جريدة عُمان، الأربعاء 26 صفر 1447هـ/ 20 أغسطس 2025م
سبق أن كتبتُ مقالة في جريدة عُمان بعنوان “نحو إنشاء مؤسّسة بحثيّة في قراءة القضايا الحيّة”، والغاية منها “رفد المجتمع بقراءات عميقة، كما سيكون لها القدرة في تفكيك البنية الفكريّة والاجتماعيّة”، وبمرور الزّمن يتشكل في المجتمع باحثون “لا يتوقفون عند الاجتهادات الشّخصيّة، ولا عند الانطباعات القاصرة، والمصالح الآنيّة، بل لهم عمقهم المعرفيّ، وإدراكهم العميق للواقع وتحدّياته، وقدرتهم على التّفكيك والنّقد والتّحليل”.
ما أرمي به اليوم في هذه المقالة يتعلّق بجانب أعم من جهة من حيث إطلاقيّة الدّراسات الإنسانيّة، ومنها الدّرس الفلسفيّ تفلسفا ونقدا، وجانب أخصّ من جهة ثانية من حيث التّخصّصّ المعرفيّ بشكل عام في بعض العلوم الإنسانيّة ومنها الفلسفة، ففي عُمان – حسب علميّ – لا يوجد حتّى اليوم مركز أو مؤسّسة مستقلّة ومعنية بهذا الجانب، نعم، وجدت فعاليات فكريّة وفلسفيّة متناثرة في النّادي الثّقافيّ مثلا منذ نهاية الثّمانينات، ولاحقا في جامعة السّلطان قابوس، وكذلك أقيمت بعض المناشط الفكريّة والفلسفيّة كمحاضرات بين حين وآخر كما في مركز السّلطان قابوس العالي للثّقافة والعلوم، كذلك شبكة المصنعة في ولاية المصنعة أقامت بعض الفعاليّات الفكريّة، وبعض الفعاليات صاحبت مهرجان مسقط وخريف صلالة، وفي نهاية التّسعينات من القرن العشرين الميلاديّ أطلق النّادي الثّقافيّ بعض الأسر الثّقافيّة والّتي اقتصرت على المرأة الكاتبة والشّعر والقصّة والعلم ونحوها، ولم تشمل الفكر والفلسفة، وقد توقفت هذه الأسر عام 2008م، وقبلها مع تأسيس النّادي كانت فرق معنيّة خصوصا بالسّينما والموسيقى والتّصوير ونحوها، ولم تشمل الفكر والفلسفة أيضا، وفي مؤسّسة بيت الزّبير أطلقوا المقهى الفلسفيّ، إلّا أنّه بقي فكرة ولم يتحول إلى جانب عمليّ بشكل واضح ومستمر، مع إقامة مؤتمرين للفلسفة ومختبر الفكر ضمن سياقات واسعة تعمل عليها المؤسّسة، وليست تخصّصيّة، مع تقدّمها في إصدار بعض الكتابات الفلسفيّة ومنها للأطفال.
الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء حاولت أن توجد لجانا متخصّصة في هذا المجال، منها لجنة الفلسفة، بيد أنّها لم تستمر طويلا، ولم تقدّم فعاليّات عديدة، حيث تأسّست عام 2014م، وحلّت في 2018م، في هذه الأجواء قمنا – نحن مجموعة من الأصدقاء – بتقديم بديل تمثل في لجنة الفكر ضمن لجان الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء ذاتها، وبحكم الوضع الماديّ وبعض التّقييد الإداريّ اقتصرت على الفعاليّات والورشات الفكريّة والفلسفيّة، ثمّ غيّر اسمها إلى “لجنة الفكر والدّراسات الثّقافيّة”، وأصدرت عملين محكّمين، أحدهما “خارج الأسوار” في الدّراسات الثّقافيّة، وثانيهما “التّحوّل الثّقافيّ في عمان المعاصرة”.
وعلى مستوى المجلّات كان هناك ملحق فلسفيّ في صحيفة الفلق الالكترونيّة، بيد أنّه لم ينتظم، كما أنّه لم يكتب له الاستمراريّة، كذلك صدرت في الفترة الأخيرة مجلّة فصليّة بعنوان “شرق وغرب” عن زوايا للصّحافة والنّشر، وقدّمت بعض الأطروحات الفكريّة والفلسفيّة بأقلام غالبها عمانيّة، إلّا أنّها توقفت أيضا، كما أصدرت وزارة الأوقاف والشّؤون الدّينيّة في 2003م مجلّة فصليّة تعنى بالجانب الفلسفيّ اللّاهوتيّ بشكل عام، والإسلاميّ بشكل خاصّ باسم “التّسامح”، ثمّ غيّر اسمها إلى “التّفاهم”، إلّا أنّها توقفت أيضا، مع غلبة القلم غير العمانيّ فيها، كما انبثق منها “ملحق شباب التّفاهم” بالتّعاون مع صحيفة الرّؤية العمانيّة، وغايتها اقتراب الشّباب والجيل الجديد من مقالات التّفاهم تلخيصا ونقدا ورؤية، إلّا أنّ الملحق توقف كذلك في عدده التّاسع والسّبعين في 2021م، وأخيرا أصدرت وزارة الثّقافة والرّياضة والشّباب عن المنتدى الأدبيّ مجلّة “ثقافة”، وهي تعنى بالثّقافة بشكل عام، وتتضمّن بعض المقالات الفكريّة والفلسفيّة، وهي حتّى الآن تنشر بصورة رقميّة وليست ورقيّة، وقد غيّر اسم المنتدى إلى “مركز الدّراسات الحضاريّة” ليكون أشمل في دراسة الجوانب الإنسانيّة ومنها الفلسفة، لكن أعيد إلى مسماه السّابق.
في بدايات الألفيّة الجديدة كانت هناك اجتهادات فرديّة في الجانب الفكريّ بشكل عام، والفلسفيّ بشكل خاصّ، منها ساحات فرق، وفيها طرحت العديد من الجدليّات الفلسفيّة، كذلك في الحارة العمانيّة كانت بعض الأطروحات الفكريّة والفلسفيّة مع المدونات الشّخصيّة القليلة قبل تشكّل فردانيّة وسائل التّواصل الاجتماعيّ، وصدر في 2013م مجلّة إلكترونية بعنوان “فضاء الفكر” تعنى بالفكر ومنها بعض جوانب الفلسفة، وكانت تصدر كلّ ثلاثاء باسم جماعة التّسامح والفكر والثّقافة منطلقها “فيسبوك”، ولم تستمر طويلا، وبعد عام 2014م كانت هناك ورشة شبابيّة في قراءة الكتب الفلسفيّة خصوصا المترجمة في كليّة الشّرق الأوسط بولاية السّيب، وقد توقفت باكرا، كما أنّ مقهى “هوم لاند” بالمعبيلة الجنوبيّة بولايّة السّيب بدأ في تشكيل مقهى فلسفيّ وفكريّ فاعل عام 2019م، وقدّم حلقات نقاشيّة نوعيّة شارك فيها قارئون وناقدون عمانيّون، إلّا أنّه توقف مع بدايات جائحة “كورونا”، ولم يَعُد بعدها، ولو استمرّ لأثمر في تكوين قاعدة فلسفيّة ونقديّة جيّدة في عُمان، كما وجدت جهود فرديّة في توفير الكتاب الفلسفيّ تجاريّا، ولعلّ أعرقها مكتبة (234) وتطوّرت من مكتبة كتابيه، كذلك روازن ولوتس وبوردرز، ثمّ مجاز وحبر ودار عرب وأخيرا الفلق وغيرها بنسب معيّنة، وأمّا مكتبة (234) فقد انتقلت إلى مبنى مجاز، وروازن تحولت إلى إلكترونيّة، ولوتس توقفت، وهذه جميعها في مسقط، وتوجد بعض المكتبات في المحافظات، وفيها كتب فلسفيّة وفكريّة، كحدائق الفكر في ولاية البريميّ، وفينيق في ولاية صور، كما وجدت مكتبات أهليّة فيها العديد من الكتب الفكريّة والفلسفيّة، كمركز النّدوة في ولاية بُهلا، أيضا بعد 2011م بدأت تنشط المكتبات الالكترونيّة تزامنا مع التّفاعل الأفقي في وسائل التّواصل الاجتماعيّ، ووجدت بعض المكتبات الالكترونيّة المهتمّة بالكتاب الفكريّ والفلسفيّ، أو الموفرة له لكثرة الطّلب، منها معاصرون والبندقيّة وغريبين الّتي تحولت إلى أراجيح وجبران وغيرها.
ما أسلفت ذكره ليس حصرا فهناك جهود أخرى أيضا، حيث ينقصنا وجود قاعدة بيانات متزامنة أفقيّا مع حركة المجتمع في عُمان الحديثة، بحيث تَحصر أفقيّا مثل هذه النّشاطات والتّفاعلات، وتكون متاحة للباحث في كافة التّخصّصات، وما رأيته في معارض الكتب السّابقة – وكتبت عنها أيضا في أكثر من مقالة – هناك إقبال على الكتاب الفكريّ والنّقديّ بشكل عام، والفلسفيّ بشكل خاصّ، وبعد هذا المخاض في السّنوات العشر الماضية، ندرك الحاجة اليوم في ضرورة وجود مركز أو هيئة مختصّة بالدّراسات الفكريّة والنّقديّة والفلسفيّة، ولا يتوقف هذا المركز عند الدّرس الفلسفيّ فحسب، بل ينبغي أن ينتقل إلى التّكوين الفلسفيّ، وأن يكون التّفلسف قريبا من النّاس، ويكون هذا المركز شاملا للفعاليّات والورشات والحلقات الحواريّة والبودكاست والمجلّات والبحوث والكتابات المصاحبة، وضرورة وجوده اليوم لأنّه يسهم في بناء عقليّة منضبطة أمام ما نراه اليوم من خطابات الكراهيّة، ومحاولة العودة إلى تسطيح المعرفة، وإثارة النّعرات الدّينيّة والأثنيّة، ثمّ مع إقبال الشّباب اليوم بشكل واضح على هذا الجانب ينبغي أن يصاحبه معلَم متعلّق بهذا الجانب من المعرفة، ويكون قبلة للضّيف والزّائر لعمان من المختصّين بهذا الجانب أيضا، وللباحثين والطّلبة الّذي يدرسون هنا، أو يزورون السّلطنة لأجل البحث في مثل هذه التّخصّصات من العلوم الإنسانيّة.