المقالات الإجتماعية

العام الجديد واستشراف المستقبل

جريدة عمان 1444هـ/ 2023م

من الصّعوبة بمكان أن نستشرف الحال في عام 2023م، ونحن لا زلنا في بداياته، ولكن الأعوام هي أرقام حسابيّة، أمّا الواقع فهو مرتبط ببعضه يحرّكه اقتضاءات متدافعة ومرتبطة ببعضها، والمستقبل رهين الواقع، لهذا لابدّ من إدراك الواقع ابتداء، وهذا يدركه الخبراء والمختصون، كل حسب تخصّصه ومجال بحثه وإدراكه، لا يتوقف عند تكهنات من هنا، وأمانيّ من هناك.

بيد أنّ الواقع الحالي سياسيّا واقتصاديّا ليس مبشرا؛ فالصّراع السّياسيّ الغربيّ المتمثل في أمريكا، والشّرقيّ المتمثل في روسيا يزداد يوما بعد يوم، كما أنّ الصّراع الاقتصاديّ الغربيّ المتمثل في أمريكا، والشّرقيّ المتمثل في الصّين في أوجّ تضخمه، وآثار الوضع السّياسيّ يتضخم سوءا يوما بعد يوم نتيجة الحرب الأوكرانيّة، وآثارها السّلبيّة اقتصاديّا وسياسيّا، فهي حرب تبدو ظاهريّا بين روسيا وأوكرانيّا، إلّا أنّها واقعا هي حرب باردة بين المعسكر الشّرقيّ والغربيّ عموما.

ويشير الخبراء الاقتصاديون إلى موجة من الرّكود الاقتصاديّ الّذي سيعم العالم هذا العام، ممّا يؤثر على سوق الطّاقة، وارتفاع سعر النّفط، بجانب التّضخم وارتفاع سعر الفائدة، مع التّخوّف من عودة آثار فيروس كورونا من جديد، حيث سجل في الصّين في الأيام الأخيرة أكثر من مليون حالة إصابة، ولهذا انتشاره مجدّدا سيجعل الوضع الاقتصاديّ أكثر سوءا في العالم، وفي الدّول النّامية والفقيرة خصوصا، مع ارتفاع سعر اللّقاح ذاته.

كما أنّ العالم اليوم يعاني من موجه من الغلاء، وارتفاع سعر المواد الأساسيّة والبترول، مع ضعف القيمة الشّرائيّة، وبالتّالي تأثر السّوق الّذي يقابله تضرّر العديد من المؤسّسات المتوسطة والصّغيرة، وتسريح عشرات العمال، والنّتيجة ارتفاع معدّلات البطالة، والّذي يقابله ارتفاع معدّلات الجريمة والانتحار، والتّفكك الاجتماعيّ، وتأثيره السّلبيّ على الأمن العام اجتماعيّا وسياسيّا وأخلاقيّا.

لهذا هناك من يقرأ ارتفاع حالات السّخط اجتماعيّا، وبالتّالي عودة المظاهرات والاعتصامات الاحتجاجيّة بصورة أكبر ممّا كانت عليه في العام الماضي، وقد تكون موجه عالميّة لها تأثيرها السّياسيّ بشكل كبير جدّا، وهذا ما حدث في بعض الدّول الأوروبيّة، وكما حدث في سيرلانكا، وحاليا في إيران.

والوطن العربيّ ليس بمنأى عن هذا كلّه، فالشّارع العربيّ يعاني من حالة سخط نتيجة أوضاع السّوق، وغلاء الأسعار، وتدني القيمة الشّرائيّة، وسوء العدالة الاجتماعيّة، وقد بدأت المظاهرات في الأردن، وقد تمتد هذه المظاهرات إلى أجزاء أخرى، وهي أشدّ من مظاهرات 2011م؛ لأنّها أقرب إلى “ثورة الجياع”، و”ثورة الجياع هي من أخطر الثّورات؛ لأنّ دائرة التّعقل فيها تنخفض بشكل كبير جدّا، وتصبح النّظرة إلى الآخر بأنّه (الظّالم) الّذي يتحمّل كلّ شيء أوصلهم إلى هذا الحال، فيغيب التّعقل في الوسائل المستخدمة، إذ قد يتطوّر إلى المواجهة المسلحة، وقد يمتدّ أثره على بنية المجتمع شيئا فشيئا، حتّى المطالبة بإسقاط ليس الحكومة فحسب بل النّظام ذاته”.

على أنّ الوضع السّياسيّ السّيء في اليمن وسورية والسّودان والعراق، والاضطهاد المستمر للشّعب الفلسطينيّ، ونمو الأصوليّة في توجهات مختلفة في المنطقة، أدّى ذلك إلى ارتفاع معدلات المشردين في الوطن العربيّ، ومع عدم اهتمام الوطن العربيّ بقضايا المشردين؛ أدّى بعضهم إلى الهجرة إلى عوالم أخرى، وبعضهم انتشر في الخليج وأجزاء أخرى، فارتفعت معدّلات التّسوّل، وبعض الأخلاقيّات السّلبيّة المصاحبة، بجانب الوضع اللّاإنسانيّ الّذي يعيشه المشرد في الوطن العربيّ على مستوى المسكن والتّعليم والصّحة والحاجات الضّروريّة.

هذا جميعه تراكم بعد جائحة كورونا في الوطن العربيّ، وما تبعه من تدني وضع السّوق، وإغلاق العديد من الشّركات، فلازمه كثرة البطالة من الشّباب، وظهور الاتّجار بالبشر ليس على مستوى الجنس فحسب؛ بل امتدّ إلى جوانب أخرى كاستغلالهم كأيدي رخيصة مقابل أموال يجنيها فئات معينة، وبصور غير قانونيّة، ومع اقتضاءات الحال ونحن في العام الجديد؛ سيلقي هذه بثقله السّلبيّ على جوانب عديدة في هذا العام.

والوضع في الخليج العربيّ ليس أحسن حالا من الوطن العربيّ الّذي ينتمي إليه، فقد يبدو متماسكا في فترة ما بسبب النّفط والغاز؛ إلا أنّ جائحة كورونا عرت النّقص الّذي كان مخفيّا، فانهارت العديد من الشّركات خصوصا المتوسطة والصّغيرة، فارتفعت معدّلات البطالة، وامتلأت السّجون وقضايا المحاكم، وكثرت القضايا الأخلاقيّة والاجتماعيّة السّلبيّة، وهي وإن كانت بنسب متفاوتة بين دول الخليج حسب الكثافة السّكانيّة مع الإمكانات النّفطيّة والغاز الطّبيعيّ، إلّا أنّ ما يحدث في العالم من ركود وتضخم وارتفاع سعر الفائدة ليس الخليج بمنأى عنه.

وإن أتينا إلى عُمان فوضعها لا يختلف عن دول المنطقة، وهي تأثرت سلبيّا بعد أحداث 2011م، ثمّ جائحة كورونا، ومع الإصلاحات الاقتصاديّة الأخيرة؛ إلّا أنّها تمر بحالة من التّقدّم الإصلاحيّ البطيء بسبب كثرة المسرحين، وانهيار بعض الشّركات المتوسطة والصّغيرة، وارتفاع معدّلات الباحثين عن عمل، مع ضعف القدرة الشّرائيّة، وضعف الدّخل، وعودة الرّغبة إلى الهجرة للبحث عن عمل، نتيجة ذلك زيادة السّخط الّذي يتولد منه حالات مجتمعيّة وفرديّة سلبيّة، كالعجز عن سداد الدّيون، والتّفكك الأسريّ، والرّغبة في الانتحار وغيرها.

ما قلته سلفا لا يعني تلك الحالة السّوداويّة في العالم عموما، وفي وطننا العربيّ والخليجيّ خصوصا، إلّا أنّ هذه الاقتضاءات لا يمكن تجاهلها؛ لأنّها تولّد اقتضاءات أخرى، لهذا نحن بحاجة إلى الصّدق في وصف الواقع من جهة، وفي المشاركة الشّعبيّة في علاجه من جهة ثانية، وهو وإن كان علاجا رأسيّا تخصصيّا من حيث الابتداء، إلّا أن توسعة لغة الحريّة الأفقيّة في النّقد هي حالة صحيّة وطبيعيّة في الوقت ذاته.

ولكي لا تتحوّل هذه الاقتضاءات إلى طريق سلبيّ، تضع الأرض بلاقع؛ لابدّ من التّعامل معها بإيجابيّة من حيث العلاج، ابتداء علينا أن ندرك أنّ الإنسان قبل البنيان، فالمجتمع بحاجة إلى طرق وجسور وناطحات سحاب وغيرها، ولكن هذا لا يعني إهمال الإنسان كفرد، فالعدالة الاجتماعيّة تؤدّي إلى تدوير المال، وأن لا يكنز سلبيّا أي يدور بين فئة معينة، ممّا تتولد طبقيّة لا يهمّها مستقبلا الوطن بقدر ما يهمّها ذواتها ومصالحها الشّخصيّة، لهذا لابدّ ابتداء من تحقّق الأمن الشّهوانيّ [الماديّ] للإنسان بشكل إيجابيّ، بمعنى أن يكون هناك مستوى يحصل عليه كلّ فرد يحقّق كرامته الإنسانيّة، وهذا بدوره يحرّك المال العام، وينشّط اقتصاد السّوق، ويضعف من معدّلات الجرائم كالقتل والانتحار، والأمراض النّفسيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة.

ثمّ لابدّ من الاهتمام بالسّلم العالميّ، وأن يقف المثقف والكاتب والفنّان ضدّ نزوات السّياسيين وشهواتهم في هدر الدّماء، وخراب الدّيار، وتشريد الشّعوب، وأن يدرك العالم أنّنا أمّة واحدة، وأنّ الإنسان واحد، وأحياء أيّ  قطر في العالم هو إحياء للكل، وخرابه خراب للجميع، وأقليميّا علينا أن نتجاوز حرب اليمن وسوريّة وفلسطين إلى الاستقرار فيها، وتحقّق كرامة الإنسان في هذه الدّيار، وفي جميع أجزاء الوطن العربيّ، وأن نفكر بعقل الإحياء لا الدّمار، لهذا ما حدث في العراق مؤخرا من حفل بهيج لافتتاح خليجي (25) حدث أفرح القلوب، وبشارة خير في افتتاح العام الجديد، بعد دمار عانت منه سنين، فما يحدث في العراق وغيرها اليوم من إحياء المستفيد منه الجميع، خصوصا دول المنطقة ككل.

كذلك لابدّ من توسعة الجانب السّياحيّ والاستثماريّ، واستغلال القوى البشريّة في ذلك، وهذا لا يتحقّق إلّا بعقل يعيش واقعه، ولا ينزوي تحت هويّات ضيّقة، لهذا لابدّ من سعة القانون الّذي يفتح مجالا أكبر للتّعدّديّة والإبداع والحريّات، مع وجود أمن داخليّ يعيشه كلّ فرد، يجعله يقدم في هذا بلا رهاب.

ثمّ علينا أن نتعايش إيجابيّا مع الواقع الّذي يعيشه الجيل الجديد، والوعي الّذي يملكونه وفق زمنهم، وأن لا نكون رهين الوصاية السّلبيّة الّتي تحدّ من إبداعهم وشراكهم إيجابيّا، وتعوق دون تحقيق كرامتهم، والاستفادة من طاقاتهم، ثمّ التّعدّديّة الّتي يملكونها حالة صحيّة وطبيعيّة في الوقت ذاته إذا ما أحسن استثمارها.

لهذا ونحن نستشرف عام 2023م أمام اقتضاءات سلبيّة لا يمكن نكرانها، ولكننا أيضا أمام قدرات وإضاءات إيجابيّة أيضا، ولا يمكن مواجهة الاقتضاءات السّلبيّة إلّا إذا أدركنا ابتداء أهميّة ذواتنا، وقدرتنا في تجاوز ذلك من داخلنا، دون وصاية من أحد، لا أن نكون دائما رهين الواقع، إن تحرّك يمينا أو شمالا تحركنا معه؛ بل يجب أن ندرك قدرتنا في تحريك واقعنا وصناعته من داخل ذاتنا، فبهذا نستطيع علاج هذه الاقتضاءات لتتحرّك في واقعها الإيجابيّ لا السّلبيّ.

السابق
السّلطة وتغذية الرّهاب
التالي
الفرق والجمعيّات الخيريّة وتكريم جلالته
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً