جريدة عُمان، الأربعاء 12 جمادى الثّانية 1447هـ/ 3 ديسمبر 2025م.
صدر مؤخرا عن دار الفلق العمانيّة للنّشر كتاب: “المسيحيّة في عُمان: الإباضيّة والحريّة الدّينيّة والكنيسة”، لمؤلفه أندرو ديفيد تومسون، والكتاب كتب بالإنجليزيّة وترجمته إلى العربيّة رشا جميل صويلح، والمؤلف رئيس مجلس إدارة الأمانة في مطرح القديمة بولاية مطرح سابقا، ومركز الأمانة يعود إلى الطّبيب ويلز توماس ابن الطّبيب شارون توماس (ت: 1971م)، وهو مؤسّس أول مستشفى في عُمان “مستشفى الرّحمة”، واشتهر عند العمانيين باسم “الطّبيب طومس”، والطّبيب ويلز توماس خلف أباه شارون توماس (ت: 1913م) في التّطبيب والتّبشير في الإرساليّة الأمريكيّة الّتي تأسّست في نهاية القرن التّاسع عشر، ومن أبرز مؤسّسيها صموئيل زويمر (ت: 1952م)، وقد وصل زويمر الملقب عند البروتستانت “برسول العرب” إلى البحرين سنة 1892م، وأسّس المستشفى الأمريكيّ في المنامة 1903م، ولا يزال فاعلا حتّى اليوم، ثمّ بنى الكنيسة المشيّخيّة نسبة إلى المذهب البروتستانتيّ الكالفينيّ سنة 1906م، وقد زرت الكنيسة في أبريل 2019م، والتقيت بالقائم فيها القسّ هاني عزيز، وعملت معه حوارا مطولا نشر في كتابي “التّعارف”.

والقسّ صموئيل زويمر أتى إلى عُمان أيضا في فترة مبكّرة، ويقال أسّس أول عيادة للنّساء في مطرح عن طريق طبيبة اسمها “ثيدورا” سنة 1904م، لكن الإرساليّة لاحقا أنشأت عيادة ثمّ مستشفى الرّحمة، كما أنشّات أيضا كنيسة مشيخيّة صغيرة في مطرح، ولا زالت موجودة حتّى اليوم مقابل مركز الأمانة، ولمّا حكم السّلطان قابوس بن سعيد (ت: 2020م) عام 1970م توقف عمل الإرساليّات التّبشيريّة في عُمان، وتحول إلى مركز “الأمانة إلى مركز يعنى بالتّعايش والتّعريف بالسّياحة الدّينيّة في عُمان، ويشرف عليه حاليا وزارة الأوقاف والشّؤون الدّينيّة، ويقوم بعمل نبيل في استقبال طلبة من خارج عُمان، خصوصا من أوروبا وأمريكا، وتعريفهم بعمان وتعايشها وتسامحها ومعالمها الدّينيّة والحضاريّة والثّقافيّة.

مؤلف الكتاب أيضا أي أندرو تومسون يعتبر القسّ الأكبر في كنيسة القدّيس أندرو في أبوظبي سابقا، وعضو في وسام الامبراطوريّة البريطانيّة MBE، وكتب أيضا عن المسيحيّة في الإمارات والكويت، وعن يسوع في جزيرة العرب، والكتاب أكاديميّ يوثق عن الحالة المسيحيّة في عُمان في الواقع المعاصر عن قرب، وبلسان وقلم مسيحيّ، ولست هنا في بيان القراءة الوصفيّة أو النّقديّة عن الكتاب، لكنّه ثريّ وغنيّ بالمعرفة، مع تفاعل المسيحيّة مع الدّولة الوطنيّة العمانيّة عموما، ومع الإباضيّة خصوصا، وعلم تأريخ الأديان (History of Religions) أو المكونات الدّينيّة، خصوصا فيما يتعلّق بالأقليّات الدّينيّة يدخل في المسكوت عنه، ويكاد غائبا بالكليّة عن الدّرس العلميّ والأكاديميّ.
نُشرت مؤخرا بعض الكتابات الّتي لها علاقة غير مباشرة بالتّحولات الدّينيّة، وأقرب إلى تمظهراتها التّبشيريّة والحواريّة والتّجاريّة، مثل: “الحملات التّنصيريّة إلى عُمان” للدّكتور سليمان الحسينيّ، “والنّصارى في عُمان: حوار بين المسلمين والنّصارى في عُمان خلال قرن من الزّمان (1891- 1990م)” من تأليف القسّ الإنجليزيّ ريموند فريدريك سكنر، وترجمه الدّكتور المعتصم المعوليّ، “وتجارة الهنود البانيان في عُمان: منذ قيام دولة البوسعيد عام 1744م وحتىّ بداية نهضة عُمان الحديثة عام 1970م” للدّكتور إسماعيل الزّدجاليّ، ومع أهميّة هذه الدّراسات؛ إلّا أنّها لا تدرس التّحول الدّينيّ في عُمان قديما وحديثا، وتأثير ذلك على الجوانب المعرفيّة والثّقافيّة، واليوم مع نهضة عُمان الحديثة عندنا ما يقارب ثلاثة ملايين ينتمون إلى انتماءات ثقافيّة ودينيّة ومذهبيّة مختلفة، فضلا عن السّائحين، فهؤلاء يتدافعون معنا بثقافاتهم المختلفة، حيث لا زالت النّظرة إلى هذا التّشارك والتّدافع المجتمعيّ من المسكوت عنه معرفيّا وبحثيّا، على مستوى الدّراسات الدّينيّة أو التّأريخيّة أو الاجتماعيّة، وحتّى على المستوى الثّقافيّ العام، ممّا يولد في المستقبل حالة انغلاقيّة في معرفة الآخر والتّعايش معه، خصوصا إذا نظر إليه من زاوية دينيّة مغلقة، كما حدث في حديقة العامرات قبل فترة بسيطة، نتيجة رؤية دينيّة واجتماعيّة أحاديّة في جملتها قاصرة حتّى على مستوى فهم المختلف، وتحمل مضامين خاطئة لأسباب تأريخيّة ومعرفيّة مسبقة، أو نتيجة ثقافة إعلاميّة سطحيّة.
في عُمان الحالة الدّينيّة المختلفة لا تتوقف عند الإرساليّات المسيحيّة، وإن كانت الأبرز كاثوليكيّا نتيجة الوجود البرتغاليّ، والوجود الهنديّ القريب من عُمان، المتدافع مع عُمان تجاريّا وقربا جغرافيّا، ثمّ البروتستانت مع الوجود الإنجليزيّ، بيد أنّه حاليا فيه تنوع أكبر مع العرب الأقباط والسّريان، أرثدوكس وكاثوليك، ومع الموارنة، ومع الكاثوليك والبروتستانت من شرق آسيا وسيرلانكا وغيرها، إلّا أنّ عُمان – خصوصا الشّمال – لا يمكن فصلها تأريخيّا عن كنيسة المشرق الآشوريّة، والمعروفة سابقا بالنّساطرة، وأشار المؤلف في كتابه إلى أبرشيّة “بيت مازوناي” الآشوريّة وأسقفها كان مقرّه صُحار.
الحالة الدّينيّة في عُمان قديما امتدّت ضمن حضارات بلاد ما بين النّهرين والسّند وفارس القديمة، ومن الباحثين من يرى العلاقات امتدّت مع الجانب الدّينيّ عند الفراعنة بين جنوب عُمان ومصر القديمة عن طريق اللّبان، وحضوره في المعابد المصريّة القديمة، تجّسد ذلك في الزّرادشتيّة والمانويّة والغنوصيّة الهندوسيّة قديما، وفي البوذيّة والسّيخيّة في الوقت الحاضر، كما أنّ فارس والعراق واليمن لها تدافع من خلال الوجود اليهوديّ والمسيحيّ قديما، والبهائيّ حديثا، فضلا عن التّدافعات الغنوصيّة والمذهبيّة والكلاميّة والفقهيّة داخل الإسلام نفسه، فهناك العديد من المسكوت عنه بحثا وقراءة وتوثيقا ليس على مستوى عُمان، بل على مستوى الخليج العربيّ، ومع بروز الأقليّات الدّينيّة والعرفانيّة بشكل أكبر في العالم العربيّ الأوسع كالعراق والشّام، إلّا أنّ الانفتاح عليها، ودراستها عن قرب لا زالت ضئيلة، ووفق اجتهادات في غالبها شخصيّة، وكثيرا ما يُعتمد على دراسات بعيدة جغرافيّا وثقافيّا، مع قرب هذه المكونات من الدّارس والباحث ذاته، ممّا يخلق عزلة معرفيّة في العقل الجمعيّ، يؤثّر سلبا في المشاركة الوطنيّة، والمساواة بين أفرادها على المدى البعيد.

