المتأمل والمتدبر للقرآن الكريم يجده لا يخرج عن ثلاثة خطوط أو معالم: الخط التّكوينيّ، والخط التّشريعيّ، والخط الجزائيّ، وفهم هذه الخطوط الثّلاثة، وإنزالها في منازلها؛ يساعد في تجاوز الفهم الخاطئ للقرآن الكريم، وبالتّالي إنزاله بشكل سلبيّ، أو بشكل فئويّ، وقد ينزل بشكل متطرف، ممّا يُساء الفهم إلى الكتاب ذاته!!
أمّا الخط التّكوينيّ فمعناه راجع في ماهيته وتكوينه إلى الله سبحانه وتعالى، وما جُعِلَ في الطّبيعة من سنن وآيات يجب على البشر كشفها، وتسخيرها في خدمة الإنسان، والقرآن مليء بالآيات التّكوينيّة، ومنها قوله تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الرّوم/ 22]، حيث الإنسان لمّا خرج إلى الحياة لم يخيّر أيّ بلد أو دين أو لغة أو لون يختار، فلمّا ولد في بيئة يهوديّة أصبح يهوديّا، ولو ولد في بيئة نصرانيّة أو مسلمة لأصبح نصرانيّا أو مسلما، وهكذا بالنّسبة لفصول الجنس البشريّ وأنواعه ولغاته، فهو غير مخير في هذا، وهذا يدخل في الجانب التّكوينيّ!!
لهذا كان هذا الجانب من آيات الله تعالى، وكشفه وتدبره وتأمله هو كشف لهذه الآيات، والتّعدد فيه عنصر ثراء للإنسان والبشريّة جميعا، ومصداق هذا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات/ 13]، وأمّا التّفاخر بالأجناس والألوان واللّغات فمخالف لمقصد الآيات التّكوينيّة في القرآن الكريم.
ثمّ إنّ هذا الاختلاف لا علاقة له بالجانب الجزائيّ؛ لأنّ الإنسان لن يُسأل يوم القيامة عن الجانب التّكوينيّ، وفي رواية مسلم [ت 261هـ] من طريق أبي هريرة [ت 59هـ] مرفوعة إلى النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم -: ومن بطّأ به عمله، لم يسرع به نسبه؛ لأنّ النّسب جانب تكوينيّ لا علاقة له بجانب الجزاء الأخرويّ، عكس العمل فهو جانب تشريعيّ مرتبط بالجزاء الأخرويّ!!
ومن خلال هذا الجانب نستطيع أن نفهم أيضا قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة/ 62]، وذلك لأنّ الإنسان لم يخير أن يكون مؤمنا أو يهوديّا أو نصرانيّا أو صابئا – فهذا جانب تكوينيّ كما أسلفنا – وإنّما عليه أن يبحث ويستخدم قدراته الحواسيّة، فإن مات مؤمنا بالله وعمل صالحا على ما أدركه من خير وعمل صالح فله أجره عند ربّه!!
وأمّا الجانب التّشريعيّ فهو الجانب الكشفيّ والإنزاليّ، فالإنسان مطالب أن يكشف سنن الله ليستعمر الأرض صلاحا كما قال سبحانه: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف/ 56]، كما أنّه بين: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [إبراهيم/ 32 – 33]، لهذا أمر: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت/ 20].
والله مشرع، والنّسبة إليه لابدّ من دليل قطعيّ، فلما قال سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة/ 110]، فهذا تشريع إلهيّ، وهو قطعيّ من حيث أصل الوجوب، وقد يحوي الأصل إطلاقات تتعدد بها الفهوم كقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة/ 187]، فاختلف في الخيط الأسود أهو نزول الشّمس وغيابها عن الأبصار، أم طلوع النّجم والحمرة المشرقيّة، فهذا ممّا يسع الاختلاف حوله، وكقوله سبحانه في الوضوء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة/ 6] فواو أرجلكم هل تعطف على الوجه واليدين، أم إلى أقرب مذكور وهو الرّأس، فهنا وقع الخلاف هل في الأرجل المسح أم الغسل أم المسح مخصوص على الخفين، أم لابدّ من غسل الرّجلين!!! فهذه الفهوم طبيعيّة، لذا تعددها ثراء معرفيّ وعمليّ، ولا يصح التّنازع والخصام والشّقاق بسببه!!
وأحيانا سبب الخلاف التّقيدات والمخرجات البعدية، إمّا بسبب الرّوايات أو العقل أو العرف ونحوه، ومثل هذا قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة/ 180]، فالأصل للوالدين جزء من الميراث والوصيّة، والجمهور رفعوا هذا الحكم برواية: لا وصية لوارث، ومنهم من رفع الحكم إذا كان يرث، أمّا إذا كان لا يرث لسبب الدّين أو القتل فإنّه يُعطى من الوصيّة، وقيل له الحقان ولا يرفع بحال لأنّ الكتاب مهيمن على الرّواية، والقطعيّ مقدّم على الظّنيّ، وعليه هل ينسخ الظّنيّ القطعيّ، وهل يخصص الظّن القطعيّ؟ فهذه تؤثر في الفهومات، والمصاديق تؤثر في الأحكام، وبالتّالي ينزل الحكم من درجة القطعيّ في الدّلالة وإن كان قطعيّا في الثّبوت، وعليه تتسع هنا دائرة الرّأي، فلا معنى للنّزاع والخصام!!
وكذا الحال قد يكون التّشريع ظرفيّا لسبب قيد ظرفي، ونحو هذا قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التّوبة/ 5]، أي إذا انتهت المدة في الهدنة، ولم يرجعوا إلى السّلم، وأصروا على الاعتداء، فيقاتل المعتدي، ولا تعني الآية قتل غير المؤمن إن كان مسالما، وليس معتديا، فهذه من الآيات الظّرفيّة، والحديث حول القيود والمصاديق الخارجيّة يطول حوله المقام، ويصعب حصره في مقال!!
والرّسول أيضا مشرع، فقد شرّع العديد من الأدبيات في وقته الظّرفيّ والزّمانيّ، ومن ذلك مثلا رواية الرّبيع بن حبيب [ت بين 171هـ – 180هـ] من طريق أبي سعيد الخدريّ [ت 74هـ] عن النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – قال: لا يخطبنَّ أحدكم على خطبة أخيه، ولا يساوم على سوم أخيه، إلا أنّ النّسبة إلى الرّسول إن لم ترد من دليل متواتر قطعيّ، وهذا صعب حصوله إلا إذا كان تواترا عمليّا؛ هنا في حال الأول – وهو الأكثر – تبقى النّسبة ظنيّة، فضلا عن تفكيك الرّوايات المنسوبة ومصاديقها، كلّ هذا يوسع من دائرة الرّأي الّذي يسع الخلاف حوله، ويضيّق دائرة الدّين والقطع!!
وكذا الحال في العقل البشريّ أيضا هو مشرع، فالفقيه على طول التّأريخ شرّع العديد من الأحكام خاصّة في النّوازل كتشريعات القسمة والأفلاج والطّرق والأسواق، واليوم العقل كذلك لا زال يشرع، فهذه أحكام الطّرق والبنوك وهيئات الاتصال وغيرها ممّا توصل إليه العقل البشريّ اليوم!!
وأمّا الجانب الجزائيّ فهو متعلّق بالجانب التّشريعي القطعيّ، من أوامر ومحرمات، ممّا دلّ عليه الشّرع أو العقل، وما اجتهد فيه الإنسان من قضايا رأي واسعة لم يضر فيها نفسه أو مجتمعه فهو ممّا يسع أمره، إلا أنّ هذا الجزاء مختص بالله سبحانه وتعالى وحده، ويجمل هذا الله في سورة الشّورى حيث يقول: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشّورى/ 15]، فهذه الآية تشمل الجانب التّكوينيّ من سنّة الاختلاف، والجانب التّشريعيّ في تحقيق العدل بين الجميع، والجانب الجزائيّ وهو بيد الله تعالى وحده لا شريك له: الله يجمع بيننا وإليه المصير!!
والمشكلة أنّ النّاس ينازعون الله تعالى في هذا، ويخلطون بين القوانين الّتي عليهم أن يلتزموا ويبلغوها، وبين الإنزال الّذي هو بيد الله، والخلط يحدث في التّكفير والتّشريك والتّفسيق وإنزاله، وهذا مباحث مستقلّة لا يمكن الحديث حولها هنا لضيق المقام.
والجانب الجزائيّ متعلّق بالعدل الإلهيّ من حيث الجانب التّكوينيّ، وما وصل للإنسان من تشريع، وما خلص إليه عقله مبتغيا الحقيقة ورضا الله تعالى، لا أهواء النّفوس وملذاتها القاصرة!!
صحيفة الصّحوة 1439هـ/ 2018م