليوم شبه متحد في ميقات واحد، على اختلاف أطيافهم وأعراقهم وأديانهم وأقطارهم، حيث تجاوز خصوصيّاته إلى كونه عاما إنسانيّا متجدّدا، ليرتبط بالإنسان وهو يستغل قيمة الزّمن في عمارة الأرض وصلاحها.
ولهذا السّؤال المطروح سنويّا: ما موقع الإنسان من العام الجديد، حيث أنّ هناك الملايين من البشر المختلفين في هوّيّاتهم الكسبيّة، ويشكلون لوحة فنيّة متباينة ومتعددة ومتنوعة في الحياة على سطح الأرض، تجمعهم ماهيّة واحدة، ويشتركون في أرض واحدة.
إنّ العالم اليوم مع عيشه في قرية واحدة صغيرة؛ إلا أنّه أيضا يمر بمآسيّ عديدة، وعلى رأسها عدم تحقق المساواة والعدل في المجتمع الإنسانيّ الكبير، فهناك الملايين يعيشون تحت خط الفقر، والقليل من يتمتع بالغنى والاستقرار المعيشيّ، وهناك الآلاف من المشردين بسبب الكوارث الطّبيعيّة، ولأسباب الحروب والصّراع الإنسانيّ، مع محاولة الإنسان لوضع وثيقة حقوقيّة عالميّة واحدة، إلا أنّ المجتمع البشريّ لا زال تهيمن عليه الصّراعات الحيوانيّة، لتبعده عن قيمته الإنسانيّة الواحدة.
إنّ المجتمع الإنسانيّ اليوم يعيش حالة ازدواجيّة بين تقدّم معرفيّ وعلميّ حضاريّ تجاوز ما كان يعيشه الأولون بسنوات كبيرة، إلا أنّه لا زال يعيش صراعات سياسات وشخوص وطوائف تقترب به من الصّراع الحيوانيّ، لتبعده عن التّعقل الإنسانيّ، واستغلال المعارف الحضاريّة اليوم في تطور الجنس البشريّ، ومساواته في الانتفاع في هذا العالم الواحد بين الجميع.
إنّ العالم الإنسانيّ اليوم أمام مرحلة بحاجة فيها إلى التّعقل في تحقق الوحدة والكرامة الإنسانيّة، باعتبارها قيمة مرتبطة بالماهيّة الإنسانيّة الواحدة، حيث لا تتطغى الهوّيّات العرقيّة والسّياسيّة والدّينيّة والثّقافيّة على هذه الماهيّة الإنسانيّة، كما أنّ هوّيّة الدّولة القطريّة لابدّ أن ترهن بالماهيّة الإنسانيّة الواحدة، في دولة وطنيّة إنسانيّة عالميّة، فالدّول القطريّة دول إجرائيّة مرهونة بمظلّة إنسانيّة عالميّة واحدة، لا تتوقف عند مظلّة وثيقة حقوق الإنسان فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى دولة وطنيّة عالميّة مشتركة، غايتها حماية الجنس البشريّ على تفعيل هذه الوثيقة بشكل يقوم على المساواة والعدل، ويكون الفرد مكرّما إنسانيّا أيّا كان موقعه الجغرافيّ، وأيّا كانت دولته القطريّة.
لهذا ونحن لا زلنا في الثّلث الأول من القرن الحادي والعشرين، ونحن ندخل في عام شمسيّ إنسانيّ جديد، يشعر المرء فيه بما حقّقه الجنس البشريّ في صياغة وثيقة حقوقيّة إنسانيّة جعلت الجميع سواء، إلا أنّ الجنس البشريّ لم يتجاوز بعد النّفعيّات والصّراعات السّياسيّة والدّينيّة والأثنيّة، ولا زال عالقا أمام تحديات كبرى لتحقق المساواة والعدل في المجتمع الإنسانيّ على حدّ سواء.
هذا العام الشّمسيّ الإنسانيّ الجديد يحمل ذاته من التّحدّيات الكبرى أمام الاشتراك في نشر الوعي الإنسانيّ في العالم، حيث يشترك فيه المجتمع الإنسانيّ ككل، وقد أثمرت السّنوات الماضية ببوادر رائعة في الإيمان بهذا الوعي من كافة أنحاء العالم، الّذي سئم من دعوات النّفعيّة والكراهيّة والاتّجار بالبشر، واستغلال حاجات الشّعوب الضّعيفة.
إنّ التّحدي هذا رهين أجيال قادمة من حقّها أن يمهد الطّريق لها لترى هذه الثّمرة واقعا أمام فردانيّتها وذاتيها الإنسانيّة، فالوصول إلى هذه الغاية يحتاج إلى وعي أفقيّ أكبر، كما يحتاج إلى وعي رأسيّ أيضا، وأتصوّر أنّ الوعي الرّأسي بدأ ينتشر بشكل كبير، ومن أقطار متعددة، وأصبح الصّوت الإنسانيّ في رؤيته العقلانيّة ظاهرا من مختلف التّوجهات الدّينيّة والفكريّة والقطريّة.
لهذا زيادة الوعي الإنساني، وكسب العام الجديد ليكون منعطفا زمنيّا مضافا في الانتقال من الوعي الرّأسيّ إلى الوعي الأفقيّ يحتاج إلى المزيد من الجهد؛ لأنّه يؤدي إلى خلق الأفكار المتعلقة بالماهيّة والكرامة الإنسانيّة في الواقع العالميّ، والمجتمع البشريّ، وكلما ارتفع معدل خلق الأفكار الإنسانيّة الإيجابيّة كلّما ساهم في التّأثير على الجوانب الإجرائيّة والنّفعيّة، وفي تهذيب الهوّيّات الدّينيّة والسّياسيّة.
هذا الوعي الإنسانيّ لابدّ أن ينطلق من الماهيّة الإنسانيّة الواحدة، حيث لا تكون ذاتها رهينة نفعيّات يمينيّة أو يساريّة، سياسيّة أم دينيّة، والّتي لا زالت تساهم بشكل كبير في عرقلة الوعي الإنساني؛ حتّى لا تتأثر مصالحها الفئويّة والأثنيّة والذّاتية، فهي أن استخدمت الغلاف الإنسانيّ إعلاميّا؛ إلا أنّ ذلك لا يتعدى الصّورة الخارجيّة الّذي تظهر به أمام الآخر، بيد أنّ هذه الحالة سرعان ما تنكشف وتتلاشى إذا ما دوفعت بأفكار أكثر عمقا ودفعا بالجانب الأفقيّ في نشر الوعي في المجتمع البشري، ويكون حالة ملازمة له، ينظر إلى الآخر بذات النّظرة الّتي ينظر بها إلى نفسه، منطلقا من قاعدة “حبّ لأخيك ما تحبّه لنفسك”.
كما أنّ خلق الوعي الإنساني يلازمه زيادة التّحديات والصّعوبات، وهذه حالة طبيعيّة في سريان خلق الأفكار، فخلق الأفكار يواجهه تحديان: تحدي الرّفض، ويكون عنيفا بعلويّة السّلطة المستفيدة من الأفكار الشّائعة، والمستغلة للسّلطة في قمع من يخلق فكرا تراه تهديدا لمصالحها ليست الوطنيّة، بقدر ما هي مصالحها الذّاتيّة والنّفعية.
كما أنّ هناك تحدي التّحريف، وهذا أشدّ خطرا عندما تلجأ إلى تحريف ذلك تحت مظلّة الأفكار ذاتها، فتحرّف مصاديق وإجراءات القيم كالمساواة والعدل وقيم المواطنة والإنسانيّة، بما يخدم نفعيّتها وبرجماتيتها القاصرة.
لهذا المهتمون بالوعي الإنسانيّ أمام عام إنسانيّ جديد، لا زال يحمل في طياته من الصّراعات والحروب لأسباب أيدلوجيّة، أو لمصالح سياسيّة، ولا زال التّشريد وخط الفقر يزداد بشكل مخيف، وزاد من ذلك تداعياته فيروس كورونا، والّذي زاد من معدلات الفقر والبطالة والتّسريح والتّشريد، وهو من أكبر التّحديات أمام عالم قطريّ شبه منعدم فيه العدل في توزيع الثّروات في المجتمع البشري، ويزداد فيه معدلات الاتّجار بالبشر من جهة، ومعدلات العبوديّة الجديدة باسم العمل، وحرمان العمال من حقوقهم الإنسانيّة البسيطة والمشروعة.
لا أريد أن أضع الصّورة الظّلاميّة ونحن دخلنا في العام الشّمسيّ الجديد، بقدر ما هو ذكر للتّحدّيات، وعلاجها ليس علاجا قطريّا ملازما للجانب الإجرائيّ في دولة قطريّة ما، بقدر ما هو علاج إنسانيّ مربوط بقيم ماهيّة الإنسان الواحدة، لهذا المجتمع البشريّ بحاجة إلى جهد كبير من السّعي في نشر الوعي الإنسانيّ في خطيه الأفقي والرّأسيّ، لعل هذا العام الشّمسيّ الإنسانيّ الجديد يساهم بشكل كبير في خلق الأفكار الإنسانيّة باعتبار الماهيّة الواحدة، ويوجه الجوانب الإجرائيّة تحت مظلة القيم المشتركة، وما ذلك ببعيد.