المقالات النقدية

هل أحداث الوادي الكبير سوف تؤثر على التّعايش السّلميّ في عمان

المتأمل منذ بدايات وقوع الحادثة مع ألمها استنكر العمانيون هذا الفعل الشّنيع، ولم ترد في مفرداتهم في الجملة مفردات طائفيّة، وما كان متوقعا ابتداء، فقد غلب على أذهانهم أنّه لا يتجاوز الصّراع الفرديّ، ثمّ لمّا ارتبط بجامع الإمام عليّ بن أبي طالب، وفي ليلة عاشوراء الأليمة؛ لم نجد تشفيا لأنّ هؤلاء شيعة، بل كان العمانيون من سائر أطيافهم ومذاهبهم وتوجهاتهم الفكريّة على كلمة واحدة سواء في استنكار ذلك، ولم يتقبله عقلهم التّعايشيّ.

ثمّ لم نجد من الشّيعة أنفسهم ردّة فعل سلبيّة، والتّعجل في اتّهام الآخر، بل عاشوا حالة التّعقل، والتّعامل مع القضيّة كحالة لا علاقة لها باتّهام الآخر، بل وجدوا العمانيين سنة وإباضيّة جميعا لبسوا لباس المواطن الشّيعيّ، في نكران هذا الأمر، وحرية الجميع في ممارسة طقوسه، والتّعاون مع الجهات الأمنيّة في ذلك، لإدراكهم صدقها في التّعامل مع القضيّة، وقد قدّمت أحد أفرادها شهيدا، فضلا عن المصابين، كواجب في الدّفاع عن الوطن وجميع أبنائه، بلا تمييز بينهم.

والشّيعة – مع قلّتهم – وجودهم قديم في عمان، فمن علمائهم الأوائل المنسوبين إلى عمان الأصولي والفقيه ابن أبي عقيل العُمانيّ (تُوفّي قبل سنة 369 ه‍) “ويعتبر من منظري المدرسة الأصوليّة عند الشّيعة الإماميّة والّذي عاصر ابن الجنيد  ت(ق4) الملقب بالإسكافيّ، ويعبّر عنه وعن ابن أبي عقيل العمانيّ بـالقديمَين”، وقد تعايش الشّيعة مع العمانيين، فكانت لهم مساجدهم وحسينياتهم ومقابرهم وأوقافهم، “ويذكر السّالميّ (ت 1332هـ/ 1914) عندما أراد الغزاة البرتغاليون توقيع الصّلح مع العمانيين في عهد الإمام ناصر بن مرشد (ت 1091هـ /1680م) أول إمام للدّولة اليعربيّة، كان من شروطهم إرجاع جميع أوقاف الشّيعة الإماميّة في صحار إلى أصحابها الشّيعة”، ووجد التّجار الشّيعة، ومنهم من وفد من بلاد السّند حريّتهم الكاملة في تجارتهم، “وهذا ما شاهده مثلا الرّحالة جيمز ريموند ويلستد في حكومة السّيد سعيد بن سلطان ت 1273هـ/1856م من سلاطين دولة البوسعيد، وذلك لما زار عمان عام 1833م حيث يقول: إنّ أهم ما تتسم به حكومة الأمير – أي سعيد بن سلطان – هو بعدها عن ضروب القمع والاعتقال العشوائيّ، وسعة صدرها لكلّ المعتقدات، وتسامحها معها، وإبداؤها الكرم واللّطف الكبير لتجار أيّ بلد يفدون إلى مسقط ويقيمون بها”، وهو الحال لم يتغيّر حتّى يومنا هذا.

وقد شاركت ذاتيّا أحداث عاشوراء هذا العام في القرم ومطرح، ووجدت كالعادة ممّن يشاركهم من الإباضيّة والسّنّة، ورغم اختلاف الرّؤية التّأريخيّة في جزئياتها، وعدم الاتّفاق في بعض الخطاب، بيد أنّها حالة طبيعيّة حتّى مع المذاهب الأخرى، لا تشكل حالة تنافريّة، ولم يدخل في بالنا ما حدث في الوادي الكبير، فهي حالة خارجة عن إطارنا التّعايشيّ، وليست من طبيعة الاجتماع العمانيّ، حتّى لو وقع في مكان آخر، لا أحد يتوقع حدوث هذه بحال من الأحوال.

بطبيعة الحال لا أستطيع التّكهن من حيث السّبب الحقيقي، هل هو سبب خارجيّ، أم سببه داعش، أم كان له خيوط داخليّة، هذا جميعه بيد الجهات المعنيّة، حال بيانها نستطيع حينها تفكيك الموضوع، بيد أننا اليوم لابدّ أن نحافظ على ما نحن عليه من وحدة تعايشيّة، وأن نكون يدا واحدة فيمن يريد أن يفرق هذه اللّحمة العمانيّة، والّتي غدت مثلا يضرب بها في المحافل الفكريّة والأدبيّة، بل والدّينيّة.

بيد أنّ ربّ ضارة نافعة، فرغم ألم الحدث وبشاعته؛ إلّا أنّه يفتح ورقة جديدة في العديد من القراءات الدّاخليّة والخارجيّة، وفي مراجعة الذّات، ولمّا كنت في مأتم القرم حادث أحد الإخوة والباحثين الشّيعة، وقلتُ له: أجد عودة في وسائل التّواصل ويوتيوب، في الأجواء الإسلاميّة بشكل عام، ومحاولة لعودة الصّراعات والنّبش في الخلافات المذهبيّة، كما هو الحال في نهاية العقد الثّانيّ من القرن العشرين الماضي، فنحن بحاجة إلى الحدّ من هذا، وتوسيع المشترك، وأن يغلب الخطاب الاعتدالي على الأصوليّ المتطرّف، وهناك فارق بين نقد الذّات والغير وفق الأصول العلميّة مع احترام المختلف، وليس نشر الحالة التّهييجة في تقزيم المختلف، ولهذا كتبت مقالة: “الأديان والمذاهب بين وحدة المواطنة وخصوصيّة المعتقد والطّقوس”، ونشرتها جريدة عمان، وقد صادف نشرها وقت حدوث الحدث في الوادي الكبير.

هناك من يحاول جعل الحدث سياسيّا لا دينيّا، أي مؤامرة خارجيّة، بيد أنّه لا يمكن الفصل بينهما بحال، فإذا سلمنا أنّ الحدث سياسيّا في الجملة، إلّا أنّه استغل الحالة الدّينيّة، وهذه حالة خطيرة لا يتقبلها التّعايش العمانيّ، وفي مكان العبادة وممارسة الطّقوس، والّتي أمر الله بالحفاظ على الكنس والكنائس ومعابد الأديان الأخرى، فكيف بأماكن عبادات المسلمين، وإن كانت الحالة دينيّة فهذه تحتاج إلى مراجعات لكي لا تتسع، وندخل في مواقع ضيقة تأكل الأخضر واليابس، ونحن والحمد لله بعيدون عنها، وهذا لا يغني عموما عن المراجعات وليس التّكهنات، منها المحافظة على هذه اللّحمة الوطنيّة العمانيّة التّعايشيّة، ومراجعة الخطاب، وإن كنت أرى أنّ هذا ينبغي أن تكون حالة أوسع في عموم العالم العربيّ والإسلاميّ، وفق عقليّة الإحياء لا الهدم، وقد كتبتُ حولها كثيرا، وبإذن الله اللّحمة الوطنيّة العمانيّة التّعايشيّة باقية، وبشكل أقوى،  والّتي ليست وليدة اليوم، بل هي ضاربة في تأريخنا، وستظل كذلك، ولا عزاء لمن يريد تفريقها، وهذا لا يعني عدم التّبصر في مواجهة مثل هذه الدّعوات النّشاز عنّا وعن مجتمعنا.

*ملحوظة: بين معكوفتين من كتابي إضاءة قلم.

السابق
الأديان والمذاهب بين وحدة المواطنة وخصوصيّة المعتقد والطّقوس
التالي
داعش ونقض الحرمات
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً