المقالات الدينية

حول آية رضا اليهود والنّصارى

اطلعتُ على مقطع منتشر للدّاعية الشّيخ وسيم يوسف، إمام جامع الشّيخ زايد بن سلطان – رحمه الله تعالى – بأبو ظبي، وفيه يخصص قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة/ 120]؛ حيث جعل الآية مخصصة للنّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم -، بدلالة لفظة: عنك.

وسياق الحديث كان حول زيارة البابا فرنسيس بابا الفاتيكان والكنيسة الكاثوليكيّة إلى دولة الإمارات العربيّة المتحدة الشّقيقة من هذا الشّهر، في ظلّ عام التّسامح، والتقائه بسماحة الإمام الأكبر أحمد الطّيب شيخ الأزهر، وتوقيع اتفاقيّة الأخوة الإنسانيّة، وإقامة القدّاس في مدينة زايد الرّياضيّة.

وبداية نثمن ما قامت به الإمارات الشّقيقة من اختيار 2019 عاما للتّسامح، والالتفات إليه ضرورة في ظلّ الصّراع الطّائفيّ الّذي يفسد ولا يصلح، ويشتت ولا يؤلف، ويجعل الأرض خرابا، فالالتفاتة إلى التّسامح والتّعايش والتّقارب ممّا يثمن ويقدّر من أيّ جهة أو دولة كان، ولا ينبغي خلط الأوراق، والتّعميم السّوداويّ الّذي نراه في عالم الإعلام اليوم، بعيدا عن الإنصاف.

كذلك دعوة الإمام الأكبر أحمد الطّيب والباب فرنسيس ليس من فراغ، فالأول يمثل رئاسة أكبر طائفة إسلاميّة في العالم الإسلاميّ وهم السّنة، والثّاني يمثل رئاسة أكبر طائفة مسيحيّة في العالم المسيحيّ وهم الكاثوليك، فتوقيع معاهدة الأخوة ممّا نرجو أن تكون لها الثّمرة بإذن الله تعالى على المجتمع الإنسانيّ ككل.

وأمّا قضيّة القدّاس في مجمع زايد الرّياضيّ فشأن داخليّ، ولا ينبغي أن يثير الحساسيّة، فهو أمر ظرفيّ اقتضاه وجود البابا في الإمارات، والإمارات تضمّ طائفة كبيرة من المسيحيين، خصوصا من شرق آسيا، والأديان عموما في الجزيرة العربيّة، وخصوصا في هذه المنطقة عمان والإمارات مارست شعائرها وطقوسها بحريّة مطلقة على مر التّأريخ، فقد عاش هنا الهندوس والزّرادشت واليهود والنّصارى لسنوات موغلة في القدم، ولا زالت معابدهم ومقابرهم ومحارقهم شاهدة إلى اليوم، ولم يمارس ضدّهم إقصاء أو إكراه، والعديد انصهر في المجتمع، ورضي بالدّين الإسلاميّ عن اقتناع لا عن جبر وإكراه.

الّذي يهمنا هنا إنزال الآيات في غير محلّها، أو التّكلف في تأويلها، ومن هذه الآيات ما ذكر الشّيخ وسيم يوسف: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}.

فالآية لا علاقة لها بظرفيّة الحدث رأسا؛ لأنّها تتحدث عن جانب وجدانيّ طبيعيّ حتى بين اليهود والنّصارى أنفسهم، كما في السّورة نفسها، آية 113: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}.

لهذا من دقة القرآن أنّه قال: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى}، ولم يقل: ولن ترضى عنك اليهود والنّصارى؛ لأنّ اليهود لم يرضوا عن النّصارى رأسا، ومارسوا ضدّهم أصناف العذاب، وكذا الحال لمّا أصبحت الغلبة للنّصارى، خصوصا الغربيين، والتّأريخ شاهد بذلك، فلا نطيل المقام بذكر النّماذج.

وهذا الأمر أيضا مع المسلمين، فلن يرضى مسلم عن قول بعض اليهود عزير ابن الله، أو أنّ يعقوب صارع ربّه فغلبه، أو أنّ ابنتي لوط حملتا من أبيهم، أو أنّ سليمان كان ملكا سفاحا همّه النّساء، وكذا لن يرضوا عن النّصارى القائلين بألوهيّة المسيح، أو أنّ العذراء حملت ابن الله في جزئه النّاسوتيّ، أو أنّ المسيح صلب ثمّ قام من بين الأموات…

بل حتى داخل الصّف الإسلاميّ نفسه لن يرضى السّنة والإباضيّة عن الشّيعة في بعض القضايا كاستمرار النّص في الأئمة بعد وفاة النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم -، والعكس صحيح من قبل الشّيعة، وهكذا دواليك.

فهذا الرّضا وجدانيّ عقائديّ متعلّق بالإيمان والممارسات الطّقسيّة، موجود لدى جميع الملل والنّحل والمذاهب.

ونحن عندما نتأمل القرآن الكريم نجده يحدد المواقع الثّلاثة: الجانب الإيمانيّ والطّقسيّ وهو جانب فرديّ وجدانيّ، والجانب العدائيّ والحربيّ وهو عارض طارئ، وجانب التّعايش والسّلم وهو الأصل بين البشر في مجتمعاتهم وأممهم.

فأمّا الموقع الأول فالقرآن يقرر حرية الاعتقاد والممارسة الفرديّة والجماعيّة، بل أمر بحفظ الصّوامع والكنائس وجميع دور العبادة، وشيء طبيعيّ عدم الرّضا الدّاخليّ، ولكن عدم الرّضا لا يعني إكراه الآخر ليكون من ملتك ونحلتك، ولا يعني الانزواء وإلغاء الآخر، وهذا أسهبنا حوله في مناسبات كثيرة، وفي كتابي فقه التّطرف ذكرت نماذج لذلك، فلا داعي للتّكرار، والمهم هنا ما ذكره الشّيخ وسيم يوسف من الاستشهاد بآية تدخل في هذا الموقع.

وأمّا الموقع الثّانيّ فهذا مثله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة/ 51]، وهذه وإن كانت ظرفيّة من حيث الحدث، إلا أنّها مطلقة من حيث تكرر الحدث، ولهذا هنا قال: {الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى} ولم يقل اليهود ولا النّصارى، وذكر الكل لا لعموم الجنس ولكن للعهد، أي من اليهود والنّصارى من تجمع للعداوة، وهذا كثير في القرآن، يذكر الكل ويراد به البعض، كقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران/ 173]، أي بعض اليهود، ولهذا قال تعالى بعد آية الموالاة في داخل الصّف الإسلاميّ: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة/ 52]، فالسّياق مربوط بحدثية الاعتداء وليس بمطلق التّعايش البشريّ، وهذا الحدث الظّرفيّ يتكرر اليوم رغم العداوة بين اليهود والمسيحيين، فنجد المتعصبين البروتستانت يتعصبون مع المتعصبين اليهود ليشكلوا الحركة الصّهيونيّة العالميّة، ومنها زرعوا الاحتلال الصّهيونيّ المتعصب، فلا يعني هذا أن نعادي جميع اليهود والمسيحيين بما فعلته طائفة منهم؛ لأنّ هذا الموقع موقع اعتداء، والاعتداء يجب أن يرفع، وهذا موقع عارض يرتفع بارتفاع الاعتداء.

وأمّا الموقع الثّالث هو الأصل بين البشر، وإن اختلفوا في أديانهم ومذاهبهم، ويجسّد هذا قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة/ 8-9]، فالبرّ والقسط هو الأصل، وما فعلته الإمارات من إرساء وثيقة الأخوة يدخل في هذا الموقع التّعايشيّ، ويثنى عليه، ويثمن.

وأمّا تخصيص الشّيخ وسيم يوسف آية الرّضا بلفظة “منك” فهذا لم أسمع عنه من قبل – والله أعلم -، لا في كتب التّفسير ولا غيره، فإن لفظة [منك أو قل] ليس من قرائن التّخصيص؛ لأنّ الأصل في الخطاب العموم، وقديما قيل: لا عبرة بخصوص السّبب مع عموم اللّفظ، ويفصّل العلّامة ابن عثيمين [ت 2001م] الخطاب الموجه إلى الرّسول – صلّى الله عليه وسلّم – إلى ثلاثة أفسام: الأول: أن يقوم الدّليل على أنّه خاص، وذلك بقرينة واضحة كقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} [النّساء/ 79]، والثّاني: أن يدل على أنّه عامّ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطّلاق/ 1]، والقسم الثّالث: لا يدلّ على أنّه عامّ ولا خاص، فيبقى لفظا خاصّا بالنّبيّ، وحكما عامّا للأمّة، هذا الأغلب.

على أنّ آية الرّضا خبريّة، والآيات الخبريّة ظرفيّة، وهي عامّة إذا تشابهت الوقائع، وفي هذا يقول ابن سعديّ [ت 1956م] في تفسيره: “والخطاب وإن كان لرسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – فإنّ أمته داخلة في ذلك؛ لأنّ الاعتبار بعموم المعنى لا بخصوص المخاطب، كما أنّ العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب”.

ولهذا لا أدرى من أين جاء التّخصيص الظّرفيّ والتّشريعيّ، وعليه في نظري الخلل من الطّرفين: المعارض للحدث، فينزل آيات الله في غير محلّها، وهذا للأسف نلحظه كثيرا في الخطاب ووسائل الإعلام، والثّاني التّأويل المتكلف فيه بعيدا عن سياقات الكتاب الحكيم، والله وليّ التّوفيق.

فيسبوك 1440هـ/ 2019م

السابق
الإسلام والقمع والاستبداد
التالي
الرّضا الوظيفيّ … الأصل والثّمرة
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً