المقالات الدينية

يوم عرفة والعقول الثّلاثة

جريدة عمان، الاثنين 18 ذو الحجّة 1445هـ/ 24 يونيو 2024م

تتكرّر جدليّة يوم عرفة وعيد الأضحى في عمان بين فترة وأخرى، فهناك من يحاول أن يجعلها في الإطار الطّائفيّ، وكأنّ هناك صراعا بين الطّوائف المذهبيّة في عمان، أو محاولة لفرض مذهب على آخر في طقوسه الدّينيّة والتّعبديّة، وهناك من يقرأ الحدث بضبابيّة دون تفكيك له، فيقع في إطلاق أحكام عموميّة لا علاقة في العديد من جزئياتها أو بعضها بالواقع.

في نظري لقراءة القضيّة عن قرب وبعقلانيّة علينا أن نمايز بين ثلاثة عقول: العقل الجمعيّ، والعقل الفقهيّ، والعقل العلميّ، وأمّا العقل الجمعيّ فهو أقرب إلى صورة الواقع المحسوس من الفقه أو العلم، فقد ينقد الطّرق الّتي يمر عليها ولو لم يفقه علم الهندسة، ويحكم على ما يعايشه من تطبيب ولو لم يكن متخصّصا أو ضليعا في الطّب.

لهذا قبل مائتين سنة مثلا، لمّا يبدأ صوم رمضان يتصوّر العقلُ الجمعيّ العالمَ جميعا في هذه اللّحظة بَدَأ الصّيام معه، وقد يكون من في قرية أخرى لا تبعد عنه كثيرا لم يبدأوا صيامهم بعد، فكذلك لمّا يكون في يوم التّاسع من ذي الحجة يحضر في وجدانه أنّ حجّاج بيت الله الحرام في هذه اللّحظة يقفون في صعيد عرفات، ولكن في الواقع قد يكون عندهم الثّامن، وقد يكون لديهم العاشر، وكما فقهت حتّى سابقا في مكّة لم يكن النّاس يقفون في يوم واحد، وقد يُعيده بعضهم احتياطا، وظهرت في الفقه مقولة “الخطأ في يوم عرفة مغتفر” لأجل أن يقف النّاس معا في يوم واحد على صعيد عرفات، حتّى جاءت الدّولة السّعوديّة، فوحدتهم سياسيّا على وقفة واحدة، ومنعت تعدّد الوقفات.

أمّا اليوم فلا يمكن عقلا تصوّر ذلك؛ لأنّ الإفاضة إلى منى يوم الثّامن، والوقوف بعرفة يوم التّاسع، ثمّ الإفاضة ليلا إلى مزدلفة، وما يعقبه من أعمال النّحر والتّشريق، كلّ هذا يعايشه العقل الجمعيّ من خلال البث المباشر، فأصبحت الصّورة الذّهنيّة عالقة في تصوّره وتصديقه لها من خلال الإعلام المشاهد بصورة حيّة، ولهذا ارتأى غالب العالم الإسلاميّ متابعة أم القرى في هذا الأمر؛ لأنّ الجانب السّياسيّ كان مرجحا لهذه الحالة، سواء استند إلى رأي فقهيّ أو علميّ أو لم يستند واقعا، عدا دول إسلاميّة أخرى غلّبت الجانب الفقهيّ والعلميّ فيها على العقل الجمعيّ، وهي أقلّ عددا، وكانت هذه الحالة مؤثرة في الرّأي السّياسيّ.

وأمّا في عمان ففي فترة مبكرة لأكثر من عقدين كانت تميل سياسيّا إلى متابعة أم القرى في ذلك، ولكنّه بعد عام 2008م حدث اضطراب في القرار السّياسيّ المتمثل في وزارة الأوقاف والشّؤون الدّينيّة، فتارة تغلّب متابعة أم القرى، وتارة تتبع الجانب الاستقلاليّ فقهيّا، ثمّ أنّها سابقا وضعت نفسها في سعة من الأمر، فلم يكن هناك لجنة تبث على الهواء كلجنة رمضان، وإنّما تترك الأمر لما فيه مصلحة، لهذا لم يكن هناك جدل أو اضطراب خصوصا قبل 2008م، وتناغم العقل الجمعيّ من أيّ مذهب كان مع القرار السّياسيّ في الجملة.

هذان الأمران – أي بث الإعلام الحيّ، والعادة على اتّباع عشر ذي الحجّة حسب إعلان السّعوديّة – جعل العقلَ الجمعيّ ينكمش على حالة واحدة، غير قابلة صوريّا ومصداقا ذهنيّا على تصوّر حالة ذهنيّة أخرى، وهذا ليس في عمان فحسب، ففي عام 2001م حدث جدل كبير مع المسلمين القاطنين في أمريكا، مع بعد أمريكا جغرافيّا عن مكّة، حيث صادفت وقفة عرفة في مكّة 4 مارس، وعيد الأضحى 5 مارس، بينما انقسم المسلمون في أمريكا إلى فريقين: فريق رأى أنّ الوقفة فلكيّا حسب موقع أمريكا يوافق 5 مارس، والعيد 6 مارس، واحتجّ هؤلاء باختلاف المطالع، بينما ذهب فريق آخر أنّ الحجّ عرفة، وهذا مرتبط بمكّة، فالاختلاف جائز في عيد الفطر، ولكن لا يجوز أن يكون ذلك في عيد الأضحى، فحدث جدل كبير بينهم، فأرسل الطّرفان رسالة إلى الشّيخ يوسف القرضاويّ  (ت 1444هـ/ 2022م) ليحكم بينهم، فأجاب: “إنّ يوم عرفة إنّما هو للحجّاج، ولو كان هو اليوم الثّامن أو اليوم العاشر في بلدهم، وقد نصّ الفقهاء على أنّ الخطأ في يوم عرفة مغتفر، ولو وقف الحجيج يوم الثّامن خطأ، فإنّ حجّهم صحيح ومقبول، ولكن لا يجب على جميع المسلمين أن يتبعوهم في هذا الخطأ، بل كلّ يتبع بلده الّذي يعيش فيه، وسلطته الشّرعيّة”، كما أجاب أيضا: “فكم نحبّ للمسلمين أن يتفقوا في يوم صومهم ويوم فطرهم، ويوم حجّهم الأكبر، ولكن جرت سنّة الله أن يختلف النّاس …. إننا إذا لم نصل إلى وحدة المسلمين في العالم حول هذه الشّعائر؛ فلنحرص على وحدة المسلمين في كلّ بلد، بحيث يتبعون سلطتهم الشّرعيّة الّتي ارتضوها …”.

أمام العقل الجمعيّ – وهو الغالب لطبيعة البشر – يكون العقل الفقهيّ، والعقل العلميّ، وقد كتبت عنهما في أكثر من مناسبة، آخرها في جريدة عمان بعنوان:  “الأشهر القمريّة وجدليّة الهلال”، ويمكن أجمال ذلك أنّ الخلاف فيه على ثلاثة أوجه، الوجه الأول من حيث المطالع، فهناك من يرى اتّحاد المطالع، وآخرون يرون اختلاف المطالع، ومنهم من يرون اختلاف المطالع في المناطق البعيدة عن بعضها، ومنهم من يرى اختلاف المطالع في المناطق غير المشتركة في جزء من اللّيل أو غالبه؛ والوجه الثّاني الاشتراك في أصل الرّؤية بالعين الباصرة تعبّدا، فهناك من يرى عدم جواز إثبات الأهلة تعبّدا بغير الباصرة كالتّلسكوب والمكبرات، ومنهم من يرى جواز ذلك استئناسا لا تعبّدا، ومنهم من يرى جواز ذلك  تعبّدا وإثباتا، والوجه الثّالث باعتبار العلم أو الحساب الفلكيّ، ففريق يرى بدعيّته وظنيّته ولا يجوز استخدامه تعبّدا، ومنهم من يرى قطعيّته لكن لا يعتدّ به في رؤية الهلال إثباتا ولا إنكارا، وفريق يرى الاعتداد به إنكارا لا إثباتا، ومنهم من يرى الاعتداد به إثباتا وإنكارا، وهؤلاء اختلفوا هل باعتبار الولادة، أم باعتبار المكث بعد الغروب، أم باعتبار المكث والقدرة على رؤيته بالباصرة أو المحدبة.

وأمّا العقل العلميّ فتارة يتزاوج مع العقل الفقهيّ كما أسلفنا آنفا، وتارة يستقلّ عنه، فهناك من التّقاويم من تعتمد الولادة كتقويم أم القرى، وهناك من التّقاويم من تجمع بين المكث وإمكانيّة رؤيته كالتّقويم العمانيّ.

وعلى هذا القرار أو الرّأي السّياسيّ في غالب العالم الإسلاميّ بالنّسبة لعيديّ الفطر والأضحى ووقفة عرفة على تغليب وحدة المطالع، ولو أنّ الرّأي الفقهيّ الرّسميّ مخالف لذلك، ولكن من باب تحقّق مصلحة الوحدة الشّرعيّة في مظاهر التّعبد كرمضان والعيدين، فيتبعون إعلان المملكة العربيّة السّعوديّة، وإعلان السّعوديّة قائم على رؤية الباصرة ظاهريّا وفقهيّا، وليس باعتبار تقويم أم القرى، وهؤلاء غالب العالم العربيّ والإسلاميّ، ومنهم من يرى الاستقلاليّة حسب اختلاف المطالع، فلكلّ بلد رؤيته، اعتمد على الباصرة أم جمع بينها وبين الحساب، كما في غالب دول شرق آسيا، وفي عمان والمغرب، وكانت الجزائر ترى بهذا ثمّ أخذت بالقول الأول، ومنهم من يعتمد الحساب الفلكيّ إثباتا وإنكارا كما يبدو الحال في تركيا، وكانت ليبيا في عهد القذافيّ على هذا الرّأي، وبعد الثّورة أخذت بالرّأي الأول، ومن الشّيعة من يرى هذا سابقا محمّد حسين فضل الله (ت 1431هـ/ 2010م)، وحاليا كمال الحيدريّ، وإن كان وضع الشّيعة الإماميّة في الاتّباع حسب التّقليد، لكن من حيث الجانب الرّسميّ حسب رؤية الدّولة كما في إيران والعراق.

وعلى هذا الرّأي أو القرار السّياسيّ ليس واحدا في العالم الإسلاميّ، كما أنّ العقل العلميّ على دقته يكون أحيانا متأثرا بالرّأي الفقهيّ، وعليه ما حدث في عمان في عيد الأضحى الأخير أي 1445هـ لا علاقة له بالطّائفيّة، ولا ينبغي جرّ القراءة إلى البعد الطّائفيّ، وإن كان الفقهاء قديما وحديثا اتّفقوا على طاعة الحاكم أو الجهة الشّرعيّة المتبعة في هذا، خلافا للإماميّة الّذين قالوا باتّباع المرجع، ومع ذلك كحالة ظهوريّة لديهم يكون وفق ما قرّره الوليّ الفقيه كما في إيران، وكحالة فرديّة لكلّ مرجعيّته.

ومن المزعج أيضا هذه العموميّة في قراءة الحدث بلا تأصيل، وإن كنت شخصيّا أرى أنّ العلم لو ترك المجال له لخلّص العالم الإسلاميّ من هذه الآراء المتباينة، فإذا اتّفق العلم ذاته على معيار واحد لكانت له كلمته، ولكن كما يبدو أنّ ذلك بعيد المنال حاليا، ولا زال العقل الفقهيّ على اختلافه مؤثرا على العقل العلميّ  وعلى الرّأي السّياسيّ، وبه يرهن العقل الجمعيّ، لهذا ما نراه من أحداث مخالفة لما عليه الرّأي السّياسيّ لا يخرج عن هذا الجدل، وليس به نزعة طائفيّة، ولا ينبغيّ جرّ القراءة إلى هذا المنحدر، كما ينبغي أن تكون هناك سعة حواريّة في التّعامل حول هذه القضايا، وأن تسبق المعرفة والرّحمة والحكمة القرارات السّياسيّة أيّا كان اتّجاهها.

السابق
كتاب “الوهابيّة الرّستميّة” وضجيج وسائل التّواصل الاجتماعيّ
التالي
الصّحوة الإسلاميّة والانسداد الفكريّ والسّياسيّ
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً