المقالات الفكرية

الهوّيّة من حيث النّزعة الفردانيّة

جريدة عمان 1443هـ/ 2021م

الفردانيّة لها ارتباط كبير بالماهيّة؛ لأنّ منشأ الفلسفة الفردانيّة هي الفلسفة الذّاتيّة، ومكمن الأخيرة في معيار الماهيّة، وبهذا النّزعة الفرديّة كما يرى عامر ناصر شطارة [معاصر] أنّها ظهرت “بوضوح وعلى شكل مذهب متكامل في القرن الثّامن عشر الميلادي من خلال ترسيخ قيم الحداثة في الفكر الأوروبي، وخصوصا في الميدان السّياسي والاجتماعي”، إلا أنّها كنزعة قديمة، ارتبطت بالماهيّة الإنسانيّة من خلال نزعته الفردانيّة المتمثلة كما يرى جون لوك [ت 1704م] في “حق الحياة، وحق الامتلاك، وحق الحرية”، فهذه وجدت مع الإنسان.

فنجد الأديان جميعا جاءت لتعميق النّزعة الفردانيّة، وفي القرآن تقرير للعديد من النّزعات الفرديّة، ابتداء من الجانب التّكويني: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} [الرّوم/22]، وعلى هذا بنيت العديد من القيم والتّشريعات والأخلاقيات، كحق الاعتقاد {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة/ 256]، وحق الفرد في التّملك والاكتساب {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ} [النّساء/ 32]، إلى تحمل الإنسان ما اكتسبه في حياته حسنا كان أم سيئا {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم/ 95]، وهذا ينطبق على الأديان الأخرى كما يقول عامر ناصر شطارة: “هدف الدّيانات السّماوية تأمين الخلاص للفرد من خلال اتّباعه منظومة القيم والتّعاليم الخاصّة بهذا الدّين أو ذاك”.

هذه النّزعة الفرديّة كأيّ نزعات أخرى نجدها موجودة مع الإنسان وتطوّره دينيّا وفكريّا وفلسفيّا، إلى أن تتحول إلى مناهج وفلسفات مستقلة، إلا أنّ ظهورها متأخرا لسببين في نظري: الأول أنّ الفلسفة الإسلاميّة كوريث للفلسفة الأغريقيّة من خلال علم الكلام ناقشت العديد من القيم الفرديّة والإنسانيّة من خلال النّزعة اللّاهوتيّة، أي أخذ الحيز الميتافيزيقي مساحة أكبر عن الحيز النّاسوتي والطّبيعي، فمثلا العدل وهو الأصل الثّاني عند المعتزلة، سنجد النّزعة اللّاهوتيّة هي محور العدل من قضيّة الحكم على الصّحابة، والولاية والبراءة، وقضيّة القدر وخلق الأفعال، والتّكليف والثّواب والعقاب، ونفي الظّلم عن الله، ومع كون الزّيديّة مذهبا ثوريّا، وورثوا الأصول الخمسة عن المعتزلة؛ إلا أنّهم لم يخرجوا كذلك عن تغليب الجانب الميتافيزيقي، هذا الحال نجده عند الإباضيّة أيضا مع نظريتهم الأولى في العدل السّياسي إلا أنّهم سيتأثرون بمدرسة الاعتزال في الاغتراب الميتافيزيقي.

لهذا تعمّق في المقابل في المجتمعات الإسلاميّة الجانب الغنوصي عند العرفانيين المسلمين، ومع اقتراب الغنوصيّة الإسلاميّة من الإنسان الكامل كما عند عبد الكريم الجيلي [ت 805هـ/ 1424م]، وظهور الفردانيّة في الخلوات والطّرق والتّربية والمحبّة والفناء، إلا أنّها لم تخرج أيضا عن المبالغة في الاغتراب الميتافيزيقي في التّجلي والظّهور ووحدة الوجود وغيرها.

هذه المبالغة في النّزعة اللّاهوتية والميتافيزيقيّة ارتبطت بالسّلطة أكثر من ارتباطها بالفرد، وهذا السّبب الثّاني، ممّا أدى إلى تمدد التّزاوج بين السّلطة وهذه النّزعة لتكون خادمة للسّلطة، كما أنّ السّلطة ذاتها تمددت من السّلطة السّياسيّة [الإمامة / الخلافة مع القبيلة] إلى السّلطة الدّينيّة والفقهيّة، والسّلطة الاجتماعيّة، فحُصِرَ مفهوم مصلحة الجماعة مقدّمة على مصلحة الفرد أي مصلحة هذه السّلطات من خلال ما يتكوّن من مصالح في استغلال الجانب اللّاهوتي والميتافيزيقي.

هذا الجانب نفسه نجد صورته متكررة من اليهوديّة الصّدوقيّة، كما يرى عبّاس محمود العقاد [ت 1964م] في حياة المسيح أنّهم “يحافظون على نظام المجتمع لأنّهم أصحاب اليد الطّولى فيه” أي مستفيدون من النّعيم الّذي يأتي إلى الهيكل، وممّا يقدّمه المجتمع من قرابين لهم، فتبنوا مذهب أبيقور في اللّذة الحسيّة والمتعة والتّرف، ولكن من خلال تغليب مصلحة الهيكل وشريعة موسى الأولى بدون زيادات أي مصلحة السّلطة الدّينيّة، لهذا مال بعضهم إلى توسيع الفلسفة الأبيقوريّة في اللّذة والنّعيم، وتضييق النّزعة الميتافيزيقيّة من خلال الشّريعة الأولى في الأسفار الخمسة، ومن خلال إنكار الجانب اللّاهوتي في الآخرة من حيث العذاب والنّعيم، لاستمراريّة الاستمتاع في الحياة، بيد أنّه استفاد من هذا الاستمتاع السّلطة الدّينيّة من اليهود، والسّلطة السّياسيّة من الرّومان لما يجلبونه من ضرائب، ولأنّ الصّدوقيين كما يذكر العقاد “يعاشرون الأجانب، ولا يعتزلونهم كسائر أبناء قومهم؛ لأنّ أعمالهم ومراكزهم متصلة بذوي السّلطان”، ولهذا “يحافظون على سلطان الهيكل، ويحافظون على النّظام القائم، أو لا يستريحون إلى الثّورة والانقلاب”.

لهذا كانت ردّة الفعل من اليهوديّة الفريسيّة، وهي الطّائفة الأرثذوكسيّة عند اليهود إلى اليوم، وبالغت في التّوسع الميتافيزيقي، لتقابلها طائفة الآسينيّة اليهوديّة الّتي تشكلت كطائفة غنوصيّة لمنشأها في الأسكندريّة، وهي وإن انقرضت إلا أنّه نشأت فرقة من الفريسيّة الحاخامانيّة في القرن السّابع عشر الميلادي تسمّى بالحاسيديم، وهي فرقة غنوصيّة عرفانيّة.

إلا أنّ المشترك بين الصّدوقيين والفريسيين هو تغليب السّلطة الدّينيّة، أو سلطة الأحبار باسم الدّين أو الجماعة، كما يذكر القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [التّوبة/ 34]، لهذا كان صراع المسيح مع الصّدوقيين والفريسيين، ووصفهم كما في الإصحاح السّادس عشر من إنجيل متّى بالمرائين، وأنّهم جيل شرير فاسق، وأمر النّاس أن يتحرروا من خمير الفريسيين والصّدوقيين، أي من تعاليمهم، وانتصر للمستضعفين كالسّامريين والفقراء والعصاة الّذين جرّهم الواقع إلى ذلك.

من هنا اعتبرت المسيحيّة ديانة فردانيّة أي تعمّق الجانب الفردي، وترفع من روحيته ومحبّته واستقلاليته، إلا أنّها أيضا بمرور الزّمن غلب عليها قبل وبعد مجمع نيقيّة 325هـ الصّراع الميتافيزيقي واللّاهوتي مع الآريوسيّة ثمّ النّسطوريّة، والّتي تمثلت الثّانية في عقلانيّة أنطاكيّة، لتتشكل بعدها غنوصيّة الأسكندريّة، وهلنستيّة القسطنطينيّة وروما، ليدخل المسيحيون بعد مجمع خلقيدونيّة 451م في صراع لاهوتي بين الكنيستين الشّرقيّة والغربيّة، ويبدأ التّشكل النّفعي الجمعي في الكنيسة، حتى أتى مارتن لوثر [ت 1546م] وجان كالفن [ت 1564م] في القرن السّادس عشر الميلادي، ويعيدا إحياء النّزعة الفرديّة من خلال المذهب البروتستانتي الجديد.

ويرى عامر شطارة أنّ “لمارتن لوثر والبروتستانتيّة بشكل عام الأثر الواضح فيه [حيث] انتقل فيما بعد إلى عالم السّياسة والمجتمع الأوروبي عبر فلسفة العقد الاجتماعي الّتي أكدت أولويّة الفرد في المجتمع، وحماية حقوقه السّياسيّة والاجتماعيّة ضدّ أي هيمنة خارجيّة”.

لهذا ندرك أنّه من خلال نظريّة العقد الاجتماعي لا يوجد تضاد بين الهوّيّة والفردانيّة، كما أنّ النّزعة الفردانيّة لا يعني إهمال الهوّيات، فالفردانيّة ذاتها هوّيّة جزئيّة من حيث الذّات، كليّة من حيث محوريّة الهوّيّات ككل، فالهوّيّات تقوم على صناعة الذّات الإنسانيّة، ولا يمكن تحقق هذه الصّناعة بدون استقلاليّة الهوّيّة الفرديّة، وهذا ما يعبر عنه حيدر حبّ الله [معاصر] بثنائيّة الاجتماع والفرد، أو ثنائيّة الهوّيتين: الفرديّة والاجتماعوسياسيّة.

كما أنّه من خلال نظريّة العقد الاجتماعي يرى عبد الجبار الرّفاعي [معاصر] في كتابه الدّين والاغتراب الميتافيزيقي أنّه لا “دولة مدنيّة من دون ديمقراطيّة، ولا ديمقراطيّة من دون رؤية فلسفيّة للإنسان والعالم، تبتني على مركزيّة الإنسان، وما ينبثق عنها من تكريس للفرديّة، وللحريات والحقوق”.

بهذا الفردانيّة تدور بين كونها ماهيّة من حيث الذّاتيّة وأصل الأنسنة، وبين كونها هوّيّة تكوينيّة من حيث ما تملكه من قدرات عقليّة وجسمانيّة فطريّة تساهم بها في عمارة الأرض، وخدمة المجتمع البشريّ، وأيضا من حيث كونها هوّيّة كسبيّة من التّرقي في صناعة الذّات، وهذا يترتب عليه الانخراط في الهوّيّات الكسبيّة باسم المجموع، لهذا إذا كانت هوّيّات المجموع تعوق الهوّيّة الفردانيّة من الإبداع والنّتاج، أو لا تحقق لها كرامتها الإنسانيّة، أو تساهم في إماتتها وتجهيلها واستغلالها لأجل سلطات منتفعة؛ هذا بدوره ينقل الهوّيّة بشكلها العام إلى الجانب السّلبيّ الانتمائي المصلحي الضّيق، من الجانب  الإيجابي البنائي الإحيائي الواسع، لهذا كانت فلسفة الفردانيّة لحفظ هذه الهوّيّات، وجعلها في السّياق البنائي بما يخدم العقد الاجتماعي على مستوى المواطنة في الدّولة القطريّة، أو على مستوى حقوق الإنسان في عالم المجتمع البشري ككل.

السابق
العقل السّياسي الدّيني الإسلامي وما بعد الإمامة والخلافة
التالي
الهّوّيّة والرّؤية الوجوديّة
– تنويه:

عدد من الصور المستخدمة للمقالات مأخوذة من محرك google

اترك تعليقاً