المقالات الفكرية

الإنسان العربي في ضوء الدّول القطريّة

موقع حكمة يمانيّة – اليمن، 2 نوفمبر 2021م

المجتمع العربي الكبير بدوله القطريّة أمّة واحدة يشترك في جوانب عديدة على رأسها اللّغة العربيّة وتعدد اللّغات القديمة، والدّين الإسلاميّ مع تعدد الأديان المشرقيّة، والمذاهب المتنوعة، بجانب التّأريخ والجغرافيا، هذا المجتمع برمته لا يمكن فصله عن بعضه اليوم، كما لا يمكن فصله عن العالم الإنسانيّ الأكبر منه.

الدّول القطريّة دول إجرائيّة تنظيميّة لا أكثر، ولا يمكن أن تنفصل عن محيطها، لهذا أكبر المشاكل الّتي نعانيها متمثلة في تصوّر أنّ التّطور والنّهضة ينطلق من البنيان والعمران وليس من الإنسان، فأيّ نهضة بنيت على حداثة العمران، وليس على نهضة الإنسان، سرعان ما تضعف وتتراجع.

والدّول القطريّة لا تعوق نهضة الإنسان العربيّ، ولكن عندما تتحول هذه الدّول إلى عنصر استبداد في داخلها قبل خارجها، وترى أنّ نهضتها محصورة بين حدودها، وتتغافل عن الهوّيّة الأوسع من هوّيّة الدّولة القطريّة؛ هنا تخسر قدرات وكفاءات ومواهب تساهم بشكل كبير في استقرار وأمن ونهضة المنطقة ككل، لأنّ استقرار ونهضة أيّ قطر عربيّ يعني استقرار دول المنطقة ككل، بل استقرار العالم الإنساني الأوسع.

علينا ابتداء أن نتحرر من لغة المنفعة القطريّة، ومن عقليّة التّوسع واستغلال حاجات الآخر، بل وتدميره مقابل انتصارات وهميّة، فتكون لغة الإحياء والبناء واستثمار الإنسان العربيّ ككل محور هذه الدّول القطريّة، فتكون الإنطلاقة من الإنسان العربيّ الواحد إلى الإنسان العربيّ المنتمي إلى دولة قطريّة وليس العكس، لأنّ الماهيّة أصل الهوّيّة، والهوّيّة الأوسع تسبق الهوّيّة الأقل منها درجة بقدر ما تقترب من الإنسان ذاته.

فلمّا يكون الفرد العربيّ عند المثقف ورجل الدّين ورجل السّياسة والاجتماع والاقتصاد والقانون حاضرا كإنسان قبل أن يكون منتميا إلى دولة قطريّة ضيقة؛ هنا نتجاوز النّفعيّة القطْريّة، كما نتجنب خسارة كفاءات عربيّة أهملت لسنوات عديدة في الوطن العربيّ، فمنهم من هاجر إلى عالم غير عالمه، ووجد فيه العناية والتّكريم، ومنهم من لازم واقعه، مكتفيا بالحدّ الأدني من حياته ليعيش كباقي الجنس الحيواني، لتقتل مواهبه وقدراته، وتموت وهو حيّ على قيد الحياة.

للتّخلص من هذا الواقع لابدّ بداية أن ينفصل المثقف وعالم الدّين عن السّياسيّ؛ لأنّ السّياسيّ يغلب عليه المنفعة القطريّة، والمثقف وعالم الدّين همّه الإنسان العربيّ ككل، كما يهمّه الجنس البشريّ عموما، والأصل أن المثقف وعالم الدّين هو من يقوّم السّياسات وليس أن يكون رهين السّياسة لأجل المنصب والمال والشّهرة، فإن أحسنت السّياسة كان داعما لها، وإن أساءت وقف مع الإنسان كإنسان، ولو كان نتائج ذلك مرّة، وعواقبه وخيمة، إلا أنّ هذه النّتائج ظرفيّة لا أكثر، سرعان ما يظهر أثرها الإيجابيّ على الإنسان العربيّ ككل.

كما أنّه على رجل الدّين أن يتجاوز النّفعيّة الدّينيّة والمذهبيّة إلى النّفعيّة الإنسانيّة، فاصلا بين الانتماءات الدّينيّة والمذهبيّة، وبين العدل الدّنيويّ والأخرويّ، فالانتماءات الدّينيّة والمذهبيّة حالة كسبيّة كما ولد ذاته في بيئة اكتسب منها دينا ومذهبا ما؛ يولد غيره في بيئة يكتسب منها دينا ومذهبا مختلفا، وهذه حالة فردانيّة تتشكل حولها هوّيّات كسبيّة، بيد أن الانطلاقة من هذه الهوّيّة الدّينيّة والمذهبيّة الضّيّقة إلى هوّيّة العربيّ الواحد يتشكل منه العدل الدّنيويّ، فيكون الانتماء العربيّ مربوطا بالماهيّة الإنسانيّة الواحدة، لتستغل جميع الطّاقات في خدمة الأمّة العربيّة ولو اختلف جنسا أو دينا أو مذهبا، وهذا يفوّت على السّياسيين من استغلال النّفعيّة الدّينيّة والمذهبيّة في إقصاء الآخر، واستغلال السّلطة سلبيّا، كما قال فرعون بالأمس: {إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26].

وكما يجب أن يشتغل رجل الدّين بالعدل الدنيويّ؛ عليه أن يجنب المجتمعات الصّراعات الماورائيّة الوهميّة، ليدرك أنّ العدل الأخرويّ بيد الله وحده، وليس مطالبا أن يكون شريكا مع الله في تتبع العباد، والحكم عليهم، وتكفيرهم وإقصائهم.

وهذا يجرنا إلى الجانب القانوني الّذي يحقق جدواه كلّما اقترب من الإنسان وماهيّته، فالإنسان العربيّ إنسان يعيش اليوم في حضارة إنسانيّة واحدة، فلابدّ أن يكون القانون وافيا بإنسانيّتة، غير مفرق له لانتماءات ضيقة، فالوعي الأفقيّ اليوم في العالم العربيّ أصبح أكثر اتّساعا وانفتاحا، وفي الوقت نفسه قريب من بعضه أيضا.

لهذا وجود عصبة أو جامعة ثقافيّة عربيّة موحدة، بعيدا عن إملاءات السّياسيين ومنافعهم، وصراعات الماورائيين وجدلياتهم؛ أصبحت ضرورة ملحة لعودة كرامة الإنسان العربيّ كواقع لا كخطابات، ابتداء أنّ نهضة الأمّة العربيّة واحدة غير منفصلة، مرتبطة بالإنسان العربيّ ككل من جهة، وبحضارة الإنسان في جنسه البشريّ، وماهيّته الوجوديّة من جهة ثانية.

فلمّا نرى العالم العربيّ تهيأ في وحدة واحدة من المغرب الأكبر إلى الشّام ومصر والخليج واليمن والعراق وما حول الوطن العربيّ، ويجد الإنسان العربيّ أنّ أمته تحتويه كإنسان قبل أن يكون منتميا إلى دولة قطريّة تنظيميّة لا أكثر؛ هنا ستخلق هذه الأمّة حضارة تستثمر هذا الإنسان وإبداعاته، وتخرج مواهبه ونتائجه إلى الواقع، في جميع المجالات الإنسانيّة والتّطبيقيّة والعلمويّة، وهنا سياسهم العالم العربيّ في خلق نظريات تدفع بالعالم الإنسانيّ إلى الأمام، بدل ما زرع فيه من سياسات جعلته ضيّقا متصارعا، وقتلت إبداعاته ومواهبه.

كما أنّه بلا مبالغة أنّ العالم العربيّ يحوي كنوزا من الهوّيّات والثّقافات القديمة والحديثة، في الأديان والمذاهب واللّغات والأعراق والأجناس والعادات والتّقاليد، ولديه فك رموز العالم القديم، وهذا فضلا عن التّنوع الجغرافيّ كفيل أن يخلق استثمارا معرفيّا وثقافيّا قلّ نظيره في العالم الإنسانيّ عموما، وللأسف قتل هذا الاستثمار، وخسره العالم الإنسانيّ ككل.

إنّ قوّة العالم العربيّ في ذاته ووحدته، واستغلال إنسانيّته وهوّيّاته، وهذا سابق لأيّ نفعيّات أخرى، حتّى ولو كانت معادن طبيعيّة، فهذه إن لم تستخدم في صنع الإنسان؛ كانت وبالا على المجتمعات، أو أنّ نفعيّتها قريبة الأفول ليست بذات الدّيمومة والوفرة.

هذه الانطلاقة الإنسانيّة سوف تخلق وعيا جمعيّا، يحدث بذلك قوّة داخليّة مبنية على العقل والمعرفة والإبداع وصناعة الإنسان، ومنطلقة من ذلك قبل انطلاقها من الدّبابة والأسلحة القاتلة، وخطاب التّعصب والتّطرف والفرقة، ودمار البشريّة، كما أنّها ستساهم في تقدّم واستمراريّة الحضارة الإنسانيّة الواحدة؛ لأنّه في نظري تجاوز الإنسان اليوم الحضارة المرتبطة بالهوّيّة دينيّة أو عرقيّة أو جغرافيّة، إلى الحضارة المرتبطة بالإنسان، والعالم لم يتشكل اليوم في حضارة شرقيّة أو غربيّة بقدر ما يتشكل في حضارة عالميّة إنسانيّة واحدة، الجميع يساهم فيها على اختلاف ثقافاته وانتماءاته وجغرافيته.

هذه الحضارة تضمّ ثقافات مختلفة ومتنوعة دينيّا وجنسيّا، وفي العادات والتّقاليد، مقتربة من فردانيّة الإنسان ووجوديّته وماهيّته، وعليه الأمّة العربيّة ليست بمعزل عنها، ولا يمكن أن تنفصل عنه، نعم؛ التّمايز اليوم هو في القوّة والضّعف، والقوّة ليست بالمظاهر العسكريّة، والشّعارات الماضويّة، ولكن القوّة مبنيّة في استثمار ما في الدّاخل إنسانيّا، واستغلال سنن التّقدّم والنّهضة عالميّا، وهذا ما نرجوه للعالم العربيّ، فقد سئم الإنسان العربيّ من السّاسة والنّفعيين الّذين قتلوا مواهبه وإبداعاته، وشاركوا في تهجيره واستبداده، فأصبحت العروبة قرينة التّطرف والفقر والمرض والتّخلف، وأمم أضعف منا تأريخا وثروات وتعدديّة أصبحت لها صدارة كبرى في المساهمة في بناء الحضارة الإنسانيّة الواحدة، وإحياء من فيها، وتحقيق كرامته الإنسانيّة، فلا أقل أن يكون ذلك للعالم العربيّ أيضا، وأن نرى هذا العالم الأصغر مكرما معززا في أيّ بقعة منه، وفق قانون إنسانيّ عادل، ومساهما في بناء عالم الإنسان الأكبر، وما ذلك ببعيد!!!

السابق
إعصار (شاهين) والتّعاون المجتمعي
التالي
البرت أينشتاين والسّلم العالميّ
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً