المقالات النقدية

قراءة عامّة لكتاب استقلال السنة بالتشريع

حظيت صباح اليوم الثلاثاء 4/12/2012م بكتاب استقلال السنة بالتشريع دراسة تأصيلية لأخينا الفاضل الأستاذ أحمد بن سالم الخروصي، والذي أصدره مكتب الإفتاء بوزارة الأوقاف العمانية، وهو عبارة عن بحث تخرج من معهد العلوم الشرعية، بإشراف الأستاذ الشيخ ناصر بن سليمان السابعي، ومباركة من الدكتور عبد الله بن سعيد المعمري، ومراجعة من الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي نائب المفتي.

وما إن وقع الكتاب في  يدي حتى حاولت قراءته عموديا ورأسيا لتتضح لي صورته العامة.

ورغبة في تلبية طلب بعض الأخوة أن أعلق عليه، فهنا أكتب قراءة سريعة حسب ما رأيته في الكتاب، ويمكن أن يكون الكاتب حاضرا بيننا ليصحح لنا.

عموما أهنئ الكاتب بداية على التزامه الأدبَ القرآني في مناقشة من يخالفه الفكر، فما رأيتُ منه بحق تنقيصا لمن خالفه، أو سوء ظنٍ به، وكذا الحال في تصنيفه أو تفسيقه أو تكفيرة، وهذا يعطي أرضية مشتركة للنقاش وفهم الفكرة مع تبلورها في قابل الأيام.

وأنا في هذا اللقاء أعطي بعض الملاحظات على الكتاب، في ظلّ أفكار سريعة، لأنّ القراءة الإباضية لاستقلال السنة لا زالت يتيمة، وهي بحاجة إلى مسح شامل للكتب الإباضية الأولى، وعدم محاكمتها بتقيعدات متأخرة، وهذا يحتاج إلى عمل جماعي مظني، متحررا من أهواء النفوس، ومخلفات العقول، مستخدما الكناسة الشاملة، والبراءة المطلقة، والمنهج الشكي المحايد، مع المنهج الاستقرائي، والقراءة التفكيكية للنصوص، مع ربطه بالزمان والمكان.

وعموما أرى كتاب “السنة الوحي والحكمة” للأساتذة الأجلاء الثلاثة: خميس العدوي، وزكريا المحرمي، وخالد الوهيبي خطوة عملية رائعة لتحريك الماء الراكد، ومعرفة السنة ومتعلقاتها عند الإباضية، وما كتبه الأستاذ الجليل أحمد الخروصي في كتابه هذا “استقلال السنة بالتشريع” هو خطوة عملية أيضا للرأي المقابل، وننتظر دراسات الأستاذين الجليلين أحمد الكندي وأبي الأرواح، وهما يمثلان الاتجاهين المقابلين، وهذا يهيئ الأرضية للباحثين في سبر مخطوطات المذهب، واستقراء كلام السلف.

إشكاليات فقدت من الكتاب

مع أن الكتاب جاء في مرحلة متأخرة في ظل صراع فكري حاد حول السنة ذاتها، فضلا عن استقلالها أو عدمه، إلا أنني أجد الكتاب وكأنه ألف قبل قرون في أسلوبه الكتابي، وفقدانه للتتبع المنهجي والاستقراء التفكيكي، مع التتبع لما يدور في الساحة من نقاش وإشكاليات، طارحا الرؤى التي يراها في الجملة سابقا، حتى تكون الدراسة حيادية في الجامع العام، لأن الإنسان بطبعه وإن حاول التخلص من رؤاه السابقة تبقى في عقله الباطني واردة تظهر بين فينة وفينة.

ومن هذه الإشكاليات التي كنا نرغب أن يسهب فيها الباحث، وإن أشار إلى بعضها في بحثه، إلا أن الوقوف معها والإجابة عليها تشكل مقدمة كبيرة لفهم الموضوع؛ ومن هذه:

– ما معنى كلمة تشريع؟ وهل وردت هكذا في كتب الإباضية الأولى؟ ومتى دخلت في كتب المذهب؟ وعن طريق من؟

– ما محدودية تشريع النبي عليه السلام؟ [ولأن الباحث أشار إلى صعوبة التفريق بين الوحي في التشريع المحمدي والاجتهاد فيه أي التشريع الوضعي حسب المصطلح المعاصر] إلا أننا كيف ننسب هذا إلى الله تعالى عن طريق التخمين والظن، والله حذر من الافتراء والكذب عليه؟

