ما أجمل القلم حين ينساب في رفق ويفيض في فنجان القهوة سحرا من عبق السبلة العمانية ونكهة الهيل، حكاية تلتقي فيها الذاكرة بالروح، وما أعذب الكلمة حين تنفذ إلى القلب فتحمل أنفاس التاريخ وتشع في الحاضر روحا وحياة مختلفة، هكذا بدا لي مقال الأستاذ بدر العبري الموسوم بالقهوة والثّورة؛ قطعة أدبيّة حافلة بالمعاني، تنقلك من مرافئ عدن ومسقط إلى مقاهي باريس والقاهرة وبغداد، في رحلة يتعانق فيها عبق البنّ مع رياح الفكر، وتستحيل فيها الحبوب البنيّة شرارة للفلسفة، ومقدّمة للثورات، وبوابة لعصور التنوير، لقد قرأت مقاله كمن يقرأ بيانا ثقافيا يذكّر الأمّة بما أهملته من منابع النهضة، فإذا بالقهوة، ذلك الشراب المتواضع الذي بدأ في كهوف كافا الحبشيّة، تتحوّل رمزا للتمرّد على السكون، وحافزا لما في الإنسان من توقٍ إلى المعرفة والحوار، وما المقال إلا دعوة إلى أن نعيد النظر في أمكنة ألفناها حتى ظننّاها عابرة، فإذا هي جسور خفيّة تفضي بنا إلى آفاقٍ أرحب وأبعد.
أجاد العبري إذ ربط القهوة بالثورة، لا ثورة السلاح فحسب، بل ثورة الوعي والذائقة، فالقهوة في تاريخها العماني والعربي والعالمي، لم تكن مجرّد مشروب يُستساغ لطعمه أو يُحتسى للتسلية، بل كانت لقرون منبرا للحوار، ومنطلقا للفكر الحر، ولعلّ ما أورده من شواهد، من مقاهي باريس التي غذّت الثورة الفرنسيّة، إلى مقهى شيزان في كراتشي حيث تبلورت فكرة الاتحاد العماني، يؤكد أنّ الفعل الثقافي لا يولد في المؤسسات الرسمية وحدها، بل في تلك الزوايا المتواضعة التي يتبادل فيها الناس الحديث والفكرة والحلم، والقهوة في عُمان ليست غريبة ولا دخيلة؛ فهي قرينة الضيافة ومفتاح المجالس، يُستهلّ بها اللقاء وتختم بها المودة، غير أنّ العبرة ليست في الشرب ذاته، بل فيما تتيحه تلك اللحظة من صفاء ذهن وانفتاح قلب، وما تهيّئه المقاهي من فضاء حرّ يلتقي فيه المختلفون على مائدة واحدة، بلا قيود سوى قيود الذوق واللياقة.
إنّ من يتأمّل تاريخ عُمان البحري والتجاري، يلمح أنّ القهوة لم تكن مجرد سلعة تصدّر مع قوافل اللبان والتمور، بل كانت جسرا للتواصل الحضاري، لقد حملت سفن مسقط وصور البنّ اليمني إلى موانئ الهند وفارس وشرق أفريقيا، وحملت معها أيضا لغة من المودة والتعايش وقبول الآخر المختلف، ومن تلك الرحلات البحرية نشأت المقاهي على الشواطئ، فكانت أشبه بملتقيات ثقافية تجمع البحارة والتجّار والشعراء، يروون أخبار الأسفار ويتبادلون أطراف الحكايات، واليوم ونحن نعيش عصر المدن الحديثة والمولات الزجاجية، تتجدّد للمقاهي العمانية فرصة لأن تستعيد دورها التنويري، فمقاهي مطرح ومسقط وصلالة وصحار، بما تحتضنه من جلسات شبابية ولقاءات فكرية، ليست بعيدة عن تلك الروح التي صنعت مقهى الفيشاوي في القاهرة، أو الزهاوي في بغداد، بل إنّ في هدوء العماني وتسامحه ما يضفي على اللقاءات طابعا فريدا، فالمقهى هنا ليس صخبا للثرثرة وحدها، بل مجلس تأمّل وتدارس، حيث يمكن للأديب والفنان والناشط الحقوقي أن يتجاوروا على طاولة واحدة دون رهبة.
لقد علّمنا التاريخ كما أشار العبري، أن الأفكار الكبرى لا تولد في قاعات البرلمان وحدها، بل في تلك المجالس الصغيرة التي يختلط فيها اليوميّ بالكونيّ، فمقاهي لندن وباريس كانت مهدا للثورات الفكرية، ومقاهي القاهرة وبيروت وبغداد منارات للنهضة العربية، ولئن كان لكلّ مدينة مقهى ارتبط باسم مبدعها، فإنّ عُمان بما تحمله من رؤية طموحة وانفتاح على العالم، جديرة بأن تجعل من مقاهيها مختبرات للأفكار، ومشاتل للإبداع، ومنصات للحوار المدني الهادئ، والمقهى بما فيه من بساطة، يعلّمنا دروسا في الديمقراطية اليومية، طاولة مستديرة، مقاعد متساوية، حوار بلا منابر، وفكرة تنتقل من فم إلى فم بلا وسائط ولا بروتوكولات، هنالك ينصت المثقف إلى النادل، ويجادل الطالب أستاذه، ويتجاور الشاعر مع الحرفي، فيتحقق ما تعجز عنه قاعات المؤتمرات المهيبة.
ولقد أحسن الأستاذ العبري حين لفت إلى التحوّل الحديث في طبيعة المقاهي، إذ صارت بعض المقاهي صالونات ثقافية معلنة، تقام فيها الندوات وتوقَّع الكتب وتُعزف الموسيقى، غير أن سرّ المقاهي الحقيقي يظل في عفويتها؛ في ذلك اللقاء الذي لا ميعاد له، والنقاش الذي يولد من مصادفة بين غرباء، فيتحوّل إلى صداقة فكرية وربما مشروع ثقافيّ، ومن هذا التفاعل العفوي خرجت في التاريخ أعظم الحركات الفكرية والفنية، وعُمان اليوم أحوج ما تكون إلى هذه الروح؛ فالتنمية الاقتصادية، مهما بلغت، لا تزدهر بلا حوار ثقافيّ متواصل، والمقهى بما يتيحه من مساحة للجدل والتلاقي، يمكن أن يكون رافدا مهمًّا لرؤية عُمان 2040 التي تؤكد على الابتكار والمجتمع المعرفي.
إنّ تعقيبنا على مقال القهوة والثورة ليس مجرّد إطراء، بل هو استجابة لدعوة ضمنية أطلقها الكاتب حين أعاد إلينا ذاكرة المقاهي بوصفها فضاءات للحرية والإبداع، ومن هنا يحق لنا أن نناشد المؤسسات الحكومية والخاصة والمجتمع المدني أن يلتفتوا إلى هذه المساحات، أن يدعموها ببرامج وفعاليات، وأن يصونوها من رتابة الاستهلاك التجاري، فالمقهى ليس مشروع اقتصاديا فحسب، بل هو مشروع حضاريّ يختبر نضج المجتمع وقدرته على الحوار، وقد أعاد إلينا الأستاذ العبري بفنجان قهوته عبق التاريخ وروح المستقبل، وإذا كان قد أضاء لنا الطريق إلى مقاهي باريس والقاهرة وبغداد، فإنّ واجبنا أن نعيد الضوء إلى مقاهينا العمانية، فنغرس فيها شتلات الفكر، ونفتح أبوابها للندوات والقراءات والموسيقى، حتى تصبح بحقّ مصانع للوعي، ومعابر إلى النهضة، ولتكن قهوتنا في بيوتنا ومقاهينا رمزا للصفاء والحوار، ولتكن طاولاتها منابر حرّة تتعانق فيها الكلمة مع الفكرة، فيتولّد من لقائهما بريق يوقظ العقول ويشحذ الهمم، فالمقاهي – في تقديري – متى أحسن استثمارها، قادرة على أن تكون جسرا بين الأجيال، وموئلًا لتلاقح الأفكار وتداول الرؤى، ومسرحا يتبارى فيه العقل والخيال.
خليفة بن سيف الحوسني، ولاية صلالة، 24/9/2025م
لقراءة مقالة القهوة والثّورة لبدر العبريّ
