المقالات الفكرية

أبديّة الأسئلة الميتافيزيقيّة الكبرى

جريدة عمان، وصحيفة المثقف من استراليا 1443هـ/ 2022م

رأينا في مقال سابق لنا في جريدة عُمان حول “علم الكلام الجديد” للدّكتور العراقيّ عبد الجبّار الرّفاعيّ عن أزمة اغتراب علم الكلام القديم من خلال الاغتراب في الميتافيزيقا واللّاهوت والماورائيات والمجتمع، وما نتج عنه مع اغتراب الآلة والإنسان وصورة الله.

والمدار الثّاني الّذي يدور حوله الكتاب – في نظري – بعد نظريّة اغتراب علم الكلام القديم هي أبديّة الأسئلة الميتافيزيقيّة الكبرى، وهنا ينقض الرّفاعيّ تحجّر علم الكلام القديم، بمعنى اكتماله وتمامه والوقوف عنده بالكليّة، وهو ما يسمّيه المتقدّمون بالعلم المحترِق أي المنتهي من حيث كلّياته، لهذا يرى ليس مجرد إصلاح علم الكلام القديم؛ بل الخروج منه إلى علم كلام جديد؛ يتوافق ومقتضيات الواقع، وتساؤلات الجيل الجديد، وتطوّر الآلة والمعارف المعاصرة.

وعلم الكلام الجديد من حيث الأسئلة الميتافيزيقيّة يندرج من بُعدين، بُعد صورة الله المطلقة، وما يقابلها من بُعد استمرايّة البحث والتّساؤل والكشف عند الإنسان، لهذا المعادلة متلازمة في دائرة مستمرة ومتطوّرة معا، لا يمكن أن تتوقف يوما، وهي تتضخّم تطوّريّا بتضخّم المعارف والنّتاج الإنساني.

لهذا يمكن فهم مراد الرّفاعي أنّ العلاقة بين صورة الله المطلقة، واستمراريّة شغف الإنسان في معرفة هذه الصّورة تضيق أو تتّسع من خلال: الذّات الكاشفة، والأدوات المستخدمة، والتّأثر بالسّلطة والهوّيّة والثّقافة، واتّساع المعارف وعقلانيّة الزّمكانيّة، فهذه جميعها تعطي صورة دائريّة مستمرة لهذه العلاقة لا تتوقف عند نقطة زمنيّة ومكانيّة ما.

وبالنّسبة لصورة الله المطلقة تتمثل في “أنّ الله مطلق، ومعرفة الإنسان بالله نسبيّة؛ لأنّها محدودة بحدود طبيعته البشريّة، وآفاق وعيه وثقافته، ونمط رؤيته للعالم، والزّمان والمكان الّذي يعيش فيه، ونسبيّة معرفة الإنسان بالله، وعدم تمكنه من الحصول على صورة نهائيّة له”، فالله رمز للقوّة الفاعلة/ الغيب المنيع/ اللّامتناهي/ مطلق الوجود، وهذه صورة مطلقة لا يمكن حصرها في صفات أو أسماء محدودة، وإنّما هي صورة تقريبيّة لهذا المطلق الإلهي.

لهذا في المقابل يأتي استمراريّة شغف الإنسان في معرفة هذه الصّورة “فما دام هناك إنسان هناك أسئلة وجوديّة، وأسئلة ميتافيزيقيّة، وما دامت هناك أسئلة ميتافيزيقيّة هناك أديان، فالأسئلة الوجوديّة في الفلسفة مدينة الأديان”، بمعنى أنّ تعدد الأديان نتيجة طبيعيّة متمثلة من خلال هذا الشّغف، ولكونه مرتبطا بصورة مطلقة إذا التّعدد حالة طبيعيّة؛ لأنّ الصّور سوف تتعدد، حيث “أنّ الإنسان لا يمكن أن يتّصل بالله إلّا من خلال الصّورة الّتي يراها لله، وصورة الله تتعدّد بتعدّد ما أنتجه لاهوت الأديان وعرفانها، بل ذهب محيّ الدّين بن عربيّ [ت 638هـ/ 1240م] وبعض العرفاء إلى أنّ صور الله تتعدّد بتعدّد طرق البشر إلى الله”.

لهذا الارتباط بين صورة الله وشغف الإنسان في الكشف عنها ارتباط يتمثل في الدّيمومة والاستمراريّة، ينتج عنه تطوّر في العلاقة مع الله، فيرى الرّفاعي أمثل تصوّراتها مع العرفانيين، حيث تمثلت في العلاقة الجماليّة من خلال الحبّ والرّحمة والقيم الإنسانيّة الكبرى، حيث “أعاد العرفان بناء صورة جميلة لله، كلّها إشراق ومحبّة …. لأنّ هذه الصّورة ألغت المسافة اللّامتناهية الّتي صنعها المتكلمون بين الله والبشر”.

وإذا كان الكشف مرتبطا بتطوّر الدّيمومة والاستمراريّة؛ نتيجته أنّ علم الكلام لا يخرج عن الظّرفيّة الزّمكانيّة، فهو ليس جامدا من حيث الدّاخل، وفي الوقت ذاته مرتبط بما هو في الخارج من آلات ومعارف، مع الذّات وميولاتها وارتباطها بالسّلطة أيّا كانت، لهذا “الأسئلة العميقة تتوالد باستمرار، بالتّزامن مع تطوّر وعي الإنسان، وتراكم معارفه، وخبراته المتنوّعة، وتنامي اكتشافاته لقوانين الطّبيعة، والتّوغل في آفاق الكون، والكشف عن أسراره، وهذا جوهر علم الكلام الجديد”.

بيد أنّ “ما قاله مؤسّسوا الفرق، ومؤلفوا المقالات الكلاميّة بخصوص رؤيتهم لله، وصفاته وأفعاله، والوحي والنّبوّة، وما فهموه من النّصوص الدّينيّة؛ ليس إلا إجابات مرحليّة تعبّر عن زمانهم وبيئاتهم وثقافتهم” أي له ارتباط ظرفيّ نتج عنه صورة ظرفيّة معينة عن الله في دائرتها النّسبيّة لا المطلقة، وبما أنّ “النّظام المعرفي الّذي يتسلّط على التّفكير في مرحلة معينة من حياة البشر لا يلبث كما هو في مختلف مراحل التّاريخ؛ بل يواكب العقلانيّة وتطوّر الوعي، وتقدّم العلوم والمعارف البشريّة في مختلف المراحل”، فطبيعيّ أن تتغيّر الصّورة اليوم، وتتعدد طرقها في الوقت ذاته.

إلا أنني أرى شخصيّا اليوم أن الجيل الجديد رجع إلى التّساؤلات الوجوديّة الأولى، أي الله ذاته، فلم يعد معنيّا بشكل كبير في البحث عن صورة الله، والاغتراب الماورائيّ فيها، بقدر ما أصبح باحثا عن الموجد الأول من جهة، وعن ماهيّة الإنسان والوجود من جهة ثانية، فلم يعد يشغله هذا الاغتراب الماورائيّ في الصّفات الإلهيّة وشخصنته بعيدا عن الإنسان، وإذا كان جوهر علم الكلام الجديد يتمثل في الأسئلة العميقة الّتي تتوالد باستمرار كما يرى الرّفاعيّ، إلا أنني أرى أنّ هذه الأسئلة العميقة رجعت إلى المربع الأول، وهي حالة صحيّة، لنتجاوز إطلاقيّة الرّؤية الكلاميّة وصراعاتها، وربطها بالولاء والبراء، والتّكفير والماضويّة.

لكن الضّرر العقليّ والكلاميّ الكبير لإطلاقيّة علم الكلام القديم حسب رؤية الرّفاعيّ يتمثل في ثلاثة أمور: الأول دوران الدّائرة في العلاقة المتمثلة بين صورة الله وشغف التّساؤل والبحث والكشف على نفسها في دائرة ماضويّة انتهت في ظرفيّة زمنيّة ما، فهي لا زالت تدور على نفسها ولكن في لحظة زمنيّة تجاوزها العقل المعرفيّ آلة ومعرفة ومناهجا، أي كأننا نعيش في ذات المرحلة بين صراع المعتزلة والأشاعرة وأهل الحديث، وما بينهم من الفرق الكلاميّة الأخرى، “فدخلت علوم الدّين في الإسلام [ضمن] حلقة دائريّة تكراريّة منذ قرون عدّة، بعد أن توقف إنتاج العلم الدّنيويّ في عالم الإسلام، واستبدت الرّؤية الكلاميّة الموروثة للعالم في حياة المسلمين، فحجبتهم عن رؤية العالم خارج الأسوار المغلقة لعلم الكلام، وأصبحت مجتمعاتنا اليوم ضحيّة رؤية ميتافيزيقيّة للعالم تتحدّث لغة الأموات”.

الأمر الثّاني المرتبط بإطلاقيّة علم الكلام القديم أنّه تمثل في صراعات جزئيّة انغلقت على ذاتها، وحوّلتها إلى سياج دينيّ ومذهبيّ تتمايز به عن الآخر، بمعنى لم تعد تبحث عن القيم الجامعة، بقدر ما أصبحت تدور في جزئيّات ظرفيّة معينة، وفق رؤية ماضويّة معينة أيضا، فلم يعد “يعتمد المتكلّم [وفق] مناهج علم الكلام القديم [ناشدا] الكشف عن القيم الكونيّة الخالدة في الأديان، ولا يبحث عن جوهرها الرّوحيّ والأخلاقيّ المشترك؛ لأنّ المتكلم لن يتمكن من التّحرر من التّعصّب لمعتقداته عند دراسة الأديان الأخرى، ومحاولة فهم معتقداتها ومقولاتها، إذ أنّ مهمّة المتكلّم هي الدّفاع عن معتقداته، والرّدّ على الخصوم، وكشف ما يراه من تهافتات معتقدات الدّين الآخر، والتّحري عن تحريفات كتبه المقدّسة”، وهذا ذاته ينطبق حتّى على المدارس الإسلاميّة الكلاميّة ذاتها من وجه آخر.

من هنا كان الأمر الثّالث متمثلا في الأثر السّلبيّ على المجتمعات من تخلّف وصراعات وتفسيق واحتراب، ورؤية ضيّقة عن الآخر، ويركز الرّفاعيّ هنا إلى “أنّ أدوات النّظر، ومناهج الفهم القديمة للدّين ونصوصه تفضي إلى ربط كلّ واقعة في حياة النّاس بالدّين، واحتكار الدّين لمختلف علوم الدّنيا، ويؤول ذلك إلى فهم وتفسير وتبرير كلّ شيء بالدّين”، وعليه يصبح تقدّم ونهضة المجتمع مربوطا بالصّورة الكلاسيكيّة للتّدين، فيعوق حركة المجتمع ونهضته؛ لأنّ “التّدين والطّاعة والمعصية ليست سببا لتقدّم أو نخلّف المجتمعات … بل ينشأ من الجهل والفقر والمرض والاستبداد والظّلم، وكلّها نتيجة عوامل اقتصاديّة وسياسيّة وثقافيّة وتربويّة ودينيّة”، وهذا ذاته ينظوي في الاغتراب السّلبيّ، بعيدا عن البحث في الأسباب الواقعيّة والمنطقيّة للنّهضة والتّقدّم والحداثة.

هذه المقاربة الّتي قدّمها الرّفاعيّ في علم الكلام الجديد، والمتمثلة في أبديّة الأسئلة الميتافيزيقيّة الكبرى، لا يمكن وضعها إلا بالتّحرر من الاغتراب في علم الكلام القديم، بأدواته ورؤيته الّتي تجاوز العقل المعرفيّ اليوم العديد من رؤاها الجيدة في زمن ما سلفا، إلا أنّها نسبيّة ولم تعد بتلك الصّورة المعرفيّة الكبيرة الّتي تقدّم إجابات منطقيّة وجوهريّة لهذه الأسئلة الميتافيزيقيّة الكبرى في واقعنا المعاصر.

*المرجع: كتاب مقدّمّة في علم الكلام الجديد، عبد الجبّار الرّفاعيّ، دار الشّؤون الثّقافيّة العامّة، العراق/ بغداد، ط 2021م، ص: 129 – 138.

السابق
علم الكلام الجديد
التالي
الاحتفاء بصادق جواد في معرض الكتاب
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً