أقام النّادي الثّقافيّ مؤخرا فعاليّة العطر في عمان، وهي أشبه بالمهرجان المصغر، والّذي جمع بين التّأريخ والآثار والأدب من جهة، وبين الشّعر والفنّ والموسيقى من جهة ثانية، كما تضمّن سوقا للعطور، ومعرضا فنيّا، وورشات عمل تعليميّة في صناعة المجامر والبخور والعطور، وكيفيّة تقطير الورد، والمشاركة في الرّسم، ولقي تفاعلا جيّدا، خصوصا من فئة الشّباب، والمهتمين بهذا الجانب، ولولا موقع النّادي البعيد عن الاكتظاظ السّكانيّ كولايتي السّيب وبوشر، وما يعانيه من قلّة مواقف السّيارات، والمشاكل المتكرّرة بسبب ذلك، لكان الحضور أكبر بكثير في نظري، خصوصا لمّا يتعلق الأمر في فعاليّة جماهيريّة متنوعة كهذه.
توقعت من الابتداء أنّ عنوانا كهذا “العطر في عمان” لن يخلو من انتقاد ومن جدل، والانتقاد حالة صحيّة، ومن حقّ المجتمع أن يقدّم رأيه، وأن ينقد ويوجه، وأيّ فعاليّة لا تحدث تفاعلا وجدلا؛ لا يكون نجاحها كتلك الفعاليّات الّتي تحدث شيئا من الضّجيج، ومن أهم الانتقادات أنّ النّادي الثّقافيّ معني بالثّقافة والأدب، وبالكاتب والمثقف والشّاعر والأديب، فما علاقة ذلك بالعطر والسّوق والدّعاية والتّسويق، فهذا ليس من اختصاصه، وإنّما من اختصاصات جهات أخرى.
وهنا لا أجيب مدافعا عن النّادي لكوني عضوا فيه، فكان لدي ذات الإحساس والتّساؤل والتّعجب، ولكن يجب في الوقت ذاته أن أحترم مقترحات باقي الأعضاء ورؤيتهم، ومن خلال معايشتي للحدث، لقد تبين لي أنّ الثّقافة ليست تلك الصّورة التّقليديّة النّمطيّة، ومن خلال محاولتي في السّنوات العشر الأخيرة في الحضور الثّقافيّ بصورته الواسعة في المراكز الثّقافيّة في مسقط خصوصا، ومنها خارج عمان؛ أدركت أنّ العالم لا يعيش في صورة واحدة، هناك عالم ثقافيّ يجمعنا، لكنه ليس عالما واحدا في الحقيقة، بل هو عوالم متباينة، وتصل أحيانا إلى حدّ التّناقض.
تأملت الحضور المتفاعل مع الفعاليات، فكان حضورا متباينا، فمنهم جاء لأجل النّدوات المعرفيّة، حيث تناولت العطر في الآثار العمانيّة، وفي التّأريخ العمانيّ، وفي الأدبيات الفقهيّة والشّعريّة واللّغويّة، وفي الرّواية والكتابات المعاصرة، وفي الأساطير والحكايات الشّعبيّة العمانيّة، فوجدت لها جمهورها القريب نوعا ما من جمهور الأمسيات الشّعريّة، والّتي شارك فيها رموز شعريّة عمانيّة، وفي المقابل وجدت جمهورا آخر مختلفا، تفاعل مع الموسيقى والرّسم، ومع المعرض الفنيّ، وغالبهم من الشّباب، كذلك الورش المكثفة منذ الإعلان عنها مبكرا؛ إلّا أنّ مقاعد التّسجيل امتلأت مباشرة، ثمّ من الجميل أن يكون هذا التّناغم الرّباعيّ: المعرفة العقليّة، والوجدان الشّعريّ والموسيقيّ، والجمال البصريّ والفنيّ، مع السّوق والتّدريب، وجميع هذا يجمعه خيط واحد، وهو ثقافة العطر.
الثّقافة كما أسلفتُ في أكثر من مناسبة خيط رفيع، وعالم واسع، فمن الجميل أن يجد السّوق مكانا له في الثّقافة؛ لأنّ السّوق بتنوعه يشكل ثقافة المجتمع أيضا، فيجتمع التّنظير مع الواقع، والماضي مع الحاضر، والوجدان مع المادّة والمحسوس، وبهذا الثّقافة لا تغرق في التّنظير والعيش في الأبراج، ولكنّها أيضا لا تضع نفسها موضع الاستسهال والسّذاجة المعرفيّة، ولا توجد أمّة بلا ثقافة، ولا يمكن العيش خارج الثّقافة، فجميع ذلك متداخل يشمله التّدافع والتّعدّد والاختلاف والتّناقض أيضا.
وفي الوقت ذاته كما قيل قديما في الأمثال الصّينيّة المتداولة: “لا تعطني سمكة، بل علّمني كيف أصطاد أو أصيد”، وهذا ما حاولت أن تصل إليه الفعاليّة تماما، فمن خلال الورشات ممكن أن تخرج بنتيجة كيف تستطيع أن تصنع عملا فخاريّا كالمجامر، أو كيف تستطيع أن تكون ماهرا في صناعة البخور والعطور، أو كيف ممكن أن تقطّر ماء الورد، أو كيف ممكن أن تنمي موهبة الرّسم لديك، وتستفيد من خبرات ومواهب من أتقن ذلك.
وكما قيل قديما أيضا: النّجاح يبدأ بفكرة، قد تكون ساذجة في الابتداء، بيد أنّها قد تغيّر حياتك تماما، وفي القرآن: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 24 – 25]، فمثل هذه الورشات قد تلهم من كان لاهيا عنها، أو تقرّب الصّورة لمن يجد الصّعوبة في إدراكها، ليبني بذلك مشروعا له، يخدم به ذاته ومجتمعه والإنسان، وينمي بذلك ثقافة وطنه ومجتمعه مستقبلا، ليكون فاعلا منتجا فيه.
وبما أنّ الثّقافة مرتبطة بالعقل والفنّ والواقع كما أسلفتُ، وبما أنّ غالب منتدياتنا الثّقافيّة ارتبطت عادة بالفنّ في صورته الشّاعريّة، بيد أنّ الموسيقي والمغني والمنشد والممثل والرّسام والنّقاش والمصوّر والسّينمائيّ لا ينبغي أن ينفصل عن هذه المراكز والمنتديات الثّقافيّة، فهي بيته أيضا، ومكان تنمية مواهبه وإبداعه، شأنه كشأن الفيلسوف والمفكر والمؤرخ والباحث والأديب، وهنا يرى كانت (ت 1804م) أنّ للفنون ثلاثة طرق: “الّتي تستخدم الكلمات كالشّعر والخطابة، والّتي تستخدم الصّور التّشكيليّة كالعمارة والنّحت، والّتي تستخدم الأصوات كالموسيقى، وأضاف إلى هذه الأنواع نوعا آخر سماه الفنون المركبة، أي مؤلفة من عدة فنون: أدب، ضوء، تمثيل، إخراج، ديكور ….” [كتاب تصنيف الفنون العربيّة والإسلاميّة لسيّد أحمد بخيت عليّ]، والشّاهد من هذا أنّ هذه الفعاليّة حاولت أيضا أن تشرك الموسيقي والرّسام والفنّان لينصهر مع البرامج الأخرى، في جوّ ثقافيّ بديع.
ما أسلفت ذكره لا يعني أن تفقد هذه المراكز والنّوادي الثّقافيّة، – ومنها النّادي الثقافيّ العمانيّ – دورها الحقيقيّ في الجانب النّقديّ والبحثيّ، وحضورها مع الواقع المعيش، ولكن لا يعني أيضا أن تنكمش في السّلفيّة الثّقافيّة – إن صح التّعبير -، والّتي تحصر طرقها في جوانب تقليديّة، ولا أن تكون الثّقافة موضع إثارة وضجيج فقط، بيد أنّها لابدّ أن تسع العوالم الأخرى، لتنقلها إلى عالم النّقد والإنتاج معا، فبقدر ما هي ناقدة؛ هي في الوقت ذاته منتجة وملهمة للمجتمع، وفق الآليات المتاحة لها، وهذا ما يحاول النّادي الثّقافيّ حاليا إبرازه، فمن الجلسات الأدبيّة والفكريّة، إلى المحاضرات والنّدوات النقديّة والبحثيّة المتنوعة، إلى الطّاولة المستديرة والّتي تناقش قضايا الشّباب والمجتمع، ورؤية عمان 2040، إلى القراءات الإبداعيّة والكتابية، وفي المقابل تنمية المواهب عن طريق مخبر النّادي في الفنّ والرّسم والسّينما، والورشات الملهمة والمنتجة، وتشجيع الكاتب في دعم إصداره، وغيرها من الجوانب، وفق الإمكانات المتاحة ماديّا ومكانيّا، بيد أنّي كما أسلفت مقدّما النّقد حالة صحيّة، وتفاعل المجتمع مع النّادي حضورا ونقدا وتوجيها؛ هو الّذي يرفع أيّ جهة ثقافيّة أو اجتماعيّة عموما، أيّا كانت صورتها وغايتها.