شهادات عن صاحب الموقع

التّنوّع بوصفه قدرا إنسانيّا: العراق كما رآه بدر العبريّ

خليفة الحوسنيّ

عرفت الأستاذ بدر العبري منذ نحو تسع سنوات، وقرأت له معظم أعماله، ورافقته في دروب الحياة ومشاوير المعرفة، وقد خبرت منهجه البحثي العلمي التنويري الذي يمزج التأمل العميق بالفهم المتجدد للإنسان والمجتمع، وما يميّز هذا المنهج أنه لا يسعى إلى تقديم إجابات جاهزة أو تقييمات سطحية، بل إلى طرح الأسئلة الكبرى التي تقودنا إلى استكشاف جوهر الإنسان ومجتمعه، وفي نصه الأخير (العراق كما رأته) – المنشور بجريدة عُمان، العدد (15692)، 1 أكتوبر 2025م، ص13، يتجلى هذا المنهج بشكل واضح، حيث يتجاوز المقال حدود الوصف الجغرافي أو التاريخي ليغدو مساحة للتأمل الفلسفي والإنساني، تسائل الإنسان عن قدرته على العيش مع الآخر المختلف، وعن إمكانية بناء مجتمع يحترم التنوع ويصون الكرامة الإنسانية.

حين يصف بدر العراق، فهو لا يراه مجرد فضاء جغرافي أو إرث تاريخي، بل كمرآة تتجلى فيها تجربة الإنسان في مواجهة التحديات والاختلافات، فالبلاد كما يشير، هي ميدان اختبار للقدرة على التعايش، حيث تتقاطع المذاهب والديانات والإثنيات، ويُختبر فيها الإنسان في جوهره الإنساني، وهنا يتضح ما ذهب إليه تولستوي في رؤيته للإخاء الإنساني، إذ يقول: “الحياة لن تكون كريمة إلا حين يشعر الإنسان بأخيه الإنسان كما يشعر بنفسه”، ويصبح التحدي الأكبر هو تحويل التنوع إلى طاقة للبناء لا إلى سبب للفرقة والانقسام.

ويظهر هذا الإخاء في لقاءات بدر مع الشباب العراقي، في المقاهي، وفي المجامع الثقافية، حيث يلمس روحا منفتحة قادرة على الحوار والتفاعل، على الرغم من الجراح التي خلفتها سنوات الحرب والصراعات الطائفية، إن الإنسان العراقي، كما يراه الكاتب، قادر على تجاوز الانتماءات الضيقة إذا أتيح له المجال للحوار الحر، وفي هذا المعنى يصبح العراق نموذجا حيًّا للتجربة الإنسانية، وصورة مركزة لما يمكن أن تكون عليه الأمة إذا نجحت في إدارة تنوعها.

ويشير علي عبد الرازق إلى أن فصل الدين عن السياسة ضرورة عقلانية لبناء دولة عادلة، فحين يتحول الدين إلى أداة للهيمنة تفقد السياسة قدرتها على النقد والمساءلة، ويصبح الإنسان أداة في صراع مقدس لا يرحم، وهذا ما ينعكس في قراءة بدر للواقع العراقي، إذ يؤكد أن استخدام الدين والمذهب كوسائل للسلطة كان سببا رئيسيا في تمزق المجتمع، وأن الحل يكمن في إعادة الاعتبار للإنسان، لا للهويات الفرعية، وفي الفصل الواعي بين ما هو ديني وما هو سياسي، وكما ذهب طه حسين إلى أن النهضة الحقيقية لأي أمة تبدأ بفهمها للتنوع الثقافي والفكري، وقراءتها للنصوص والتجارب بعين نقدية بعيدة عن الجمود والاستعراض، وهو ما يتقاطع مع ما يعرضه بدر، إذ يدعو القارئ إلى قراءة العراق ليس كماضي مجيد أو حاضر منكسر فحسب، بل كمساحة للدرس المستمر وفرصة لاستثمار ثراء التجربة الإنسانية في بناء المستقبل، فالأمة التي لا تتعلم من جراحها محكوم عليها أن تكررها، والفرصة الحقيقية تكمن في تحويل الألم إلى معرفة، والخلافات إلى أدوات بناء.

وفي المقال، يبدو العراق أكثر من مجرد بلد، إنه تجربة معرفية، ومساحة للتأمل، وميدان اختبار للإنسانية في جوهرها، فالخيط الذي يشد النص كله هو فكرة الإخاء الإنساني؛ ذلك المبدأ الذي يرى في كل إنسان شريكا في التجربة البشرية لا خصما أو عدوا، وهذا الإخاء ليس شعارا تجميليا، بل قاعدة وجودية، وإلا فستظل المجتمعات محكومة بالصراعات العبثية، ويظل الإنسان ضحية لقيود الموروثات والانقسامات، وفي هذا يلمس القارئ جوهر رؤية بدر، إذ يرى أن احترام الآخر المختلف ليس رفاهية أو خيارا، بل شرط أساسي للحياة الكريمة، وبين ثنايا النص نجد أن العراق، رغم كل الحروب والصراعات، لا يزال يحتفظ بحيويته الثقافية والفكرية، إذ تمتلئ القاعات بالمحاضرات الأدبية، وتستمر المقاهي في كونها منابر للقاء الأفكار، ويجد الزائر في وجوه الشباب أملا صادقا في مستقبل يتجاوز التحيزات الطائفية والمذهبية، وهنا يكشف بدر أن السلام الحقيقي لا يأتي من قوة السلاح أو فرض المذهبية، بل من قبول الآخر وممارسة الحوار بحرية وصدق، ومن الاعتراف بأن الإنسان، في جوهره، كائن يستحق الكرامة بصرف النظر عن انتمائه.

ومن هذه الرؤية تتفرع مسؤولية المثقف العربي، إذ لا ينبغي له الاكتفاء بوصف الواقع وصفا محايدا، بل أن يسعى إلى إعادة بناء الوعي الجمعي على أسس أكثر إنسانية وعدلا، فالمثقف ليس واعظا يطلق الشعارات، ولا مؤرخا يسجل الوقائع، بل شاهدا يضيء، وناقدا يوجّه، وصوتا يحمي فكرة الإنسان من أن تسحق تحت أقدام السلطة أو التعصب، وهكذا تغدو قراءة العراق بعين بدر العبري قراءة لأنفسنا جميعا، ودعوة لنا جميعا إلى تجاوز النزاعات القديمة، وإلى بناء مجتمع يرتكز على المواطنة والعدل والاحترام المتبادل.

ويختم النص بمغزى إنساني شامل، يذكّرنا بأن المهمة الكبرى ليست في وصف العراق أو تاريخه فحسب، بل في استخلاص الدروس الإنسانية، والعمل على أن تكون مجتمعاتنا أكثر رحمة وعدلا، وأن يعيش الإنسان العربي الإخاء الإنساني الذي كان تولستوي يحلم به، إن العراق كما رآه بدر، ليس مجرد بلد، بل سؤال وجودي للجميع: هل نستطيع أن نعيش إخوة في الإنسانية رغم اختلافاتنا؟ وهل سننجح في تحويل تجربة الألم إلى معرفة، والاختلاف إلى مصدر قوة؟ هذا السؤال، أكثر من أي وصف تاريخي أو جغرافي، هو الذي يترك أثره العميق في القارئ، ويجعل من نص بدر العبري قراءة ضرورية لكل من يسعى لفهم الإنسان، والمجتمع، والحضارة، والتعايش الذي يضمن استمرار الحياة الكريمة لكل شعوب المنطقة.

خليفة الحوسني، ولاية الخابورة، السبت: 04/10/2025م

لقراءة مقالة: العراق كما رأيته

السابق
العراق كما رأيته
التالي
النّوادي الثّقافيّة الأولى في عُمان
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً