المقالات الإجتماعية

سياحة جامع السّلطان قابوس الأكبر وخطوة في مجال التّصحيح

جريدة عُمان، 21 يناير 2025م

السّياحة الدّينيّة من أهم أنواع السّياحة في العالم لا تقلّ أهميّة عن مثيلاتها من أنواع السّياحة الأخرى، وقد كتبتُ مقالة سابقة في جريدة عُمان بعنوان: السّياحة الدّينيّة في عُمان، وممّا ذكرتُ في مقدّمته أنّ “السّياحةُ الدّينيّة بما تحمله هذه المفردة من أبعاد روحيّة وطقوسيّة، وآثار ماديّة كدور العبادة والنّقوش والمقابر، وتأريخ ديني عريق، وتنوع دينيّ ومذهبيّ، ومعارف طقوسيّة وكلاميّة وعرفانيّة، وتصوّرات وأساطير وشيء من الخرافة، لما تشكله الذّاكرة الدّينيّة من تراكمات روحيّة وطقسيّة لأزمنة موغلة في القدم، ومحاولة مبكرة لفهم الوجود، وتشكل العلاقات المجتمعيّة، فلها تأثيرها على الفنون والعادات والتّقاليد، كعادات الزّواج والولادة والدّفن والنّواح وغيرها”.

ولأني كثير التّردّد على جامع قابوس الأكبر بمحافظة مسقط، خصوصا على مكتبته العامرة بأكثر من خمسين ألف عنوان حتّى الآن، وأيضا سبق لي أن كتبت عن هذه المكتبة بشكل سريع؛ أرى في هذا المعلم الدّينيّ حضورا واسعا من السّياح من العالم، ومنه العالم العربيّ، ولا يكاد زائر يزور عُمان إلّا ويأخذ جولة في الجامع، إلّا أنّه لم يكن يوجد هناك تنظيم واستثمار سياحيّ حقيقيّ لهذا المعلم، وأحيانا تسمع الصّراخ من هنا وهناك، وفيه حديقة جميلة يمكن أن تستثمر في مقهى، ومكان للتّصوير والإبداع، كما رأيته في حديقة ضريح الشّاعر الفارسيّ الشّهير حافظ الشّيرازيّ (ت 792هـ/ 1390م) في شيراز بإيران.

كما نجد استغلالا للسّائح من قبل بعض الشّركات السّياحيّة، وأحيانا ينقلون معلومات ومفاهيم مغلوطة لعدم اطّلاعهم وتخصّصهم، كذلك من قبل بعض سيارات الأجرة، والّتي تستغلّ السّياح، فتنقل صورة سيئة عن عُمان، وكنت أرجو لكون هذا الجامع أكبر معلم دينيّ في عُمان، وبوابة السّياحة الدّينيّة في السّلطنة، أن يرفق بمتحف يعرّف بالثّقافة الدّينيّة في عُمان قديما وحديثا، وبتعدّدها الدّينيّ والمذهبيّ، وبتسامحها وتعايشها، مرفقا بالصّور والنّقوش والمخطوطات والرّسائل، وأن يكون بوابة للسّائح لزيارة المعالم الدّينيّة الأخرى في البلد.

وأسعدني ما وجدته مؤخرا من تنظيم لهذا الجامع، من قبل الجهة المختصّة، وتشجيعها للشّركات الصّغيرة، مع تعجبي من الجدل السّلبيّ الّذي شاهدته في بعض وسائل التّواصل الاجتماعيّ، وقد قرّرت الذّهاب بنفسي، وقراءة الواقع عن قرب، فأدركت أنّ العديد ممّا تسمعه في وسائل التّواصل ليس صحيحا، والعديد من الكلام عن عجل، وعن عدم تثبت وتأنيّ، ولا أريد الدّخول في النّيّات، فقد يكون صادقا، لكن يحتاج إلى تثبت وتأني قبل التّسرع في إطلاق الأحكام.

شاهدت فتية يقتربون من أربعين موظفا، يتحدّثون بما يقارب عشر لغات، معهم أفواج من السّياح بالعشرات يوميّا، ومنظّمون في أفواج منتظمة، وبطرق واضحة، يحملون ثقافة واسعة عن المعلم ومرافقه، وعن الثّقافة الدّينيّة في عُمان، وعن نقوشها وفنّها، فلا استغلال لسائح، ولا فوضى في زيارة المعلم، ولا معلومات خاطئة توصل إليهم، مع تدريب القائمين بالتّفويج السّياحيّ على حسن المعشر، وجميل الخلق، فينقلون صورة حسنة عن هذه البلاد، لهذا ما رأيته كانت خطوة مهمّة في مجال تصحيح المسار، فليس الخطأ أن تأتي متأخرا، لكن الخطّأ أن تظلّ في مكانك ولا تتقدّم لتصحيح الخطأ.

كما سمعت منهم أنّ المشروع لا زال في أيامه الأولى، وهناك برامج سياحيّة للمعلم، كتوفير سماعات ترجمة مباشرة، وتوفير ما يتناسب في السّياحة من مقهى متطوّر وتصوير وملابس وعيادة متنقلة وعناصر السّلامة وغيرها، فضلا عن توفير فرص عمل جديدة، وخلق وظائف للباحثين، وجميع الكادر من العمانيين أنفسهم، ومن جيل الشّباب، وهذا يعطي صورة حسنة للجانب السّياحيّ، وفي الوقت ذاته استثمار مثل هذه المعالم هي الصّورة الحسنة، بدل العشوائيّة، وسوء التّنظيم، فضلا عن سوء استغلال مثل هذه المعالم.

إنّ تفعيل الجانب السّياحيّ لهذا المعلم يعطيه صورة متكاملة، ففي المنظور الجمعيّ يقتصر عند الصّلاة والجمعة، بيد أنّه واقعا أوسع بكثير، ففيه – كما أسلفت – مكتبة من أضخم المكتبات في عُمان من حيث جودة العناوين، وما توفره من جاهزيّة للباحثين، يقصدها باحثون من عُمان وخارجها، وفيه قاعة لطالما شهدت فعاليّات ومؤتمرات وندوات محليّة ودوليّة، وملحق به مركز ومعهد للدّراسات الإسلاميّة والشّرعيّة بجانب المواد الأساسيّة، وفيه مركز للتّعريف بالإسلام وسماحته وتعايشه، كما فيه حديقة غنّاء تضفي جمالا وبهاء للموقع، كلّ هذا إذا أضيف إليه متحف يروي ذاكرة عمان الدّينيّة، وإذا ألحق به زوايا للإبداع والفنّ والرّسم والنّقش، خصوصا في الجوانب الدّينيّة والإسلاميّة، ومقاهي للحديث والمثاقفة، وأماكن تصوير للذّكرى والتّوثيق، جميع هذا يعطيه صورة سياحيّة متكاملة، وجذبا أكبر للسّياحة.

إنّ تفكير العقل الجمعيّ في تنشيط الثّقافة السّياحيّة، كما شاهدناه في بعض الحارات العمانيّة؛ لهي حالة صحيّة، وتحتاج إلى دعم مجتمعيّ، كان رسميّا أم أهليّا، هذا لن يخلو من أخطاء، لكنّه الصّورة الصّحيحة لرقيّ وتطوّر المجتمع سياحيّا، كما أنّ تشجيع الشّركات الصّغيرة والمتوسطة، يساعد في خلق وظائف أفقيّة تساهم في دوران المال بشكل إيجابيّ، وتوسع من دائرة الأمان المعيشيّ، وهذا ما نلحظه اليوم في جامع قابوس الأكبر، فعلينا أن نعطي الشّباب شيئا من الثّقة، وشيئا من سعة تجربة المحاولة، وأن لا نكون مطلقا عنصر تذمّر وتنمر، مع الحالة السّلبيّة الّتي لا تتوافق والحالة الإيجابيّة الّتي ينبغي أن تصاحبنا في مثل هذه الجوانب التّصحيحيّة.

السابق
الدّولة والسّلفيّات الدّينيّة والمذهبيّة
التالي
مؤسّسة بيت الزّبير والإصدارات الفلسفيّة والنّقديّة
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً