المقالات النقدية

وقفة مع حفظ المتون وسرعة تطور المعرفة

دخلتُ مرة مسجدا ما، ووجدتُ رجلا يطوف حول المسجد، ويحمل كتيبا يحفظ منه نظما في الأصول، فسألته: كم تحتاج من الوقت لحفظه؟ قال يحتاج فترة!!

قلتُ: هل تفهم كلّ ما فيه؟ قال: لا!!!

قلتُ: وستحتاج إلى مراجعته، وأغلب من حفظ المتون في الماضي مع شغل الحياة يرتفع عنهم ….

أقول هذا محترما لمن يرى خلاف رأيي في حفظ المتون …

في العام الماضي ركب معي في السيارة شخص ممن درس على المشايخ وهو كبير في السن فقال لي: رحم الله الشيخ الفلاني لو فرغنا حينها في القراءة والاطلاع والبحث والكتابة، لكانت تلك الساعات معه خيرا كثيرا، فقد انشغلنا بحفظ المتون، وهي قد تبخرت منا اليوم، وانحصرنا فيها!!!

أقول: لو أتينا بمعادلة بسيطة إنّ الّذي يحفظ المتون كم سيحتاج له من الوقت؟ ولمراجعتها كم من الوقت أيضا؟ وسيتصور أنّ المعرفة تدور حول حدّها …

لو أتينا إلى هذه السّاعات في البحث والمطالعة ومناقشة الأستاذ، ثم تدوين الطالب لذلك لكان خيرا كثيرا، وهو سيكسب الحسنيين: المعرفة والنقاش، والكتابة والتدوين، والثاني سيذّكره بما نساه بالأمس، وسيبقى معه ليطوره بمرور الأيام.

لو ضربنا باب الأمر في الأصول، لو فُتِحَ للطالب ورتب له الكتب الأصولية حسب مستواه التعليمي، وحسب المدخل الذي درّس إياه، ثم قيل له أبحث ودون، وحاول أن تضع الخريطة، ثم حاول أن تنقد، وبعدها ناقش واكتب لكان مكسبا عظيما، بدلا من حفظ أبيات يمكن تجاوزها بسرعة، فمثلا قول الناظم:

كـلامُنا لَفْظٌ مفيدٌ كاسْتَقِمْ      واسْمٌ وفعلٌ ثُمَّ حرفٌ الْكَلِمْ

واحِدُهُ كَـلِمَةٌ والقولُ عَمّ          وكَـلْمَةٌ بها كَـلامٌ قد يُؤَمّ

فهذه في الجملة كم يحتاج لحفظها، وغالب الناس متوسطون في الحفظ، وهي سهلة بديهية، فالكلام مكون من اسم وفعل وحرف، وهناك الجملة المفيدة، وأعم منه الكلم ليدخل فيه الجملة غير المفيدة كقول القائل: إن قام زيد!!!   فهل هذه يحتاج لأبيات لحفظها، بقدر ما تحتاج إلى إدراك وتطبيق!!!

كما أنّ المتون تحصر الطّالبَ غالبا في معرفة معينة، مع تجاوز الزّمن لها، ومثل هذا قول السالمي ت 1332هـ/ 1914م في الغاية:

وَهَذِهِ مِلَلُ الأَدْيَـــــــانِ قَدْ نُصِـــــــــبَتْ … لا بُدَّ لِلْمَــــــرْءِ مِنْ أَنْ يَعْرِفَ الْمِلَلا

فَالْمُسْلِمُونَ؛ وَهُمْ مُوْفٍ وَمُجْـــــتَرِحٌ … وَالْمُجْــــرِمُونَ بِنَهْكٍ مِنْهُمُ انْـــــفَصَلا

أَوْ مُسْتَحِلٌّ ، وَأَحْكَامُ الأُلَى انْتَهَكُوا … أَنْ يُرْجِـــــعُوا كُلَّ مَا صَابُوا وَإِنْ جَزَلا

وَقَــــدْ يَجُوزُ لِكُلٍّ مَا يَجُوزُ لَــــــنَا … إِلا الوَلايَـــــــةَ خُصَّـــــــــتْ بِالَّذِي عَـــــــدَلا

ثُمَّ اليَهُودُ النَّصَــــــارَى وَالْمَجُوسُ مَعاً … وَالصَّابِئُونَ لَهُمْ حُكْــــــمٌ وَقَـــــدْ عُقِلا

يُسَــــــالَـمُونَ إِذَا انْقَادُوا عَلَى صِــــغَرٍ … بِجِزْيــــَـةٍ ، أَوْ أبَوْ فالكُــــلُّ قَدْ قُــــــتِلا

وَالْمُشْرِكُون ذَوُو الأَوْثَانِ لَيْسَ لَهُمْ … سَلامَـــــةٌ غَـــــــيْرَ إِنْ دَانُــــوا بِمَا نَــــــزَلا

الحُكْمُ إِنْ حَارَبُوا فِي الكُلِّ مُـــــــتَّحِدٌ … نَهْــــــبٌ وَسَـــــبْيٌ وَقَـــــتْلٌ فِيهِمُ فُــــــعِلا

حَاشَا قُرَيْشاً فَإِنَّ السَّــــــبْيَ مُمْـــــتَنِعٌ … فِيهِمْ عَلَى قَوْلِ أَهْـــــلِ الْمَغْرِبِ الفُضَلا

وَالذَّبْحَ إِنْ سَالَمُوا أَهْلُ الكِتَابِ مَعَ النــْــــــ .*. ــــنِــكَاحِ مِنْهُمْ أَجِــــزْ إلا الإِمَــــاءَ فَلا

فالطّالب يحفظ هذه الأبيات مع أنها تختصر في كلمات ست المسلمون واليهود والنصارى والمجوس والصابئة والمشركون، وأتصور حفظها ليس صعبا بدلا من شغله بأبيات تحتاج لوقت طويل حفظا أوليا ومراجعة!!!

ثمّ المعرفة تطورت لتقارب الثقافة المعرفية، فلا أتصور الطالب سيتفيد كثيرا من هذا، ما أن لو أعطي مدخلا أكبر للمدارس والمذاهب المعاصرة، فهناك مذاهب دينية واقتصادية وسياسية وأدبية وغيرها، فمن المذاهب الدينية مثلا هناك الأحمدية والبهائية هو بحاجة لمعرفتها، كما كما أن المذاهب الإسلامية نفسها ستنقسم إلى مذاهب عقدية وفكرية وفقهية، هذه الشجرة بحاجة إليها طالب العلم اليوم أكثر من هذه العموميات الحكمية.

وينبغي للطالب أن يعلم النقد لما يعطى ليحاور ويناقش أستاذه بكل أدب، فقول الشيخ السالمي مثلا:

حَاشَا قُرَيْشاً فَإِنَّ السَّــــــبْيَ مُمْـــــتَنِعٌ … فِيهِمْ عَلَى قَوْلِ أَهْـــــلِ الْمَغْرِبِ الفُضَلا

فهل قريش أصبحت الآن مشركة؟ والعالم تمدن مشرقا ومغربا، وما هو ماهية السبي وحدوده؟ ولماذا خصت قريش من بين المشركين ليرتفع عنها السبي؟

كلّ هذه ستوسع من أفق الطالب، بدلا من شغل جلّ وقته بالحفظ، شريطة أن يكون هناك مدخلا منتظما للمعرفة يسير عليه الطّالب، ومنه ينطلق.

قد يقول قائل: إنّ حفظ المتون توسع من لغة الطالب، وهنا إذا الأولى تحفيظه القصائد اللغوية الكبرى ككقصائد ابن النّضر العماني (ق 6هـ) في الدّعائم مثلا إذا جئنا إلى اللغة.

مع أنّ المؤرخين يصنفون مرحلة حفظ المتون من مراحل الضّعف في التاريخ الإسلامي، وهي متأخرة، وظهرت نحن عندنا في عمان متأخرة جدا، ولها سلبياتها الكثيرة مقابل القليل من منافعها.

وإذا جئنا إلى بداية التاريخ وتطور الحضارة الإسلامية عندما كانت الحاسة النقدية ظاهرة، وشيوع المنطق والفلسفة، وكثرة الترجمة، تطورت العلوم المعرفية، وظهرت فنون جديدة كالأصول الفقهية وعلوم اللغة والعروض وغيرها كثير، ثم لما انشغل النّاس بالحفظ ضعف الإنتاج، ومال الناس إلى الحواشي والتصديق بحد المتون.

وعليه لما أحيت النهضة الغربية الحراك الإغريقي الذي ورثوه عمن قبلهم، أحيوه عن طريق ما تركته الحضارة الإسلامية، فبدأت العلوم من جديد تحيا وتتطور بشكل فائق جدا، والحضارة تتقدم بسرعة، فلا نجد في الغرب تركيزا على المتون، في زمن تطورت فيه المعرفة بشكل هائل، وتتطور بشكل يومي، بل كان التركيز على الأبحاث والقراءة التلخيصية والنقد والإبداع.

هذه وجهة نظر قد يتقبلها بغضهم، ويرفضها آخرون، والخلاصة أنّ المتون وضعت لغير زمننا، وهي تشكل مادة تاريخية معرفية، زمننا تجاوزها بكثير، فآن أن نطور وسائل التحصيل المعرفي بما يلائم الحال، بدلا من شغله بشيء يمكن اختصاره في دقائق ليطوره هو ذاته نقدا وفكرا وإبداعا. وجهة نظر والله الموفق.

فيسبوك 1436هـ/ 2015م

السابق
نيلسون مانديلا  … وضجيج الحديث
التالي
أبو حيان التّوحيدي وكتابه المقابسات
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً