نشر غالبه يوم الخميس 17 مارس 2022م.
كيوبوست: الأستاذ بدر العبري.. هل يمكن أن تُقدِّم نفسك لقرائنا باختصار.. من هو بدر العبري؟ وما هي مهمته أو مشروعه الذي اختاره لنفسه منذ سنوات ووقف عليه جهده وإنتاجه الفكري منذ سنوات؟
العبري: بداية أشكركم على اللّقاء، ثمّ إنّ التّعريف عن الذّات بسعتها مع الوجود ليس أمرا هينا، ولكن بالمعنى الكسبيّ أنا باحث بسيط جدّا في فضاء الوجود الإنسانيّ باحثا عن الإنسان نفسه، لأستمتع بجمال التّعدديّة في الوجود الإنسانيّ، وأدرك بها انعكاسات تعدديّة الوجود ذاته، لأتماهى مع وحدة الماهيّة بين البشر جميعا.
أمّا عن المشروع الّذي أشتغل عليه هو الإنسان ذاته، وكشف جمال تعدده واختلافه، وكيف نوجه هذا الاختلاف في استثماره إيجابيّا لصلاح الأرض ونمائها وبنائها، وإبعاده عن الخلاف والصّراع والشّقاق والنّزاع والاحتراب.
لهذا ابتدأت بداية من البيت الإسلاميّ – إن صح التّعبير -، مدركا خطر التّكفير والإقصاء واستغلال الدّين سلبيّا في نشر التّطرف والكراهيّة، فكتبت وأنا في بداية العشرين من عمري عن التّطرف في تحريم جمال السّماع والموسيقى، وجعلها من قضايا الدّين القطعيّة في عام 2003م، لأطوّره بعد أكثر من خمسة عشر سنة من خلال فلسفة الجمال المتمثلة في قيمة الجمال التّكوينيّة من جهة، والمضافة محاكاة وتقليدا من جهة ثانية، ليصدر في كتاب الجمال الصّوتيّ: تأريخه وفلسفته الفقهيّة [مراجعة في النّص الدّينيّ حول الغناء والمعازف] في 2020م.
كذلك بحثت عن الإقصاء الفكريّ داخل البيت الإسلاميّ، تحت مصطلح الولاء والبراء، والتّكفير والتّفسيق، والحبّ والبغض، فكتبت كتابا لم يصدر حول القمع الفكريّ بين المدارس الإسلاميّة [أسباب وآثار] في 2006م، ليكون محورا لحوارات مع الشّباب على الفيسبوك، متوسّعا في قضايا تطرفيّة أخرى فيما يتعلق بتكفير الدّولة المدنيّة والقانون المدنيّ، وتوسيع دائرة الدّين، وتضييق دائرة الرّأي، وأسهبت في ذكر نماذج عمليّة لذلك، ليصدر في كتاب بعنوان “فقه التّطرف” عام 2017م.
كذلك بحثت عن الإنسان في القرآن، وكيف يمكن البحث عن النّزعة الإنسانيّة خصوصا في نصوصه الإجرائيّة، من خلال البحث في القيم الكبرى المرتبطة بالإنسان، واستثمارها إيجابيّا، بعيدا عن الإسقاطات الظّرفيّة والتّأريخيّة السّلبيّة، ليصدر مع كتاب القيم الخلقيّة والإنسان: رؤية قرآنيّة.
لأتجاوز بعد هذه المرحلة البحثيّة البيت الإسلاميّ إلى البيت الإنسانيّ، أو من الهوّيّة إلى الماهيّة، لأبحث عن الآخر، وأرى جمال التّعدد فيه لأرى ذلك في ذاتي، فكانت في الابتداء رحلات ومذكرات تأمليّة، ابتداء من كتاب التّعايش (إضاءة قلم) عام 2019م، ثمّ كتاب التّعارف 2022م، لأبحث متجاوزا المدارس الإسلاميّة مع تضمّن ذلك الأديان الأخرى، وأجلس مع أصحابها في معابدهم وصوامعهم وكنائسهم، مدركا بذلك سعة الخالق بسعة الجمال التّعدديّ، مشتغلا حاليا على كتاب الإنسان.
ومقابل الجانب العمليّ هناك اشتغال على الجانب النّظريّ والتّأصيليّ، حتّى لا يكون البحث مرسلا، فكانت جلسات تأصيليّة مع المفكر الرّاحل صادق جواد سليمان، ليصدر في كتاب: الإنسان والماهية: محاورات في الدّين والفلسفة والشّأن الإنسانيّ عام 2021م، بجانب بحوث محكّمة صدرت في هذا كبحث مستقبل العالمين العربيّ والإسلاميّ في ضوء المتغيرات الجارية بالمنطقة والعالم [إحياء الهوّيّة ومشترك الأنسنة نموذجا]، والعديد من المقالات.
ولي اشتغالات بحثيّة في هذا حاليا كنظريّة الدّولة من خلال الإنسان ذاته، وقراءة النّص الدّينيّ بمعناه الشّامل وليس الإسلاميّ فحسب من خلال الأنسنة ومدارسها، والعقلنة، والظّرفيّة التّأريخيّة، وقضيّة الهوّيّة والتّعدديّة والإنسان، وغيرها، عسى ترى النّور قريبا.
كيوبوست: الأنسنة والتعارف والعقلنة والتنوير.. أركان أساسية في مؤلفاتك ولقاءاتك وحلقاتك المعروفة على “اليوتيوب”، كيف ترى جهود تعزيزها في العالم العربي الآن؟
العبري: هناك عشرات من القراءات والبحوث في جوانب الأنسنة والتّعارف والعقلنة والتّنوير في الأدبيات العربيّة في القرن العشرين، وهناك جهود مقدّرة أغلبها فرديّة واجتهادات شخصيّة، ومع مرور العالم العربيّ بتيارات ماضويّة أحدثت انحرافا عن خطّ التّنوير، ورجوعا إلى استنساخ الماضي، والتّوجس الموصل إلى التّكفير والإقصاء من النّاقد للعقل التّراثيّ، والباحث عن العقل في حاضره وإنسانيّته، ومع هذا بعد هذا المخاض في هذه المرحلة؛ ندرك أنّ الوعي اليوم في صورته الأفقيّة، أكثر انشراحا وتمددا، لهذا قلتُ في مقال قريب نشر لي في “جريدة عُمان” حول التّنوير أنّ العقل العربيّ بدأ في “الانتقال من الاغتراب الماضويّ إلى عالم النّزعة الإنسانيّة، وحضور هذه النّزعة في تعامله مع الدّين والثّقافة والهوّيّة بشكل عام، لهذا لم يعد يعش في عصر التّوجس من المختلف الآخر، بل أصبح منفتحا عليه، ومشتركا معه، وإن خالفه دينا أو مذهبا أو فكرا، سائرا في طريق الفصل بين حقوق المواطنة المبنيّة على المساواة، وبين الهوّيّات الكسبيّة، والقناعات الشّخصيّة، وساعد في رفع هذا الوعي وجود إعلام حر أصبح مشاعا بين الجميع دون وصاية المؤسّسة الدّينيّة والاجتماعيّة، أو هيمنة المؤسّسة السّياسيّة والثّقافيّة، فأصبحت المعارف، وما توصل إليه العقل الإنسانيّ؛ مشاعا بين الجميع، وأصبح العالم يعيش في قرية واحدة”.
ولهذا ما أقدّمه شخصيّا حول الأنسنة والتّعارف والعقلنة والتّنوير، سواء في بحوثي أو في القناة أو في وسائل التّواصل الاجتماعيّ؛ ليس ابتداعا أتفاخر به، بقدر ما هو تذكير لجهود كبيرة من قامات فكريّة في العالم العربيّ، بعيدا عن الأسماء وهي معروفة، أحاول التّذكير بها ومراجعتها توافقا مع اللّحظة الّتي نعيش فيها، والمرحلة الظّرفيّة والتّأريخيّة الّتي نتدافع في مرحلتها، لما لها من ضرورة اليوم لنقل العالم العربيّ من صراع الماضي إلى بناء الحاضر، ومن ضيق الهوّيّة إلى سعة الماهيّة، ومن جمود الثّقافة إلى حركة الحضارة.
كيوبوست: من خلال تجربتك، كيف يمكن أن تتلاقى جهود رموز الأنسنة والعقلنة والتّنوير في العالم العربي، وأن يلتئم بعضها ببعض، وتتكامل مشروعاتها ورؤاها على النحو الذي يمنحها المزيد من القوة والتأثير؟
العبري: إنّ الفضاء اليوم أصبح مفتوحا للجميع، فلم تعد تلك السّلطات الدّينيّة أو السّياسيّة أو المجتمعيّة مهيمنة بالصّورة الكبيرة الّتي كانت عليها سابقا، والعالم اليوم إعلاما وحضورا تقارب بشكل كبير جدّا، لهذا قد يتداخل هنا خطّان، الخطّ المؤسّسي، والاجتهاد الفرديّ، والخطّ المؤسّسي بلا شك الأقوى ديمومة وأثرا، سواء على المستوى الرّسميّ أو الأهلي، بيد أنّ الفرد اليوم يمكنه إيجاد مؤسّسة بذاته، ليست بذات التّكلفة، كما أنّ لها حضورها أيضا، وهذا على الفضاء الالكترونيّ.
وعموما التّكامل جميل، ولكن غالبه رومانسيّ لا واقعيّ، وإنّما الواقعي في نظري هو أن يشتغل الجميع في نقط واتّجاهات متعدّدة، وأن يخلق أفكار التّنوير في المجتمع، ويدعها تتدافع، المهم علينا أن نتخلّص من وهم الخوف من أيّ سلطة كانت، وأن نستغلّ الفضاء المفتوح، وأن تتّسع صدورنا لبعضنا، وأن لا يكون الغاية المنفعة القاصرة، بقدر ما تكون الغاية هو الإنسان العربيّ وإحيائه وإنمائه، وأن يتجاوز خطابنا ضيق الهوّيّة أيّا كانت إلى مساحة وفضاء أوسع، بهذا أتصوّر نستطيع أن نحقق الشّيء الكثير.
كيوبوست: ما العوائق التي ترى أنها تعترض جهود الأنسنة والعقلنة والتنوير في العالم العربي والإسلامي؟ وكيف يمكن مواجهتها؟
العبري: العوائق الّتي تعوق حركة الأنسنة والعقلنة والتّنويرفي العالم العربيّ عديدة، على رأسها كما أسلفنا غالبها يدور في اجتهاد شخصيّ، منهم من يجاهد ويستمر، ومنهم من يتوقف عند نقطة معينة، ويشتغل بذاته، وقد يميل إلى العزلة والانفصال عن الواقع الخارجيّ حتّى على مستوى محيطه الجغرافيّ الضّيّق، كما أنّ الخطابات في العالمين العربيّ والإسلاميّ لا زالت تهيمن في العديد من الدّول الخطابات الماضويّة من جهة، والخطابات الهوّيّاتيّة دينيّة أو مجتمعيّة أو سياسيّة من جهة مقابلة.
على أنّه أيضا حركة التّداخل والتّدافع داخل المحيط العربيّ ضعيف جدّا، فهناك اشتغالات متفرقة، لكنّها منفصلة كثيرا عن الآخر القريب، فكيف إذا خرجنا إلى العالم الإسلاميّ بتعدد لغاته وقومياته، فضلا عن العالم الإنسانيّ الّذي أصبحنا نعيش في قرية واحدة، فمثلا بسبب ضعف التّرجمة، وهي مهمّة في نشر الوعي والتّنوير، إلا أنّها لا تجد دعما في العربيّ، وحركتها ضعيفة جدّا في زمن تتضاعف فيه المعرفة بشكل يومي، فتضيع عنّا معارف في عوالم مختلفة، والعكس صحيح أيضا، فالكتاب والمعرفة العربيّة لا تجد ضالتها لتترجم إلى الآخر، وتتدافع معه.
على أنّ الدّراسات الاستغرابيّة أيضا ضعيفة مقابل الدّراسات الاستشراقيّة، فنحن علينا أن نكشف الآخر كما هو يشتغل بكشفنا، وأن لا يقتصر عند الجانب المادي والتّكلنوجيّ وعالم الطّبيعة، بل عليه أن يبحر في عوالم الإنسان والعلوم الإنسانيّة المتعددة.
وهذا يحتاج إلى تجانس المادّة والدّعم مع المواهب البشريّة المتعددة، وهذا ينطبق على العالم العربيّ، وكما قلتُ في مقال لي “إنّ العالم العربيّ يحوي كنوزا من الهوّيّات والثّقافات القديمة والحديثة، في الأديان والمذاهب واللّغات والأعراق والأجناس والعادات والتّقاليد، ولديه فك رموز العالم القديم، وهذا فضلا عن التّنوع الجغرافيّ كفيل أن يخلق استثمارا معرفيّا وثقافيّا قلّ نظيره في العالم الإنسانيّ عموما، وللأسف قتل هذا الاستثمار، وخسره العالم الإنسانيّ ككل”، فنحن كهوّيّة عربيّة واحدة لا ينقصنا الطّاقات والإبداعات الفرديّة، بقدر ما ينقصنا سوء استغلالها واستثمارها، وسوء إحيائها وبنائها.
لهذا يكمن مواجهتها في المثقف المتنور ذاته، أن يتحرر في ذاته أولا، وأن يساهم من خلال خلق وعي أكبر بعيدا عن الأنا والمصالحيّة النفعيّة، فقد يكون الطّريق شاقّا وبطيئا، ولكنّه بلا شك سوف يدفع بتكامل الأدوار التّنويرَ إلى الأمام.
كيوبوست: كيف ترى وضع التطرف في العالم العربي والإسلامي الإنسان؟ وإذا قارنَّا الوضع الحالي بالوضع قبل عقدين مثلًا، على اعتبار أن هجمات الحادي عشر من سبتمبر كانت لحظة محورية، فهل أصبح التطرف والتشدد ودعاتهما وجماعاتهما أقوى أم أضعف؟
العبري: التّطرف من الطّرف، وهو مباين للوسطيّة والاعتدال، وموجود في الاجتماع البشريّ منذ القدم، قد يزيد وقد ينقص، إلا أنّه يتعقّد عندما ينطلق من المقدّس، فيصعب تفكيكه في العقل الجمعيّ إلا بإرادة سياسيّة قويّة؛ لأنّ العديد من دعاوى نقد التّطرف في المؤسّسات الدّينيّة لا تخرج عن البرجماتيّة المرقعة للنّصّ، وفق أدوات قديمة، قد تناقضها إذا ما أصبحت عندها القوّة، إمّا بقوّة السّلطة المتعاقدة معها، والمستفيدة منها، أو أن تتحوّل بذاتها إلى سلطة دينيّة وسياسيّة في الوقت نفسه.
وما حدث في مرحلة الصّحوة من وجود جامعات ومؤسّسات دينيّة، تتسم بالماضويّة من حيث استلهام نصوص الماضي وأدواته بالكليّة، ومتفككة أيضا من حيث المذهبيّة الملغية للآخر وفق النّصوص الكلاميّة حتّى داخل المذاهب الإسلاميّة نفسها، بيد أنّ مشترك الخطاب الدّينيّ العنيف ضدّ الاتّجاهات الإنسانويّة واللّبراليّة والعلمانيّة، بل والنّاقدة داخل اللّاهوتيّ الدّينيّ نفسه هو حاضر عند الجميع بدرجات متفاوتة وفق الفضاء المتاح.
لازم هذا خطابان، خطاب شعبويّ سلفيّ كلاسيكيّ ضدّ الآخر، مع تكفيره بمطلحات ولائيّة وبرائيّة وتفسيقيّة إقصائيّة، وخطاب ترقيعيّ إنسانيّ ظاهرا، إلا أنّه باطنا يحمل ذات الأدوات والخطابات العنيفة.
إلا أنّ هجمات الحادي عشر تحوي أبعادا متشابكة، فمن جهة أظهرت الواقع التّطرفيّ على السّطح، ومن جهة أخرى أحدثت وعيا عند السّياسات العربيّة تجاه خطاب العنف والكراهيّة، إلا أنّه أيضا استغل مخابراتيا وفق جماعات متطرفة ظهرت لاحقا، ومارست عنفا من خلال نصوص الدّين والتّأريخ ذاته.
بيد أنّ العلاجات السّياسيّة في العالم العربيّ مالت إلى الاتّجاهات التّرقيعيّة، مبعدة في الغالب الاتّجاهات العقلانيّة والإنسانويّة، والنّاقدة من داخل الدّين نفسه بأدوات متقدّمة وليست ترقيعيّة، وبقت ذات المؤسّسات والجامعات الدّينيّة على حالها، فقط جدّدت في خطابها الظّاهريّ دون تجديد القراءات والأدوات، مبعدة العقل النّاقد عن هذه المؤسّسات.
لهذا ظهور وسائل التّواصل الاجتماعيّ اليوم أحدث نقلة نوعيّة في ظهور العقل النّاقد، وميلان الجيل الجديد إلى الفردانيّة، وعودته إلى التّساؤلات الأولى نحو الذّات والوجود، وانشراحه على الآخر المختلف، وقبوله إنسانيّا بالتّعدديّة، ساهم في إحياء الدّراسات النّقديّة وتدافعها من جهة، وتطوّرها وانسيابها الأفقيّ من جهة ثانيّة، بيد أنّ الحالة الأولى السّلبيّة لا زالت باقية، قد تتشكل في توجهات جديدة، إذا ما هيمنت الهوّيّة السّلبيّة على الاتّجاهات الفردانيّة والجمعيّة الإيجابيّة، وهذا مرتبط أيضا بالمواطنة ومدى انتقالها من الهوّيّات السّلبيّة إلى الإنسانيّة الجمعيّة وفق الحريّة والعدل والمساواة ورفع الآستبداد.
كيوبوست: إلى جانب الكتابة في الصحف والمجلات وإصدار الكتب، كانت تجربتك في استخدام “يوتيوب” لمخاطبة فئات واسعة من الجمهور تجربة اتسمت بكثير من التميز، وحققت ما يمكن اعتباره نجاحًا ملحوظًا، فما تقييمك لجوانب قوتها وضعفها، وما مدى تأثيرها من وجهة نظرك؟
العبري: انتقالي إلى اليوتيوب ارتبط في الابتداء بعملي الاجتماعيّ، ولكوني منذ الابتداء عندي من الميول الإعلاميّ من خلال المسرح والكاسيت سابقا، إلا أنّي اكتشفت استغلال اليوتيوب مؤخرا أي في نهايات عام 2017م، مستغلّا أدوات بسيطة من خلال الهاتف تصويرا ومونتاجا، بيد أنّي وجدت نفسي أبحر في عالم آخر مع الإنسان الآخر أيّا كان مذهبه ودينه وفكره يزداد يوما بعد يوم، محاولا الجلوس معه، والسّماع منه، لتقترب القناة إلى أكثر من خمسمائة مادّة خلال ثلاث سنوات فقط، وهذا استفدت منه شخصيّا مصححا الأفكار المغلوطة في ذهني مسبقا تجاه الآخر المختلف، وفي الوقت نفسه وسّع من مداركي المعرفيّة والنّقديّة والإنسانويّة.
كما أنني وجدت مدوّنة القناة أكثر انشارا أفقيّا، ويشاهدها العديد من النّاس دول مختلفة، مع رغبتي أن لا تخرج عن المحتوى الرّأسي العميق، لهذا تواصل معي العديد من طلاب الجامعات من دول عربيّة وغير عربيّة يشكرون ويستأذنون في الاستفادة من معارفها في أبحاثهم وأطروحاتهم، ومنهم من نقل حواراتها إلى بعض الصّحف والمواقع والكتب، كما حوّلتُ بعضها شخصيّا إلى كتب مستقلة ككتاب الإنسان والماهيّة مع المرحوم صادق جواد.
على أنّ القناة متواضعة، ولا زلت مستخدما تقنيّة الهاتف، وباجتهاد شخصيّ، لعلّها تتحوّل مستقبلا إلى موسّسة وقفيّة تُعنى بهذا الجانب، كما أنّ الجانب المونتاجي فيها ضعيف جدّا، بجانب ضعف التّرويج لها.
كيوبوست: يلفت النظر في قناتك على “يوتيوب” التنوع الكبير للموضوعات والبلدان التي ينتمي إليها ضيوفك، حيث يغطون مساحة جغرافية واسعة تمتد من العالم العربي إلى جميع أنحاء العالم.. وهذا يقودنا إلى سؤال: كيف تحدد موضوعاتك؟ وكيف تختار هذه الكوكبة المتميزة ممن تستضيفهم؟
العبري: في الحقيقة بعضها يدخل في بحثي حول الإنسان فيما يتعلّق بدينه ولغته وهوّيّته، لهذا حاليا أركز على الأديان والفلسفات والثّقافات والتّوجهات واللّغات القديمة.
وغالب مواد القناة لا يدخل في هذا التّنظيم، ففيها من التّنوّع العشوائي بعيدا عن التّكرار، مستغلّا الباحثين والمفكرين في الجوانب الإنسانيّة الّذين يزورون عُمان، أو ألتقي بهم في سفري، لهذا سيجد القارئ في القناة موضوعات لاهوتيّة وفلسفيّة سياسيّة واجتماعيّة وعلمويّة وغيرها، محاولا أن تكون القناة موسوعة في كافّة المعارف الاجتماعيّة والإنسانيّة والتّأريخيّة والعلمويّة.
وعلى هذا يتحدّد الموضوع حسب النّسق الّذي أشتغل عليه من جهة، وحسب المضاف وتخصّصه المعرفيّ من جهة ثانيّة.
كيوبوست: عُمان بثرائها وتنوعها وخصوصيتها الثقافية والتاريخية والحضارية صاحبك دور في تكوينك الفكري، فكيف تصف لنا هذا الدور؟
العبري: بلا شك أنّ البيئة تؤثّر في الإنسان، وقد تكون الخصوصيّة مضرة عندما تنكمش ولا تتدافع، وقد تكون متهذّبة عندما تجد بيئة خصبة للتّدافع، والّذي في عمان قد لا يختلف عن محيطه الخليجيّ خصوصا، ولضعف التّدافع الفكريّ في عمان سابقا أحدث بطئا في التّطوّر الفكريّ، والوعيّ الأفقي، خلاف الأجيال الحالية الّتي انفتح لها ذلك، لهذا تطوّري الفكريّ شخصيّا لم يخرج ابتداء عن خط اللّاهوت، فمع تأثري من الابتداء وأنا لم أصل العشرين من عمري بخاطابات وقراءات أكثر انفتحاحا كمحمّد عبده [ت 1905م]، ومحمود شلتوت [ت 1963م]، وإبراهيم بيوض [ت 1980م]، ومحمّد الغزاليّ [ت 1996م]، ومحمّد حسن فضل الله [ت 2010م]، بيد أنّي انفتحت لاحقا بالقراءات النّقديّة، والاتّجاهات الإنسانيّة، بعضها خارج الخطّ اللّاهوتي، نتيجة معارض الكتب، ووسائل التّواصل، والسّفر إلى الخارج؛ لأنّ التّدافع هذا في عمان ضعيف جدّا، بعضه يعود إلى الخصوصيّة والهوّيّة المفرطة في الانغلاق، وبعضه نتيجة عدد السّكان فليس بذاك الوفرة الّذي يولّد تدافعا فكريّا في دولة قطريّة ما.
كيوبوست: أصدرت كتابًا جديدًا في فبراير 2022، بعنوان “التعارف: تعريف بالذات ومعرفة للآخر”، وهو كتابك الخامس، فهل يمكن التعريف به باختصار؟ ولماذا اخترت أسلوب التعريف السريع والمرور العابر بالديانات والمذاهب والعقائد المختلفة؟ ألم يكن الأمر يحتاج إلى مزيد من التوقف والبحث عمقًا في أصول هذه الديانات والعقائد لتبدو صورتها أكثر وضوحًا وتماسكًا واكتمالًا؟
العبري: كتاب “التّعارف: تعريف بالذّات ومعرفة للآخر” ليس الكتاب الخامس، وإنّما هناك كتب وتحقيقات أخرى مطبوعة أيضا، وهذا الكتاب كما أسلفت هو الحلقة الثّانية لإضاءة قلم، حيث كانت الحلقة الأولى حول التّعايش وفيها رحلة إلى قم الإيرانيّة ودولة الكويت وخلاصة رحلتي لسنوات إلى الحج، وهذه حول التّعارف، وفيها الرّحلات إلى شيكاغو وتكساس والبحرين وظفار في عُمان، وهدفه التّعرّف على الآخر ليس بالمعنى الفلسفيّ والتّفكيكيّ النّقديّ، وإنّما أقرب إلى الكشف ووضع خطوط سريعة وفق مذكرات وليس أبحاثا معرفيّة وأكاديميّة.
لهذا القارئ للكتابين سيجد العديد من المفاتيح على العديد من المستويات، ممكن بذاتها أن تكوّن مفردات بحثيّة لدراسات أكاديميّة، وفي الوقت نفسه يمكن أن تعطي هذه الصّورة السّريعة للأديان والثّقافات خطوطا ترفع اللّبس من جهة، وتكشف الآخر المختلف من جهة ثانية، وتقرّب المشترك الإنسانيّ من جهة ثالثة.
كيوبوست: خطك الآن واضح ومعروف، لكن يبدو أنك اجتزت مراحل من التطور الفكري، ففي خطبة جمعة قديمة لك منشورة على صفحتك على اليوتيوب بعنوان “من المستهزئ الحق بالنبي الأكرم؟”، نجد لديك خطابًا مغايرًا لخطابك الحالي، فهل مررت بفترة مراجعة أنتجت ذلك التحول؟ وهل يمكن أن تكون هذه المراجعة موضوعًا لعمل قادم لك؟
العبري: الإنسان بطبعه متطوّر في فكره ونظرته إلى الحياة، فما تكتبه وتنشره خطابا أم كتابة قبل سنوات قد لا تقبله اليوم، وما تكتبه اليوم قد ترفضه أو تتراجع عنه أو تطوّره بعد عشر أخرى، وهذا طبع الإنسان، وطبيعيّ أن يتجدد الإنسان، خصوصا إذا ولد في عالم منغلق على ذاته، ثمّ يجد عوالم أكثر سعة، فإمّا أن يجمد على هوّيته، فتضيق ذاته، وإمّا أن يدرك سعة هذه العوالم، فتتسع ذاته، وتتسالم مع الآخر المختلف، وتعيش في طبيعتها الكينونيّة والوجوديّة بلا انغلاق ولا صراع وتنافر، وهذا ما أجده اليوم، حيث أرى ذلك الجمال الإلهيّ في هذا الإنسان المختلف عنّي كما أراه في ذاتي، فتجاوزت الوحشة والانغلاق إلى الإنسان وسعة الوجود.
كيوبوست: أخيرًا، احتفظت بمظهرك “السلفي” التقليدي.. على عكس كثيرين ممن خاضوا تجربة مراجعة أفكارهم السابقة، فهل لذلك سبب؟
العبري: علينا أن نتجاوز المظهر، ونشتغل بالذّات، والمهم هو الثّمرة وليست الأشكال، فمن ثمارهم تعرفونهم وليس من أشكالهم، فكم ماضويّ لباسه تقدمي، والعكس صحيح، ثمّ إنني ابن بيئة لا تلتفت إلى ذلك كثيرا، على أنني لكي أكون منصفا فأنا ابن مدرسة دينيّة، ومرتبط اجتماعيّا بشكل كبير، فهذا ملازم لهذا الوضع ليس برجماتيّا نفعيّا، بقدر ما يكون حالة اعتياديّة أرى بها قربا لخدمة الآخر على المستوى الجغرافيّ الّذي أعيش فيه.