– إذا قلنا بأنّ سنة النبي كليا تشريع، وكما بين الباحث كما في ص 182 من الكتاب صعوبة التفريق بين الاجتهاد والوحي، فماذا سنقول في عتاب الله لنبيه، هل عتاب على وحي ليكون النبي – معاذ الله – ضحية لوحي سابق يعاتب عليه بوحي لاحق، وماذا عن تراجعه لأقوال أصحابه وعاداتهم كما في حديث تأبير النخل، أو مشورته لبعض أصحابه كما في بعض المعارك، وتراجعه إلى رأيهم، فهل رأي أصحابه أعظم من رأيه وهو وحي، وهل خالف بهذا هو وأصحابه هذا الوحي، كلّ هذا بحاجة جواب واضح وجلي لمعرفة مدى وحدّ استقلالية السنة بالتشريع.

أما الملاحظات في الجملة والتي يمكن أن نضعها على الكتاب:

الملحوظة الأولى: الانطلاقة القرآنية، وهي المحك للعديد من الدراسات المعاصرة في هذا الجانب، فالمراجعات السنية والشيعية مثلا في موضوع الرواية كان القرآن منطلقا لها، وهذا ظاهر مثلا عند الشيخ المرحوم محمد الغزالي ت 1996م، كما في كتابية السنة عند أهل الفقه وأهل الحديث، وكتاب هموم داعية، إذ يقول في الأول مثلا: [ “[ لا بد من ] العناية بالقرآن نفسه، فإنّ ناسا أدمنوا النظر في كتب الحديث، واتخذوا القرآن مهجورا، فنمت أفكارهم معوجة، وطالت حيث يجب أن تقصر، وقصرت حيث يجب أن تطول”، ” إنّ الوعي بمعاني القرآن وأهدافه يعطي الإطار العام للرسالة الإسلامية، ويبين الأهم فالمهم من التعاليم الواردة، ويعين على تثبيت السنن في مواضعها الصحيحة “]، وهو ما يؤصله كذلك الشيخ حسن فرحان المالكي في العديد من كتبه ومحاضراته، ويظهر جليا عند الإمام محمد عبده ت 1905م كما في تفسيره وكتابه التوحيد، وظاهر أيضا عن المفكر مصطفى محمود ت 2009م كما في كتابه الشفاعة، كذلك في التيار الشيعي المقابل كما عند آية الله العظمى أبي الفضل البرقعي الإيراني ت 1412هـ/ 1992م إذ يقول في كتابه كسر الصنم نقض كتاب أصول الكافي: “وفي تلك الأعوام كنتُ أجد فراغا في الوقت الذي ساعدني على المطالعة والبحث والتأليف والتدبر في كتاب الله، فتبين لي أنني وجميع علماء مذهبنا – أي الإمامية – غارقون في الخرافات، وغافلون عن كتاب الله، وتخالف آراؤهم صريح القرآن وتعارضه”، كذلك نراه عند المفكر الشيعي الراحل المرحوم السيد محمد حسين فضل الله ت 2010م، في العديد من كتبه ومنها كتاب قضايانا على ضوء الإسلام، ويكرر مرارا قول الإمام جعفر الصادق ت 148هـ: [كل كلام عدا القرآن فهو زخرف]، والانطلاقة القرآنية ظاهرة أيضا وبقوة عند المفكر الشيعي العراقي حسين المؤيد كما في فتاويه، وهي منشورة في موقعه الذي هو باسمه.

إذا هناك مراجعة قرآنية للرواية والتراث عند المدرستين السنية والشيعية نتيجة التراكم الروائي عند هاتين المدرستين، وهذه المراجعة القرآنية أفرزت مدارس سنية وشيعية أمام الرواية أو التراث، وأعادت النظر في العديد من الألفاظ ومنها: التشريع، والوحي، والعصمة، والسنة، ونحوها.

صحيح أنّ الكاتب أورد العديد من الآيات التي تؤيد مبتغاه، ولكن كان الأولى التحرر من الذات والبحر في أغوار القرآن في علاج المسائل المتعلقة بموضوع البحث، والتي منها السنة والوحي والتشريع، وبعدها تضمن نتائج المسح عند المدرسة الإباضية الأولى؛ أي القرون الأولى [كما سيأتي بيان سبب تقييدي للقرون الأولى].

الملحوظة الثانية: الانبهار الروائي؛ وهذه مقدمة مهمة في هذا الجانب كان الأصل أن يقدم لها الكاتب لفهم القراءة العقلية النقدية من بعض أبناء المذهب، ولأن كان الأمر في المدرستين السنية والشيعية داخليا، فإن الأمر في المدرسة الإباضية خارجي من غيرها، أي حدث استيراد كبير للرواية من المدرسة السنية خصوصا، وبصورة كبيرة جدا.

بينما كانت المدرسة الإباضية الأولى كغيرها من المدارس الإسلامية الأولى تعتبر من المدارس المقلة للرواية،  فمسند الإمام الربيع (ت ق 2هـ)، ومجموع الإمام زيد (ت122هـ)، وموطأ الإمام مالك (ت179هـ) واضحة المعالم، مع محدودية الرواية مقارنة بمسند الإمام أحمد (ت241هـ)، وصحيحي البخاري (ت256هـ) ومسلم (ت261هـ)، والصحاح الأربع، فضلا عن الكافي للكليني (ت329هـ)، وكذلك ما يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ت381هـ)، وغيرها من المصادر الحديثية، فنجد الانبهار الروائي، مع مخالفة العديد للروايات لقوانين القرآن والكون والعقل، ومع ذلك لقت قبولا واضحا عند المدارس الإسلامية.

ثم إننا نجد المدرسة الإباضية الأولى وإن استوردت بعض الروايات إلا أنها جعلت العمل أو ما كان عليه الأثر من المفرزات للرواية فضلا عن القرآن وتفكيك المتن.

صحيح حدث تساهل مبكر في المدرسة الإباضية خاصة في الفضائل، إلا أنّ الأحكام والعقائد كان للقرآن وأثر المسلمين حاضرا وبقوة كسياج للتعامل معها.

وبما أننا نعالج القضايا المعاصرة لا ننسى المدرسة القنوبية، وهي تطور للفكر الإباضي للتعامل مع الرواية، فكما أنّ المدرسة تأثرت بالمصطلح الحديثي مبكرا، وتفاوت دخول الرواية إلى المذهب والتعامل معها بين حين وآخر، فمدرسة الشيخ ناصر الخروصي ت 1263هـ/ 1847 م، لا شك تختلف عن مدرسة الإمام السالمي ت 1332هـ/ 1914م، من حيث الإعمال العقلي للتعامل مع الرواية.

ومع هذا تعتبر مدرسة الشيخ سعيد القنوبي مدرسة أولى في المذهب للاستسلام ليس لروايات المخالفين ومنهجهم العام فحسب بل استسلمت حتى لجانب الجرح والتعديل، وجعلت من منهجهم العام حكما حتى على آثار المذهب الأولى، وهذا ظاهر جلي في كتب الشيخ وبعض تلاميذه [وعسى أن يكون لنا قراءة عامة في كتب هذه المدرسة في الأيام القادمة بإذن الله تعالى].

ولكلام الشيخ العام أثر على طلبة العلم الصغار، وعليه سنجد السهر والانكباب على كتب الحديث ومؤلفاتهم، في حين التقليل من كتب المذهب الأولى وعدم العناية بها في الجملة، لأنها كتب رجال، والدين يؤخذ من السنة، ولا عبرة للنظر مع وجود السنة (الرواية)، فسنجدهم يحفظون علماء الحديث في حين يجهلون علماء مذهبهم الأول.

هذان العاملان: القراءة النقدية للرواية في المدرستين السنية والشيعية، بجانب بداية الاستسلام لمنهج أهل الحديث كليا في المدرسة الإباضية عن طريق المدرسة القنوبية خصوصا؛ هذا ولد ردة فعل في المدرسة الإباضية ذاتها، وقراءات نقدية، وكما اتهم من قام بمراجعة الذات في المدرستين السنية والشيعية بإنكار السنة، كذلك اتهم هؤلاء أيضا بإنكار السنة، وكما رجع استخدام سلاح أهل الحديث لمن خالفهم وهو التصنيف والإقصاء والتحذير، فقد استخدم هؤلاء أيضا هذا السلاح نفسه، وبالمصطلح ذاته، وهو العقلانية أو الماسونية ونحوه مع الإقصاء والتحذير.

من هنا كان الأصل من الباحث أن يعطي هذا الموضوع حقه لأنه مربط الفرس، وأساس المشكلة، حتى تكون مراجعاته صحيحة ومنطقية في الجملة.

الملحوظة الثالثة: القراءة التأريخية؛ إذ نجدها غائبة في جملة الكتاب، وإن أشار إليها لماما، فلا يمكن بحال علاج مثل هذا الموضوع دون الاستقراء التأريخي، خاصة في المصطلح، فمثلا مصطلح السنة إذ نجده في ص 13 يورد تعريفها بمعنى قول النبي عليه الصلاة أو فعله أو تقريره إلى الإمامين الثميني ت 1223هـ/ 1808م في معالم الدين، والسالمي ت 1332هـ/ 1914م في طلعة الشمس، وهذا مجانب للصواب، فكيف نحاكم المدرسة الإباضية الأولى بمصطلحات متأخرة، فمثلا في الحديث: [غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم] في حين الجمهور يرون ندبية الغسل يوم الجمعة، فلم يحاكموا لفظة واجب في الحديث بمصطلح تأخر تعريفه.

والأصل أن نحاكمهم بالمصطلح المفهوم الذي وضعوه، وهذا يتحدد بالاستقراء التأريخي، حينها سيتحدد الدخيل على المدرسة، ومن أين، وكيف نتعامل معه، وإن استخدمه بعض المتأخرين.

وهكذا الحال في البنود الأخرى للبحث كلفظة التشريع أو الوحي أو العصمة أو الاستقلال ونحوه.

الملحوظة الرابعة: تحديد الفترة الزمانية، وهنا الباحث وقع في ذات الخطأ الذي وقع فيه من ينتقدهم أي أصحاب كتاب السنة الوحي والحكمة، فلا يمكن عقلا أن نحاكم مدرسة موغلة في التأريخ، انبثقت عنها مدارس ومناهج متعددة دون أن نحدد الفترة الزمنية، لأن المدرسة ذاتها ستتأثر بمناهج خارجية فقهية أو أصولية، روائية أو عقليه، وعليه كان الأصل تحديد الفترة الزمنية، مع حضور أكبر قدر ممكن من المصادر وتفكيك نصوصها للوصول إلى مقدمات سليمة لتعطي نتائج سليمة.

والباحث نجده رجع إلى ما يقرب فقط من سبعين مصدرا من مصادر الإباضية أغلبها متأخرة عن المصادر الأولى، وبعضها لا علاقة لها بالبحث رأسا إلا لدعم بعض الرؤى، وعليه نجد هنا خللا منهجيا واضحا، ينتج عنه عمومية في البحث، تجعل النتائج التي توصل إليها الباحث بحاجة إلى مسح جماعي نقدي لإثبات صدقها من عدمه.

الملحوظة الخامسة: يظهر في البحث لغة النقد لكتاب السنة الوحي والحكمة خصوصا، والمذهب القائل بعدم الاستقلالية عموما، إلا أن هذا النقد أو الرد جاء متناثرا، مع قطف بعض نصوصهم، وهذا – في نظري – مخالف للمنهجية العلمية، والأصل أن يورد أغلب أدلتهم أو أهمها على الأقل، مع ذكر المصدر، ثم تفنيدها بالأدلة العلمية، في باب أو مبحث مستقل.

الملحوظة السادسة: لم يتطرق الباحث تفصيلا إلى موضوع العمل، ومدى توافق الرواية مع العمل، وهو منهج مهم لفرز الرواية ومعرفة السنة، استخدمه الأوائل كما في المدونة، والمالكية كما في عمل أهل المدينة، والزيدية كما في روايات وفقه العترة، فمثلا قضية الرفع والضم في الصلاة، فهناك روايات كثر تعتبر بها سنية الرفع أو الضم، بينما سنجد عند هذه المدارس الثلاث الجانب العملي أكبر ناقد لهذه الروايات بغض النظر عن سندها أو متنها.

الملحوظة السابعة: وضع الباحث جزءا كبيرا من بحثه في مكانة وأهمية السنة عند الإباضية، وهذا قدر متفق عليه لا ينكره أحد، بل حتى أصحاب كتاب السنة والوحي لم ينكروا هذا، فليست الإشكالية في ذات السنة، وإنما في بعض متعلقاتها، وليس القول بأنها غير مستقلة إنكار لها، وعدم القول باستقلالها قول وارد وخلاف كبير في القرون الأولى، فلا علاقة بين الأمرين أبدا.

السابق
في سبيل إصلاح المؤسسة الدينية
التالي
قراءة في مقال: “نظرية جسيم الله أو جسيم هيجز” لابتهاج يونس
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً