المقالات النقدية

الشّيعة والمجوس

من أقبح الأشياء الّتي تحدث بين المختلفين أفرادا أو جماعات الفجور في الخصومة، وعدم العدل مع المخالف، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.

ومن هذه اتهام طائفة كبيرة من المسلمين أو بعضهم بأنّهم مجوس، لا لدليل؛ إلا لأنّ غالب أهل فارس اليوم يتبنون المذهب الشّيعيّ الإماميّ!!!

والمجوسيّة اختلف فيها وكيف دخلت إلى العربيّة، فقيل هي في الأصل مكوس، أي كلمة فارسيّة، ثمّ شاع بأنّ المجوس هم عبدة النّار، إلا أنّ المصادر الأولى مختلفة فقيل المجوسيّ هو الكاهنُ عند الأشوريّين وقُدامَى الفُرس، أي مكوسي مثل الحبر عند اليهود، والرّاهب عند الهندوس، والكاهن عند النّصارى، والعالم عند المسلمين.

وقيل هو الكاهن المخصوص بالسّحر، أي بمعنى السّاحر، وقيل هو المشتغل بالنّار في المعبد، وذلك لأنّ الزّرادشتيّة من الأديان التي تؤمن بوجود إله وفق ثنائية الخير والشّر، فهي لا تنكر وجود إله، وتؤمن باليوم الآخر، وبالثّواب والعقاب، وفق فلسفتهم في ذلك، ويعتبرون أنّ للنّار والماء رمزية، فالنّار والماء رمز الحياة، كما عند بعض الفلاسفة الماء والتّراب والهواء والنّار.

والحاصل في نظري لا توجد طائفة في الحقيقة في فارس تعبد النّار، والفرس غالبهم إمّا زرادشتي، والزّرادشتيّة لا يعبدون النّار كإله، كما أنّ الهندوس لا يعبدون البقر كإله، ومن الفرس مندائيون أو يزيديون، وهم موحدون أيضا.

وانتشار فكرة أنّ المجوس هم عبدة النّار حرفيا لا أدري أين مصدرها، ولعلها من الأخبار الّتي تناقلها النّاس ثمّ أخذها الفقهاء والمؤرخون على علاتها، كباقي الأخبار.

والآن لنسلّم أنّ المجوس هم عبدة النّار، وهذا هو الموجود في الذّهنيّة العربيّة والإسلاميّة عموما، فما علاقة الشّيعة بطوائفهم بالمجوس؟!!!

عندما تتأمل الشّيعة وتقرأ لهم وتجالسهم، تجدهم قوما يؤمنون بالله خالقا وإلها يعبد، وبمحمد نبيا، وبالقرآن كتابا، ويصلون صلاتنا، ويستقبلون قبلتنا، ويحجون بيت الله الحرام ويعظمونه، ويصومون رمضان ويجلونه، ويخرجون زكاة مالهم طيّبة بها نفوسهم، فكيف لنا بعد هذا أن نجعلهم مجوسا من عبدة النّار!!!

أمّا كونهم يتوسلون بالأموات فهذه مسألة فقهيّة وليست عقديّة في الأصل، تعود إلى أصل إلى قضيّة التّوسل بالمخلوقات أي غير الله، مع ربطها بالله وصفاته، والتّوسل بالمخلوقات بالمعنى العام، كالتّوسل بما أوجد الله في الوجود، كقولنا بحق الشّمس الّتي أجريت، ويندرج فيها قضّية التّوسل بالأحياء والأموات، أما الأحياء كرواية التّوسل بالعباس، وهي في الجملة أنّ الأغلبيّة على جوازها، ولكن الخلاف في التّوسل بالأموات والدّعاء عند القبور توسلا بهم.

فهذه المسألة اختلف فيها الفقهاء من كافة المذاهب، والدّارس لمذهب الشيعة تجدهم لا يختلفون؛ لأنّهم لا يعتقدون أنّ الميت ينفع أو يضر، فهو لا يجلب نفعا، ولا يدفع ضرا بذاته!!

وإن كنت شخصيّا أرى وأميل إلى القول بعدم جواز ذلك، لأنّ الميت لا يسمع لكي يستجيب لك لقوله تعالى: وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ، ولأنّ الميت مفتقر إلى الله، ولو كان نبيا أو وليا، ولأنّ الحكم بيد الله تعالى وحده لا شريك له، فهو ليس بحاجة إلى واسطة أحد، ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ.

ومع هذا لا أملك أن أكفر أمّة وأخرجها من الدّين، واجعلها من عبدة النّار، ومن دائرة أهل الشّرك والأوثان، فهذا من الفجور في الخصومة، كما أنني لا أملك أن أكفر الصّوفية لكونهم يتوسلون بالأموات، وأوزع صكوك الغفران، ولكن بيننا جميعا الحوار والجدال بالّتي هي أحسن، مع حفظ الود الإنساني بين الجميع.

كذلك كون بعض الشّيعية يتعصبون للقوميّة الفارسيّة، فهذا طبيعيّ، كما أنّ غالب المذاهب تتعصب للقوميّة العربيّة، والعديد من المالكيّة والإباضيّة يتعصبون للقوميّة الأمازيغيّة، والشّوافع في ماليزيا يتعصبون للقوميّة الملاويّة، فهذا شيء طبيعيّ، على أن لا يُلغى الآخر، ولا يعني من هذا أنّهم بتعصبهم هذا خرجوا من الدّين ودخلوا في دين آخر.

فالّتعصب للقوميّة العربيّة لا يقربنا إلى الله، وابتعادنا عنها لا يبعدنا عن الله، وإنّما يقربنا إليه تقواه وخشيته، كنا عربا أم فرسا أم غير ذلك، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.

من خلال ما تقدّم ندرك أن لا علاقة بين الشّيعة والمجوس، ولا ينبغي اتهام الآخر والتّنابز بالألقاب، وأن يكون الخلاف في دائرته الأخلاقيّة، وأن نسعي لتمكين المشتركات بيننا أينما وجدت، مع حفظ الكرامة الإنسانيّة، ورفع كلّ ما يعكر المحبة بين البشر والنّاس جميعا.

فيسبوك 1437هـ/ 2017م

السابق
أيام قليلة في القاهرة
التالي
(اللّاجئين) العرب والابتزاز الدّينيّ والإنسانيّ
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً