الحوارات

حوار صحفي لوكالة الأنباء العمانية مع الباحث بدر بن سالم العبري

1434هـ/2022م

وكالة الأنباء: المتتبع لأعمالك الأدبية والفكرية يجد ذلك الاهتمام البالغ بالإنسان “فكرا”، بالاتجاه إلى معاني القيم التي دائما ما تتقاطع مع أفكاره، لماذا هذا التوجه؟ ماذا عن ماهيته وحقيقة سلوكه؟

العبري: ابتداء أشكر وكالة الأنباء العمانيّة، وللأستاذ خميس الصّلتيّ على إتاحة هذه الفرصة، بلا شك أنّ الإنسان جزء لا ينفصل عن الكون وقيمه وسننه، فمن حيث ناحيته الوجوديّة مرتبط بذات ماهيّته، وهذه الماهيّة لها ارتباط بقيم ملازمة لوجوده، فكونه إنسانا مكرّما قيمة ملازمة من حيث ذاتيّته وماهيّته، كما أنّها مطلقة لا تتغير بالكسب اللّاحق، والّذي سيدخل بهذه الماهيّة إلى عالم الهوّيّة، أي تكوّن الاختلاف الكسبي، فالاختلاف نوعان: تكوينيّ وكسبيّ، أمّا التّكوينيّ كاختلاف اللّون والشّكل، والكسبي كاللّغة والوطن والدّين والفكر، ويجمل القرآن هذين الاختلافين في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} [الرّوم/ 22].

وعليه الاختلاف الكسبيّ المرتبط بالهوّيّات لا ينزع قيم الماهيّة الواحدة في الجنس البشريّ، فاختلاف الدّين واللّغة والعرق لا يرفع كرامة إنسانيّة أحد ما، وتكوّن القيم مربوطة باعتبار هذه الماهيّة كالحريّة والعدل والمساواة، وما بعدها من قيم أخرى مضافة كذلك كالعلم والكرم والشّجاعة مثلا.

وإذا كان مدار القيم مرتبطة بهذه الماهيّة فكذلك مصاديقها، فالعدالة مصداق للعدل، وحفظ النّفس أيّا كانت مصداق لكرامة الإنسان، فهذه الأمور الإجرائيّة تجعل البشر سواء، لا يؤثر فيهم الخلاف الكسبيّ.

لهذا يأتي سؤالك: لماذا هذا التّوجه؟ وجوابه لما تراه من تقديم الهوّيّات على الماهيّة من جهة، والانغلاق حولها من جهة ثانية، ممّا يجر العالم إلى التّعصب والصّراع والأنا، فضلا عن إشاعة الكراهيّة، وما ينتج عنها من حروب ودمار وأكل خيرات الشّعوب، لهذا يجب ابتداء الاقتراب من هذه الماهيّة.

وعليه إذا انضبط هذا الأمر سينضبط ما دونه من مصاديق وسلوكيات، ونستطيع التّعامل بإنسانيّة وعقلانيّة حتّى مع النّص الدّيني الأول، فضلا عن النّصوص التّأريحيّة، والقراءات التّراثيّة، والاجتهاد الإنسانيّ عموما.

وكالة الأنباء: هل يعني أنّ المصاديق ظرفية، ومرتبطة تاريخيا بالإنسان؟ وكيف نتعامل معها اليوم؟

العبري: نعم المصاديق العديد منها إجرائيّة، والأصل في الأمور الإجرائيّة الظّرفيّة، وفي التّأريخ الإنساني العديد من التّجارب البشريّة الّتي نتج عنها مئات الاجتهادات الظّرفيّة، فعلينا أن نبحث عن روح هذه الاجتهادات لنقترب من القيم ثمّ الماهيّة، فالإنسان الوجوديّ واحد من خلال قيمه الوجوديّة، إلا أنّ تغير الاجتهادات والمصاديق شيء طبيعيّ ملازم لتطور الإنسان، وعليه اليوم نحن نتعامل مع ذات الإنسان، ولكن الإنسان اليوم يعيش في عالم يختلف عن عالم قبل ألف سنة، فلابدّ أن تكون هذه الأمور الإجرائيّة مسايرة لهذا التّغير، وإلا سيحدث التّخلف والتّنافر والتّناقض.

وكالة الأنباء: “فقه التطرف”، من الكتب النوعية التي تعرضت للكثير من القضايا المعاصرة وجاء أوضح واقع التسامح الفكري الذي يعيشه إنسان عمان على وجه الخصوص، قرّبنا من هذا الكتاب؟

العبري: كتاب فقه التّطرف في جملته نتيجة حوارات مع الشّباب على الفيسبوك، مع مقالات متناثرة، جمّعته ليشكل رؤية واحدة متكاملة حول التّطرف، من خلال الضّوابط الخمس: الفكر والنّفس والعقل والمال والعرض، وما يترتب على ذلك من مسائل محكومة بالذّات الإنسانيّة، منطلقا من حق الفكر، وحق النّاس في الاختلاف في ذلك، ولهذا يرتبط بحق النّفس، من حيث حق الحياة والتّمتع بها، أي حق البقاء الوجوديّ والعدل الوجوديّ، وعليه الاختلاف في الدّين واللّغة والعرق اختلاف يجري في مجراه الطّبيعيّ، ولا يؤثر على الحقين السّابقين.

وعلى هذا ناقشت العديد من الجوانب التّراثيّة الّتي يطرحها الشّباب، كقضيّة الولاية والبراءة، وتكفير المختلف، وآية السّيف والجهاد، وتقسيم النّاس ثلاثة أقسام وما يترتب على ذلك من أحكام.

كما تطرقت إلى العديد من الجدليات الّتي أثيرت في الفضاء العماني حينها، منطلقا من ضرورة التّفريق بين النّص الدّينيّ ونصوص الرّأي المتحركة، وهي نصوص ظرفيّة لا مطلقة، كنصوص اللّحيّة واللّباس ورؤية الأهلّة والصّور والتّماثيل والغناء ونحوها.

وفي آخر الكتاب تحدّثت عن التّعايش، وأرى لفظة التّعايش أدق من التّسامح، لأنّ التّعايش مع العيش وهو الشّيء المشترك، والتّسامح قيمة مضافة متأخرة أقرب إلى الأخلاق السّلوكيّة، والقرآن استخدم لفظة التّعارف وهو دقيق أيضا، وضربت للتّعايش أمثلة من التّراث، مع إسقاطات من الواقع.

وكالة الأنباء: كيف وجدت نتائج كتاب “فقه التّطرف”، ورؤيته ورسالاته؟ وهل تراجعت عن بعضه اليوم؟

العبري:  الحمد لله كان التّجاوب رائعا مع الكتاب، من داخل وخارج عمان، وكان الطّلب عليه جيّدا، وتقريبا نفدت طبعته الأولى، وحاليا أعدّ الطّبعة الثّانية مع زيادات من الحوارات، كما هناك من كتب حوله، وعمل له قراءة نقديّة ووصفيّة، مثل قراءة للكاتب الجزائريّ مراد غريبيّ بعنوان: “من ضيق التّطرف إلى فضاء التّعارف”، ونشرتفي مجلّة الكلمة الجزائريّة، وقراءة للكاتب العماني أحمد النّوفليّ بعنوان: “قراءة في كتاب فقه التّطرف”، ونشرت في صحيفة شؤون عمانيّة.

أمّا: هل تراجعت عن بعضه اليوم؟، بلا شك أنّ الإنسان يتطور في فكره ونظرته، ولطبيعتي أبقي الشّيء كما هو، وحاليا أرى ضرورة الاشتغال على المنهج قبل المصاديق، ولهذا لي أعمال حول الهّوّيّة والظّرفيّة، وحول الأنسنة وعلاقتها بالنّصّ الدّينيّ، ولعل هذا يعطي رؤية شموليّة أكبر.

وكالة الأنباء: القيم الخلقية والإنسان، هو نتاج فكري تكوّن ليكون ضمن “كتاب”، وقد تحدث عن الكثير من القيم والإسقاط القرآني، ماذا عن المحفزات التي أخذتك للبحث في تلك القيم؟ وكيف وجدت حقيقتها وخصوصيتها؟

العبري: هذا الكتاب أسبق من فقه التّطرف، أصله مقالات في جريدة عمان في رمضان 1432هـ/ 2011م، حيث رأيت الحديث يومها ينصبّ في ربط القيم بالهوّيّة لا بالإنسان، مع استخدام الدّين في ذلك لتحريف هذه القيم لأغراض سياسيّة أو دينيّة أو مجتمعيّة، فكتبت ثلاثين مقالا بعدد أيام رمضان، وناقشت القيم من خلال مصاديق وأخلاقيات القرآن الكريم، فتحدّثت مثلا عن التّوحيد والحريّة والأخوّة والأمانة والرّحمة والتّعاون والوحدة والعدالة والمساواة والشّورى وغيرها، فلهذا القيم حقيقة إنسانيّة، والأخلاق مصاديق حسنة أو سيئة مرتبطة بخصوصيات وهوّيّات.

وكالة الأنباء: “الوعي بالآخر” هي رسالتك الفكرية الدائمة، كما أن انفتاحك على الكثير من القيم الإنسانية خير دليل على ذلك، ولك العديد من الأعمال التي رصدت هذا الاهتمام، لنتعرف على مضامين هذه الرسالة الفكرية؟

العبري: في الحقيقة اشتغلت من بعد عام 2017م على جهتين: جهة اللّقاءات والحوارات المسجلة من خلال القناة اليوتيوبيّة “أُنْس”، وسجلتُ أكثر من خمسائة مادة، مع كافّة الأديان والمذاهب والتّوجهات اليمينيّة واليساريّة، ولهذا سمّيتها أُنْس أي يؤنس بها وتقترب من الإنسان.

والجهة الثّانية جهة السّفر ولقاء الآخر ومحاورته، وهنا كانت رحلات، ارتأيت أن تكون تحت مشروع إضاءة قلم على حلقات وفق موضوع مشترك للحلقة الواحدة، فكانت الحلقة الأولى تضمنت التّعايش، وهذه ركزت فيها على الدّول تحت الخط الإسلاميّ، مع المذاهب الإسلاميّة عموما، فكانت ابتداء من الرّحلة القميّة في إيران 2017م، والرّحلة الكويتيّة 2018م، كما أضفت إليها الرّحلة الحجيّة أي إلى الحج.

والحلقة الثّانية، ونرجو أن تكون حاضرة في معرض مسقط للكتاب المقبل، وستكون حول التّعارف، وهذه أشمل، حيث كانت لقاءات مع الأديان كالفيدس والهندوس والصّابئة المندائيين والزّرادشت واليهود والمذاهب المسيحيّة القديمة والمعاصرة وغيرها، بجانب بعض التّوجهات الإسلاميّة، وتتضمن الرّحلة الشّيكاغيّة في أمريكا 2018م، والرّحلة الظّفاريّة 2019م، والرّحلة البحرينيّة 2019م، والرّحلة التّكساسيّة في أمريكا 2019م.

كما أرجو أن تكون الحلقة الثّالثة حول الإنسان، وبدأتها بالرّحلة المصريّة 2021م، وسأعلن عن الرّحلات الأخرى في حينه.

وحتّى ما يتعلق بحوارات القناة منه ما أضيف إلى إضاءة قلم، ومنه عمل مستقل، أصدرنا قريبا كتاب الإنسان والماهيّة: محاورات في الدّين والفلسفة والشّأن الإنسانيّ، مع المفكر صادق جواد سليمان، وقيد الطّبع كتاب من هم الزّيديّة، حول المدرسة الزّيديّة في اليمن، ومنه نشرته مجلات وصحف في داخل وخارج عمان مثل مسارات في السّعوديّة، والمرقاب في ألمانيا.

وعموما الهدف من ذلك أن نربط بين الجانب النّظريّ والجانب العمليّ، وجميعه يصبّ في الوعي الإنسانيّ.

وكالة الأنباء: هل لديك إصدارات تصبّ في الجانب البحثي عموما، والجانب الإنساني خصوصا بعد فقه التطرف؟

العبري: نعم، أصدرت عن طريق الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء كتاب الجمال الصّوتي:ّ تأريخه ورؤيته الفقهيّة 2019م، مراجعة في النّص الدّينيّ حول الغناء والمعازف، وهذا أكثر كتبي انتشارا وطلبا، بدليل لم يتق منه إلا نسخ معدودة من طبعته الأولى، وهو أول كتاب عمانيّ يدرس القضيّة من خلال إسقاط النّص الدّينيّ على قيمة الجمال، وهي قيمة إنسانيّة مضافة.

كما صدر لي كتاب أيام رمضان عن مكتبة مسقط 2019م، ويتحدّث عن الجانب المقاصدي والإنساني في آيات الصّيام في سورة البقرة، كما يشمل أيضا بحث زكاة الفطر بين حاجة الفقير وحرفيّة النّص، ومفطرات الصّيام المعاصرة.

كما نشري لي بعض الأبحاث المحكمة وغير المحكمة كبحث الحوار الثّقافيّ ودوره في تعزيز التّماسك الاجتماعيّ، مقدّم لمنظمة الإيسسكو، نشر مجلّة التّكوين العمانيّة 2019م، وبحث مستقبل العالمين العربيّ والإسلاميّ في ضوء المتغيرات الجارية بالمنطقة والعالم [إحياء الهوّيّة ومشترك الأنسنة نموذجا]، مقدّم لمركز الدّراسات التّخصصيّة بين الحوزة والجامعة في النّجف بالعراق، ونشرته مجلّة الاجتهاد والتّجديد في لبنان 2021م، وبحث أبو طالب بن عبد المطلب رؤية في الأدبيات الإباضيّة، مقدّم للمجمع العالمي لأهل البيت في مدينة قم بالجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، ونشر في مجلّة الحياة الجزائريّة 2021م.

وكالة الأنباء: هل لديك أعمال جديدة تشتغل عليها، وترى النّور قريبا؟

العبري: بالنّسبة للشّق الثّاني من السّؤال، نعم؛ صدر لي كما أسلفت الإنسان والماهيّة: محاورات في الدّين والفلسفة والشّأن الإنسانيّ، مع المفكر صادق جواد سليمان، متزامنا مع كتاب سلامة الفكر بسلامة منهج التّفكير، تجميع لمقالات صادق جواد من 2000 وحتّى 2020م، جمّعها الأستاذ سعيد بن سلطان الهاشمي، وللمفكر صادق جواد رحمه الله ثلاثة مشاريع أخرى نرجو أن ننهيها على نهاية 2022م.

كما أسلفت أرجو أن يصدر لي قريبا كتاب التّعارف، تعريف بالذّات، ومعرفة بالآخر، إضاءة قلم (الحلقة الثّانية)، وهو أول كتاب عماني يتحدّث عن الأديان من خلال أصحابها، مع فوائد فكريّة وفقهيّة ومكانيّة وتأريخيّة، وأعمل حاليا على كتاب الهوّيّة في عالم متغير، وكتاب الأنسنة والنّص الدّينيّ، وكتاب فلسفة الدّولة، مع غيرها من الأبحاث، كبحث لاهوت الرّحمة في ضوء الفردانيّة: جدليّة الماهيّة والهوّيّة، بجانب بعض التّحقيقات لكتب التّراث العماني.

السابق
بحث: لاهوت الرّحمة في ضوء الفردانيّة جدليّة الماهيّة والهوّيّة
التالي
علم الكلام الجديد
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً