المقالات الإجتماعية

مؤسّسة بيت الزّبير والإصدارات الفلسفيّة والنّقديّة

أبارك ابتداء لمؤسّسة بيت الزّبير بولاية مسقط إصداراتها الأخيرة الفريدة من نوعها، خصوصا فيما يتعلّق بالجانبين الفلسفيّ والفكريّ، وفي مجتمعنا العمانيّ شح في الإصدارات الفلسفيّة، مع الإقبال الكبير في السّنوات الأخيرة على الكتب الفلسفيّة والفكريّة في المعارض والمكتبات، ومع أنّ الكتاب النّقديّ في جوّه الثّقافيّ والفكريّ والتّأريخيّ والأدبيّ بشكل عام بدأ حضوره في الكتابات العمانيّة كما ذكرتُ ذلك في مقالة لي عام 2022م في جريدة عُمان بعنوان: “معرض الكتاب وحضور الكتاب النّقديّ العمانيّ”، بيد أنّ الكتاب الفلسفيّ في أبعاده التّخصّصيّة أو المعرفيّة النّقديّة بشكل عام يحتاج إلى شيء من الالتفاتة والاهتمام، وهذا ما قامت به مؤسّسة بيت الزّبير في السّنوات الأخيرة، فكسرت حاجز الصّمت مع الفلسفة من خلال مؤتمرين أحدثا ضجيجا وحديثا حتّى خارج عُمان، رأيتُ ذلك في مشاركتي لبعض المؤتمرات الفلسفيّة والنّقديّة خارج عُمان، فأصداء ذلك تردّدت على مستوى أوسع من المحيط العمانيّ، بيد أنّ توثيق ذلك سوف يعطي حضورا أكبر، إذ لا يقتصر عند لحظة عقد المؤتمرات، فقد أرادت هذه المؤسّسة أن تدخل التّأريخ، وتزاحم المعرفة في حاضرها بمثل هذه الكتابات المهمّة، خصوصا في واقعنا العمانيّ، والّذي قلّ فيه الدّرس الفلسفيّ من حيث الحضور الكتابي خصوصا.

عملان مهمّان يوثقان لحظتين تأريخيّتين حدثتنا في تلك المدينة القديمة مسقط، وقد حدث فيها أيضا لحظة تأريخيّة قبل مائة عام أي في عام 1907م عندما زار محمّد رشيد رضا (ت: 1935م) السّلطانَ فيصل بن تركيّ بن سعيد (ت: 1913م) يوثقها رشيد رضا بقوله: “وقد عهد السّلطان إلى كاتبه الخاصّ …. الزّبير بن عليّ أن يتولى أمر العناية بضيافتي، وإلى كاتبه الآخر الشّيخ إبراهيم بأن يتعاهدني معه أيضا”، تمثلت هذه اللّحظة في المباحثات الّتي كانت في العقائد والتّأريخ والأحكام والفكر وغيرها، وهي لبنات فلسفيّة وفكريّة، وإن كانت في أجوائها التّقليديّة، لتتحول هذه المناقشات في ذات المكان والولاية إلى مشروع ثقافيّ كمتحف بيت الزّبير منذ 1998م، ثمّ كمؤسّسة ثقافيّة في 2005م، واليوم لم تعد تنافس المؤسّسات الثّقافيّة المحليّة، بل العربيّة ولا أبالغ إن قلت العالميّة، ومنها ما يتعلّق مؤخرا بالفكر والفلسفة.

أن يتجه رجال الأعمال في دعم المشاريع الثّقافيّة وفق أعمال مؤسّسيّة منفتحة على العقل الإنسانيّ، وليست جامدة على زوايا ماضويّة تقليديّة هو ما استطاع خلقه معالي محمّد بن الزّبير في عُمان، وإن كنّا بحاجة إلى استنساخ عدد أكبر بمثل هذه المبادرات من رجال الأعمال في عُمان، لدعم الثّقافة والفكر بشكل مؤسّسي منفتح على الثّقافة الإنسانيّة، واليوم بعد عقدين نرى ثمرة هذه المؤسّسة الرّائدة والفريدة، لتتجاوز المحيط المحلّيّ إلى العالميّة.

إنّ روح جلسات السّلطان فيصل بن تركيّ بن سعيد وقد استضاف وفق إمكانات ذلك الزّمان شخصيّات أرخت المحادثات الثّقافيّة كرشيد رضا وعبد المسيح الأنطاكيّ (ت: 1922م) مثلا، لتحلّ هذه الرّوح في مشروع ثقافيّ يستقبل عشرات الباحثين والمفكرين والفنّانين والنّاقدين في ذات الولاية بتأريخها وعراقتها، ليتمثل بعض نتاج هذا في معرض مسقط للكتاب القادم في مشاريع كتابيّة مهمّة، ستكون حاضرة في المعرض، وعلى رأسها كتاب “هل نحتاج إلى الفلسفة في حياتنا”، وكتاب “النّقد الثّقافيّ: إشكاليّات وتجليات” وغيرها بالتّعاون مع الآن ناشرون وموزعون بالأردن، حيث شارك في الكتابين وغيرها رموز فلسفيّة عربيّة وعالميّة منهم مثلا: عبد اللّه الغذّاميّ من السّعوديّة، وإدريس الخضراويّ وعبد السّلام بنعبد العاليّ ومحمّد المصباحيّ من المغرب، والزّواوي بغورة ومحمّد شوقي الزّين من الجزائر، وعبد الجبّار الرّفاعيّ من العراق، ورضوان السّيّد ومشير باسيل عون من لبنان، وغيرهم، كما أنّها لم تهمل القلم العمانيّ، حيث نجده حاضرا ومزاحما القلم العربيّ في أجوائه الفلسفيّة والفكريّة والنّقديّة كعليّ الرّواحيّ ومحمّد العجميّ ومحمود الرّحبيّ وسعود الزّدجاليّ ومحمّد رضا اللّواتيّ وغيرهم.

كما سعدت أن يفتتح ملتقى بيت الزّبير الفلسفيّ الأول في 18 مايو 2022م، وربما هو أول مؤتمر فلسفيّ متخصّص في الفلسفة في عُمان في نهضتها الحديثة، حيث افتتح بتكريم المرحوم صادق جواد سليمان (ت: 2021م)، وهو تكريم مستحق لرمزيّة فلسفيّة وفكريّة عمانيّة، لها حضور على المستوى العربيّ والعالميّ، خصوصا في مركز الحوار العربيّ في واشنطن، فكان من مؤسّسيه والنّاشطين فيه منذ 1994م، وسعدت أنّ أشارك ببحث في ذلك بعنوان: “قراءة وصفيّة في فكر صادق جواد سليمان: قراءة من الدّاخل”، والّذي نشر في كتاب “هل نحتاج إلى الفلسفة في حياتنا”.

راجيا أن ينتقل بيت الزّبير إلى الكتب والدّراسات الفلسفيّة المحكّمة، وترك مساحة لا تقلّ عن أربعين بالمائة للمشاركة المفتوحة محليّا وعربيّا ودوليّا خصوصا في الملتقيات والمؤتمرات الفلسفيّة والنّقديّة، فهناك أقلام مبدعة، ومنها شبابيّة، قد تكون في بداياتها، أو لم تسلّط عليها الأضواء، ولكن وجود قاعدة محكّمة وفق تحكيم محكم يعطي عمقا أكبر، كما نجده حاليا في المؤتمرات الدّوليّة عموما، ولكي يساهم بيت الزّبير – على الأقلّ محليّا وعربيّا – في خلق أقلام جديدة، لها عمقها وإبداعها الفكريّ والأدبيّ والفلسفيّ، وما ذلك ببعيد على مؤسّسة رائدة كبيت الزّبير، وهي بهذا مع المشاريع الّتي تقدّم من إخوانها في النّادي الثّقافيّ والجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء، وما رأيناه مؤخرا من دار عرب من خلال جائزة التّرجمة خصوصا وغيره من الجهود الثّقافيّة بلا استثناء؛ نفخر بها جميعا في محيطنا العمانيّ، ليكون لعمان حضورها الثّقافيّ المتمثل ليس في الدّعاية الإعلاميّة الفارغة، ولكن في العمق المعرفيّ الّذي تمتدّ جذوره في الواقع والمستقبل، ويعطي نقطة مضيئة للأجيال القادمة وهي تستذكر تأريخ لحظتنا الّتي نصنعها اليوم.

السابق
سياحة جامع السّلطان قابوس الأكبر وخطوة في مجال التّصحيح
التالي
المكتبة البارونيّة في جربة وعلاقتها بعمان
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً