صحيفة شؤون عمانيّة 1444هـ/ 2022م
ونحن نحتفي اليوم أي الثّامن عشر من ديسمبر باليوم العالمي للغة العربيّة نجد في القرآن أنّه يقرر: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الرّوم/ 22]، فاختلاف الألسنة من آيات الله تعالى في الوجود كاختلاف الألوان، فكما أنّه لا أفضل لأبيض على أسود، أيضا لا يوجد تفضيل لهذه اللّغة على تلك، ولا أفضل لهذا العرق على ذاك العرق، واختلاف الألسنة واللّغات آية من آيات الله تعالى في الوجود، ولهذا يتبين لنا خطأ الرّأي الّذي يرى أنّ تعلّم اللّغات والبحث فيها من العبث وضياع الوقت، أو أنّه لا يصح إلا لتحقيق رواية: [من تعلّم لغة قوم أمن مكرهم] بل تعلّم لغة ولسان الأمم هو تعبّد لله تعالى، وتفكر في آياته، وممّا أمر به سبحانه، ومدح به عباده بتفكرهم وبحثهم وسيرهم في الأرض.
ونجد القرآن يقرر أيضا: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة/ 31] وهذا منطلق كبير للبحث في الألسنة واللّغات، من حيث صوتيّة الأسماء المشتركة بين اللّغات وتطوّرها، وما يمايز الألسنة من اللّغات، وعلاقة اللّهجات باللّغات.
ومع هذا المدرك في سنن الاجتماع البشريّ، أنّ أيّ لغة تتقدّم إنّما تتقدّم باعتزازها وتطوّرها أولا وعدم جمودها ثانيا، ثمّ بقوّة من ينطق بها اقتصاديّا وسياسيّا ومعرفيّا، فعلينا ابتداء ضرورة مراجعة الجانب التّدريسيّ في اللّغة العربيّة، والخروج من تعقيدات النّحاة، وتحبيب اللّغة كجانب تربويّ إلى النّاطقين بها قبل غيرهم، ثمّ ضرورة ترجمة العلوم إلى العربيّة، وتدريس العلوم بها، كذلك ضرورة الاهتمام بالتّرجمة العكسيّة، من العلوم الأخرى إلى العربيّة، ومن العربيّة إلى العلوم الأخرى، وهذه مباحث يطول في تفصيلها الحديث.
وإذا كان العالم اليوم مدركا في ضرورة الحفاظ على جميع اللّغات والألسنة؛ لأنّها موروث إنسانيّ وحضاريّ، وأصبح انقراض اللّغات في عالم العولمة هاجسا يخوّف المجتمع الإنسانيّ من انقراض اللّغات، وهي مكوّن ثقافيّ مهم للمجتمع الإنسانيّ، لا يقل عن خوفهم من انقراض بعض أصناف النّباتات والحيوانات، لهذا خصّص يوم 21 فبراير يوم يحتفل فيه العالم بيوم اللّغة الأمّ أي اللّغة الّتي ولد في بيئتها الإنسان حسب منظمة اليونسكوـ
إلا أنّ العالم أيضا يطرح سؤاله الحالي: هل نحن اليوم بحاجة إلى لغة عالميّة موحدة، وما هي اللّغة المؤهلة لهذا؟
ولمّا كنت في شيكاغو في أمريكا طرحت هذا السّؤال على الدّكتوره سوسن حسنيّ، حيث درّست العربيّة لغير النّاطقين بها لأكثر من نصف قرن، في الإمارات والسّودان والصّين ونيوزيلندا والمملكة المتحدة، فهي ترى ضرورة وجود لغة مشتركة، حيث تشكل لغة التّفاهم بين الجميع، وصعود الإنجليزيّة اليوم كلغة عالميّة موحدة لم ترتبط بالاستعمار كالسّابق، بل لكونها لغة التّكلنوجيا والاقتصاد، فأصبح حتّى الفرنسيين والإيطاليين والأسبان مضطرين إلى تعلم هذه اللّغة، إلا أنّها ترى بعد تجربتها لأكثر من نصف قرن أنّها لو خيّرت في اختيار لغة عالميّة تقول: “أرى من وجهة نظري أنّ اللّغة الوافية الكافية هي اللّغة العربيّة، لكونها لغة غنيّة بالمفردات، تحتوي على جميع المكوّنات لكي تكون لغة عالميّة، ولا أقول هذا تعصبا منّي لكون العربيّة لغتي الأم، بل من خلال دراساتي وأبحاثي، وقد قضيت عمرا طويلا في هذا في الخليج والدّول العربيّة والصّين وأروبا، ووجدتها لغة غنيّة، وليس هذا رأيي فقط؛ بل هو رأي الكثير من الكتّاب والباحثين”.
وكثيرا ما يطرح سؤال: هل اللّغة العربيّة اليوم في مرمى الخطر؟ وشخصيّا لا أرى اللّغة العربيّة تعيش اليوم في مرمى الخطر، فلا زالت من أقوى اللّغات عالميّا، من حيث المفردات والتّراكيب، ومن حيث الفنّ والجمال، إلا أنّها بحاجة إلى إحياء في المجال العلميّ بالتّرجمة، وتدريس العلوم بها، وترجمة المعارف إليها على وجه السّرعة لتضاعف المعرفة عالميّا، مع التّرجمة العكسيّة، أي ترجمة النّتاج العربيّ إلى جميع اللّغات.
كما أنّها بحاجة إلى اعتزاز أبنائها بها، وكما ترى سوسن حسنيّ: “أنّني اليوم أتأسف أن أجد الشّباب العربيّ يضع مصطلحات أو مفردات إنجليزيّة أثناء التّحدث بالعربيّة، مع أنّها وافية وكافية، وأنا عشت أكثر من أربعين سنة خارج الوطن العربيّ، إلا أنني أحاول دائما أن أتحدّث بالعربيّة كاملة، ولا أمزج بين الإنجليزيّة والعربيّة مثلا”.
*ملحوظة: بعض النّصوص منقولة من مقالي: هل اللّغة العربيّة اليوم في مرمى الخطر؟ منشور في شؤون عمانيّة، ومن كتابي التّعارف.