المقالات الدينية

نظريّة الرّق عند عبد الرّحمن الكواكبيّ

عادة الرّق والرّقيق عادة متوغلة في التّأريخ الإنسانيّ، وارتبطت بالمجتمعات الإنسانيّة، وبالتالي ارتبطت بالأديان والملل، وقامت ثورات بسببها؛ لأنّ العديد استعبد ظلما وزورا، وقامت حروب لأجل استعباد النّاس، وأقدم هذه الثّورات ثورة الزّنوج في الدّولة العباسيّة في القرن الثّالث الهجريّ، حيث ثاروا على المالكين بسبب استعبادهم وسوء المعاملة معهم!!

وفي الدّنمارك عام 1792م أعلن تحرير العبيد لأول مرة، ومنع الاتجار بهم، ومن ثم بريطانيا وفرنسا، وهكذا حتى مؤتمر فينا 1814م الّذي قررت فيه الدّول الأروبيّة الغاء الرّقيق فيها وفي مستعمراتها.

ولا شك إلزام المستعمرات ومنها العربيّة والأفريقيّة حينها بإلغاء الرّق سيحدث صدمة كبيرة تجاه السّلطتين خصوصا: السّلطة الدينيّة والسّلطة الاجتماعيّة، والّتي اعتادت على ذلك سنين، ومستفيدة منه ماليّا واجتماعيّا، مع تصورها أنّه من صميم دينها!!

وهنا لما نتحدث عن الجانب الدّيني نخصص الحديث حول الرّأي الإسلاميّ في هذا قرآنا وفقها، وبشكل طبيعي سيكون الحديث حينها من النّوازل، بل حتى السّؤال يطرح حتى اليوم لوجود آيات تشير إلى الرّق من حيث تحريره، وإلى العبد في القصاص، وإلى ما ملكت اليمين، وقد تحدّثتُ في كتابي فقه التّطرف [ص: 70 – 72] عن استعباد البشر ورؤية الخط القرآنيّ في ذلك يمكن الرّجوع إليه.

الّذي يهمني هنا رؤية المصلح السّوريّ الكبير العلامة عبد الرّحمن الكواكبيّ [ت 1902م]، فقد حرر المسألة فقهيّا منذ فترة مبكرة وفق رؤية تقدّمت العديد من علماء عصره، كيف لا وهو صاحب الكتاب الشّهير: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد.

وقد نشرت مجلّة المنار لصاحبها محمد رشيد رضا [ت 1935م] مقالا للكواكبيّ بعنوان تجارة الرّقيق وأحكامه في الإسلام، وذلك بتأريخ 16 من ذي القعدة 1323هـ يوافقه 11 يناير 1905م، حيث قدّمت المجلّة المقال بقولها: من آثار المرحوم السّيد عبد الرّحمن أفندي الكواكبيّ الشّهير، كتبها بعد سياحته الأخيرة قبل موته، أي قبل 1902م.

ونشر محمد عمارة [معاصر] المقال في كتابه عبد الرّحمن الكواكبيّ: الأعمال الكاملة، ط دار الشّروق، القاهرة/ مصر، الطّبعة الثّالثة، 2014م، ص: 548 – 555.

والمقال رد على أحد الكتاب الغربيين الّذين تهجموا على الإسلام في تجارة الرّقيق، والّتي لا تزال تمارس في شرق أفريقيا وزنجبار وسواحل جزيرة العرب، وهذا ناشئ من القصور للمؤتمر الدّوليّ في زنجبار.

علما أنّ زنجبار حينها تحت حكم العمانيين والعرب، حيث في 6 يونيو  1873م قام السّلطان برغش بن سعيد سلطان زنجبار [ت 1888م] بإلغاء تجارة الرّقيق، ومنع سوق النّخاسة، لذا يعلل الكواكبيّ حصول ما ذكره الكاتب نتيجة بقيّة لا زالت تمارس هذا العمل بشكل غير قانونيّ، ومن الأفارقة أنفسهم، ويتمّ تهريبهم في سفن ليست حرة ولا مرخصة، بل تخاف من بواخر حراسة الرّقيق، لذلك تترصدّ أواخر الشّهر القمريّ لتغتم السّير في الظّلام الدّامس، فتقلع من السّاحل الأفريقيّ إذا صادفت الرّيح عند غروب الشّمس وتصبح في شاطئ جزيرة العرب، ومن العبيد من يُصدّر مع قوافل الحجاج عند طريق جدة، فيهجرون إلى نجد واليمن وسورية، ولهذا يطلب الكواكبيّ من السّفارات في الآستانة عاصمة الدّولة العثمانيّة إلزام حكومة الحجاز منع بيع الرّقيق خصوصا في سوق [الدّكة] في مكة سوق العبيد حينها!!

وهنا ينتقل الكواكبيّ إلى الشّق المهم من مقاله، وهو قضيّة الرّق في الإسلام، ويبين الكواكبيّ أنّ أصل الكتابة في هذا مذاكرة بينه وبين أحد العلماء المسلمين من مشاهير الأحرار والكتاب السّياسيين، ولم يذكر اسمه، إلا أنّ المنار عقبت بقولها: لا يخفى على القارئ أنّه يعني بهذا الصّديق الأستاذ الإمام، أي محمد عبده [ت 1905م].

والكواكبيّ تتمثل نظريته في الرّق في الإسلام أنّها نظريّة ظرفيّة وليست مطلقة، لهذا يرى أنّنا لا ننكر وجود أحكام الرّق في الإسلام، وأنّه جوّز كسائر الأديان، إلا أنّه قصد إبطال الرّق بالتّدريج، لما أسلفنا من ارتباط اجتماعيّ بالرّقيق حينها، لهذا استلهم الكواكبيّ نظرية الإبطال التّدريجيّ، مع نظريّة الظّرفيّة من خلال هذه الأحكام الفقهيّة القاسية كما يرى:

  • حصر الرّق فقط في المتولدين من أبوين رقيقين، وأن يكونوا من أسرى الحرب من غير المسلمين وغير العرب والأقارب، وأن تكون الحرب قانونيّة، وعليه ما يحدث الآن غير قانوني!!
  • الاسترقاق غير الشّرعيّ من المحرمات العظيمة في الإسلام، ويأتي بعد قتل النّفس أي من حيث الدّرجة، ولعلّه مرتبط بالنّفس لأنّه قتل لحرية الإنسان، بيد أنّ المشهور عند علماء المقاصد أنّ حفظ العقل بعد حفظ النّفس، وعليه رأي الكواكبيّ يدخل في دائرة حفظ النّفس، وأدخلته في كتابي فقه التّطرف في دائرة حفظ العرض والنّسل، إلا أنّ إدخاله في حفظ النّفس ليس ببعيد!!
  • جعلت الشّريعة العتق الكفارة الوحيدة لجملة خطايا تعبديّة عديدة: اليمين والنّذور والصّيام والظّهار، وجعلت العتق أفضل من النّذر.
  • جعلت الشّريعة  العتق أهم ما يوصي به الإنسان بعد موته، وأفضل ما يتقرّب به الإنسان إلى ربه سبحانه وتعالى.

وفي المقابل ذكر الكواكبيّ أيضا مجموعة من الحقوق المحامية عن الحرية في الشّريعة الإسلاميّة وتتمثل في:

  • الرّق يسقط حال ادعاء الإنسان أنّه حر؛ لأنّ الأصل الحريّة وليست العبوديّة، وفي المقابل لو ادعى أنّه عبد ولو ألف مرة لا يسلب حريته!!
  • تسقط العبودية لو وردت لفظة من المالك هزلا أو مزحا، أو حتى حال كونه غضبانا أو سكرانا!!
  • رق الأنثى يسقط بمجرد أن تلد ولدا من مالكها، فتصير حرة بعد موته، وأولاده أحرار!!
  • للقاضي الحق أن يعتق وكذا لخليفة المسلمين إذا كان مجتهدا، خاصة إذا كان الاستعباد لشبهة!!

وهنا يرى الكواكبيّ أنّ شريعة الإسلام أول شريعة دافعت عن الحرية، ونادت بإبطال الرّق، إلا أنّه كما جرفت سيول برابرة الشّمال رياض الرّومان واليونان فأوقعتهم في القرون الوسطى المظلمة؛ فكذلك فعلت سيول المغول وإخوتهم رياض العرب فأوقعتهم في مثل هذه القرون المظلمة!!

وهنا يتطرق إلى الأمراء المسلمين والّذين يعيشون النّفاقين: نفاق التّظاهر أمام الغرب أنّهم الغوا الرّقيق، ونفاق الاستفادة من الوضع الاجتماعي لتحقيق مآربهم، وأنّهم يتظاهرون مع الإسلام والدّين، وعليه يقول الكواكبيّ: أنّ مسامير الرّق في الحقيقة هي كبرياء الأمراء والمقلدين لهم وليست هي الإسلام نفسه، كما يفترون عليه!!

وهنا يشير إلى قضيّة مهمة وهي أنّ المشكلة بعد الأمراء هم علماء المسلمين خصوصا الأحرار، الّذين سكتوا عن الأمراء خوفا أو محاباة لهم، فيضرب مثلا تسلي هؤلاء الأمراء بنساء الكرج والجركس، مع أنّه لم تقم حرب مع الكرج لقرن ونصف، والجركس مسلمون فكيف يستعبدون!!!

ولهذا يرى الكواكبيّ أنّ العلماء إن لم يبينوا هذا الخلل في الكرج والجركس لزمهم التّصريح أنّ جميع هؤلاء الأمراء ليسوا أولادا شرعيين، حيث لا همّ لهؤلاء الأمراء إلا المتعة وتكثير النّسل!!

وهنا يفند الكواكبيّ دعوى حاجة المسلمين للرّقيقات بدعوى الخدمة، وكذا خصيان الذّكور أو الغلمان بدعوى الخوف على النّساء، فأما الأولى هي من الكبرياء والعظمة وتقليد الأمراء، ولا ضرورة فيه، وأمّا الثّانية فالإسلام حرّم خصاء الحيوانات فضلا عن الإنسان، وكونهم تمّ إخصائهم لا يرفع عنهم أحكام الذّكور مع النّساء!!

وفي الأخير يوجه الكواكبيّ رسالة شكر إلى أروبا قائلا: الشّريعة الإسلاميّة وعلماؤها الأحرار يشكرون أروبا على منعها الرّقيق، وهم مسرورون من نجاح سعيها لتحقيقة، ويتمنون لو أنّ أروبا تهتدي إلى وسيلة تكون قاطعة مانعة بها يسد باب الرّقيق بالكليّة!!

وهنا يذكر بعض المقترحات الّتي قدّمها الإمام محمد عبده إلى أروبا استكمالا لهذه الطريقة الحسنة، وتتمثل في ليس مجرد المنع وإنّما نشر ثقافة الاستقباح من النّظرة الدّونيّة إلى الجنس الأسود، وكذا استقباح أسر النّساء البيض بلا جرم ولا اختيار، كذلك يقترح أن تكلّف سفراءُ القسطنطينيّة وطنجة وطهران وكابول والقنصليات في تونس ومصر وجدّة المفتين من علماء العواصم الإسلاميّة بجميع المذاهب عن السّؤال التّاليّ: ما قول علماء الشّرع الإسلاميّ المحترمين في الإنسان: هل يصح اعتباره رقيقا بشرائه من أوليائه أو بالسّرقة أو بصورة الأسر في حرب قامت بها فئة صغيرة مسلمة خرجت عن الجامعة الإسلاميّة؟، شريطة أن يكون الجواب باللّغة العربيّة وواضحا حتى لا يتلاعب به أثناء التّرجمة، وهذا يضع حدّا أمام هؤلاء الأمراء، ومن يبرر لهم من العلماء لإرضائهم والاستفادة منهم.

هذا مجمل ما كتبه الكواكبيّ من خلال مذاكرته مع محمد عبده – رحمهما الله ورضي عنها – وهو في الجملة جواب متقدّم جدا، مقارنة بجمود العقليّة المسلمة حينها، واستفادة الأمراء المستبدون والعلماء النّفعيون والتّجار والرأسماليون من هذا الجمود، ونسبته إلى الإسلام ظلما وزورا!!!

مجلّة الصّحوة الالكترونيّة 1439هـ/ 2018م

السابق
الشّباب وقضايا الواقع
التالي
الاستهلاك ضرورة فرديّة ومجتمعيّة
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً